الفصل الأول: تركيا في ضوء تاريخ الإصلاح وإشكالاته

المبحث الأول: إشكالية الإصلاح في العالم الإسلامي

توطئة

قضية الإصلاح في العالم الإسلامي، وخاصة في المناطق التي كانت تحت نفوذ الدولة العثمانية، بما في ذلك الدولة العثمانية نفسها قبل سقوطها، قضية تكاد تكون واحدة، نظرا لتشابه معطياتها التاريخية وتشابه مكوناتها الاجتماعية والثقافية وتماثل نمط التفكير فيها، وتقارب عقليات الناس فيها. إذ من الخطإ تجزيء قضية الإصلاح والنهضة والانبعاث، والنظر إليها على أنها قضية جزر وأقطار منفصلة عن بعضها البعض، ليس بينها ما تشترك فيه وما تلتقي عنده، بل النظر إليها من زاوية ضيقة كالزاوية القطرية أو القومية.

كان الخطر الأكبر الذي واجهته الدولة العثمانية والعالم العربي في العصور الحديثة هو خطر حقن الوعي الجمعي بداء الاعتقاد بأن لكل منطقة إشكالاتها الوجودية الخاصة، وبأن لا وجود لإشكال جذري عام. في حين لا يصلح حال الكل والمجموع دون اعتبار قضية الإصلاح قضية واحدة تقوم على أسس واحدة، وعلى أساس كونها بوتقة واحدة يستحيل فصل عناصرها بعضها عن بعض. ولذلك فإن ما قد يعاب على أغلب مفكري الإصلاح هو تفكيرهم في قضية الإصلاح برؤية تجزيئية ضيقة تراعي القطرية والقومية والمذهبية. لقد عاش مفكرو الإصلاح الدولة القطرية ذهنيا قبل اكتمال معالمها واقعيا. بعبارة أخرى لقد كان تفكير النخب في النصف الثاني من القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر متجها إلى تركيز الدولة القطرية دونما حاجة إلى الإفصاح عن ذلك. لقد عجز نخب الإصلاح برؤيتهم المفتقرة إلى رؤية استراتيجية شاملة عن إدراك البعد الكلي للمشهد الحضاري للعالم الإسلامي، بفعل التأثير الذي مارسه ضغط الواقع، وبفعل الآثار السلبية لاكتشاف التفوق الأوربي.

كان طرح أسئلة النهضة والانبعاث في مركز الدولة العثمانية متقدما زمنيا عن طرحها في العالم العربي. والمتتبع لتاريخ نقاش الإصلاح سيلاحظ بأن الدولة العثمانية رغم سعي بعض سلاطينها إلى إدخال بعض الإصلاحات في الحياة العامة، إلا أن تفكير الدولة ظل محصورا في إصلاح المحيط القريب، ولم ينل العالم العربي من أفكار الإصلاح شيء يذكر، بل لقد حاولت النزعة الانفصالية في العالم العربي إدخال بعض الإصلاحات بعيدا عن المركز وبعيدا عن مطامح الإنسان في مختلف المناطق التي كانت تشكل كيانا واحدا في ظل السلطنة العثمانية.

إن ما جناه المجتمع الإسلامي بظهور الفكر القومي وتجذر نزعاته الفكرية في أذهان النخب، كان أسوأ شيء واجهته هذه المجتمعات خلال مراحل إعادة موقعة الذات من المشهد الحضاري العالمي.. لقد كانت النخب تفتقر إلى نظرة شمولية تبصر بوساطتها مشاكل واقع العالم الإسلامي على أنها مشاكل عامة وليست مشاكل خاصة، الأمر الذي أضاع على النخب وعلى إنسان هذه المناطق بصفة عامة العديد من الفرص، وأضاع الكثير من الوقت والجهد. وهي الحالة التي استمرت مدة طويلة جدا سقطت فيها الدولة العثمانية، وتجزأ الكيان الواحد إلى أقطار صغيرة، وتجزأت بفعل ذلك الأحلام والآمال والطموحات.

مر على الإنسان في العالم العربي ردح من الزمن لم يكن يعرف فيه الشيء الكثير عما يجري في تركيا، بإرادة حينا وبغير إرادة أحيانا أخرى كثيرة. كما مر على الإنسان التركي كذلك ردح من الزمن لم يكن يعرف فيه شيئا عما كان يجري في العالم العربي. وكأن كل طرف جزيرة معزولة في مكان بعيد جدا. لقد أريد لهذا الإنسان أن يقتنع بأن لا شيء يوحد، وبأن المصير مختلف وكذلك المستقبل، وأنه من الصعب تصور تركيا بتاريخها، وماضيها المشترك مع العالم العربي على الخصوص أن تسير مع العالم العربي جنبا إلى جنب من أجل مصير واحد وأهداف واحدة، وعلة ذلك تبدو معروفة تحددها العوامل السياسية والتكامل الاقتصادي، وعوامل أخرى ليس هنا مجال تناولها.

إن أول ما ينبغي تصويبه هو النظرة السلبية التي تجذرت في ذهنية عدد من المثقفين العرب تجاه الدولة العثمانية ومن خلالها الأتراك، وهي نفسها النظرة السلبية التي تعمقت في ذهنية الإنسان التركي تجاه العالم العربي والإنسان العربي كذلك، وهي شعور القطيعة وانعدام القواسم المشتركة.. إن ما حدث بين الدولة العثمانية والعرب، وفيما بعد بين الأتراك والعرب هو نوع من التجسيد للمثل القائل "فرّق تسود"، ولذلك فالعمل على إعادة تصحيح نظرة كل طرف إلى الآخر يقود حتما إلى حصول التقارب وتوثيق الصلة ومد خيوط التواصل، لأن مقومات الوحدة والتكامل كثيرة، والمكونات التي توحد الإنسان قوية، تحتاج إلى أن تزرع فيها الحياة من جديد برؤية تراعي المصالح المشتركة وتراعي المصير الواحد.

في هذا الإطار ينبغي التنبيه على أن النخب العربية والنخب التركية ينتظرهما معا عمل كبير وجهد قوي يستهدف في المقام الأول تعريف كل طرفٍ بالطرف الآخر بما لديه من ثروة ثقافية وأسس اجتماعية وفكرية، وغيرها، ويتوجب على النخب الاقتراب مما عند الطرف الآخر من أجل الفهم والدراسة والتحليل، كما يتوجب عليها التواصل في دائرة المصير المشترك.

إن الغاية المركزية لهذه الدراسة هي محاولة تبين جوانب تبدو معالمها غائبة عن القارئ العربي بصفة عام وعن المهتم في المقام الأول. لأن التحولات الكبيرة، التي عرفتها تركيا خلال العقود الأخيرة بعد سنوات طويلة من العزلة والقطيعة مع العالم العربي، بفعل تحكّم الجيش والفكر السلطوي في الحياة السياسة والثقافية، تجعل من تركيا الحاضر مثار اهتمام الإنسان العربي بمختلف فئاته.

إن تحول تركيا في مدة وجيزة إلى دولة ذات أهمية يصعب تجاهلها، يؤثر إيجابا على صورة تركيا باعتبارها دولة ديمقراطية نامية تسجل اليوم معدلات متقدمة في مجال التنمية البشرية والإصلاح، الأمر الذي يسترعي انتباه النخب المثقفة ويدفعها دفعا إلى محاولة فهم أسباب هذا التحول السريع، الذي مهما ربط بالعامل السياسي والديمقراطي، يظل دون الأسباب الفعلية الكامنة خلفه.

الإنسان العربي مهتم اليوم أكثر من أي وقت مضى بصورة تركيا ويتطلع إلى الدور الحضاري، الذي يفترض أنها ستقوم به مع دول العالم العربي في الشرق على الخصوص وفي العالم على وجه العموم. فلا أحد اليوم يستطيع أن يخفي أن تركيا قد حققت قفزة جديرة بالاهتمام في مجالات النهضة والإصلاح والانبعاث، ومما لا شك فيه أن لهذا الصعود أسبابا وليس أسرارا. ولذلك فهي بالنسبة لفئة واسعة من النخب المثقفة العربية واقعا تتحقق فيه آمال الإصلاح، الذي ظل المثقف العربي يحلم به ويتطلع إليه منذ ما يزيد عن مائة وخمسين سنة، وإذا كان الأمير "شكيب أرسلان" قد طرح سؤاله المعروف "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، فإن سؤالا آخر ينبغي إثارته في الوقت الراهن، وهو "لماذا دخلت تركيا إلى دائرة الانبعاث من جديد، وأخذت تحقق التقدم المنشود؟ ولماذا ما تزال بعض أقطار العالم العربي تراوح مكانها، ولم تحقق حتى اليوم الحد الأدنى من شروط الانبعاث والنهضة والتقدم؟" ولهذا فإن الأهداف والمرامي التي تبرر القيام بمثل هذه الدراسة، تتلخص في الآتي:

•   محاولة لمس جانب من رؤية المجتمع التركي للكون والإنسان، ولا تدعي الدراسة استقصاء كل معالم هذه الرؤية، لأن هذا عمل هيئة تتخصص في هذا الباب، والمستقبل كفيل بتأكيد أهمية ذلك. لكن الهدف في هذا المقام هو السعي إلى الوقوف على أهم النماذج الفكرية المعاصرة في العالم التركي، والتي يبدو تأثيرها جلي الحضور محليا وعالميا.

•   تجاوز رصد الظواهر إلى تحديد أهم الروافد الفكرية التي تصوغ في الوقت الراهن الخصوصية الفكرية والمجتمعية لتركيا، لأن المتأمل في هذا الواقع لا يستطيع أن يتجاوز حقيقة كونه واقعا متنوعا ومتعددا، بل ومركبا في كثير من الأحيان؛ فالواقع التركي واقع علماني، وتبنّيه لها لم يكن اختيارا سهلا، بل تطلّب العديد من التضحيات والكثير من محاولات التكيف المجتمعي من أجل المحافظة على تماسك اللحمة التركية وحمايتها من الضياع. فرغم حملات التغريب التي قادها التيار العلماني لم يستطع محو روح المجتمع الإسلامية. وإذا لم يكن أحد ينكر أن التيارات الإسلامية قد لعبت دورا ما في الحفاظ على هذه الروح مشعلة في صلب المجتمع التركي، نظرا لما تميزت به هذه الحركات من خصوصيات لا توجد حتما في العديد من الحركات الإسلامية في العالم العربي على الخصوص، فإن تيارات أخرى قد حافظت على هذه الجذوة بدعوتها إلى تبني خيارات أخرى. وهي خصوصية تحتاج هي الأخرى إلى بحث متأن بالتركيز على بعض النماذج الأكثر حضورا، شريطة ألا يكون التركيز على النماذج التي تبدو اليوم حاضرة بقوة في المجتمع التركي في مجال السياسية. بل نتصور أن الحركات الإسلامية ذات الحضور المدني هي الأكثر تأثيرا والأكثر تجذرا في المجتمع من جهة كونها تلامس كافة فئات المجتمع، وكونها أكثر قربا من هموم المجتمع وأكثر انخراطا في تفعيل طاقة المجتمع الكامنة.

•   ترمي الدراسة كذلك إلى تبين مدى محافظة هذه الروافد على صفائها، وتبين مدى التحول، الذي حصل فيها، وإلى أي حد استطاعت شخصية الإنسان التركي التفاعل مع هذه الروافد وإعادة إنتاجها والتفاعل معها، وتبين أشكال هذا التفاعل وميادينه الأساسية.

أولا: تركيا في ضوء المعطيات العامة

1- أما قبل

بداية ينبغي التوقف عند التنوع، الذي يعرفه المجتمع التركي، فالقاعدة البشرية وكذلك القاعدة المدنية شرط لازم لدراسة التكوين الداخلي للمجتمع التركي الذي هو في الأصل: "عبارة عن تشكيلات انتقالية صراعية تشهد تناقضات وصراعات كثيرة من مستوى الفرد والبنية السيكولوجية ونظام القيم الفردي إلى الجماعة الأكبر مرورا بالتشكيلات بينهما، كما يشهد صراعات ومنافسات حركية بين هوياته ومناطقه وجهاته ولغاته وأعرافه ومذاهبه وقواه الاجتماعية والسياسية ومؤسساته وأجياله"[1]. فهذا التنوع يفرض على الدارس أخذه بعين الاعتبار، لأنه ليس وليد التاريخ الحديث، بل هو قديم، إذ يكفي أن يذكر كمثال على ذلك ما قام به "يهود الدونمة" من دور في إسقاط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة. ولهذا يتوجب أخذ هذا التنوع بعين الاعتبار لأنه أسس وضعا فكريا محددا، ينبغي على المهتم الانتباه إليه، ومراعاته في بناء المواقف وإصدار الأحكام، تجاه هذه الفئة أو تلك، خاصة إذا كان المثقف يؤمن بمشروع وطني، أو بمشروع تركيا قبل كل شيء. فمثقف هذه الرؤية، ملزم بأن يأخذ التنوع الاجتماعي والثقافي بعين الاعتبار، بل إن هذا الواقع سيحتل حيزا من تفكير المثقف، وسيحتل مجالا من منظومته الفكرية بصورة واضحة مباشرة، أو بصورة ضمنية، ويمكن تحديد عناصر هذا التنوع من خلال العناصر الآتية:

•   امتداد تركيا بين ثلاثة أقاليم متفجرة سياسيا، وغير مستقرة أمنيًا هي: الشرق الأوسط، والبلقان، وآسيا الوسطى/ جنوب القوقاز.

•   التصاق حدود تركيا التي يبلغ طولها 2648 كلم² بثماني دول هي:

- أرمينيا (وطول الحدود معها 268 كلم)

- أذربيجان (9 كلم)

- بلغاريا (240 كلم)

- جورجيا (252 كلم)

- اليونان (206 كلم)

- إيران (499 كلم)

- العراق (331 كلم)

- سوريا (822 كلم)

- الحدود الساحلية (فتمتد على طول 720 كلم).

ويبلغ مدى المياه الإقليمية 6 أميال، والبحر المتوسط 12 ميلا والبحر الأسود 12 ميلا.

فتركيا من هذا المنظور ذات موقع استراتيجي مهم جدا، وذات أهمية كبيرة بالنسبة للدول التي تحيط بها بالإضافة إلى كونها نقطة صلة مهمة بين المشرق العربي، وبين شرق أسيا وشمالها، بل يمكن القول إنها بوابة استراتيجية مهمة إلى وسط آسيا وخاصة أسيا الأتراكية.

الشاهد فيما تقدم هو أن تركيا ذات معطيات جغرافية وإستراتيجية مهمة جدا. وهذه الأهمية ليست وليدة العصر الحديث، بل هي معطيات قديمة جدا، وإذا كانت الدولة العثمانية قد تمكنت في وقت من الأوقات من التحكم في أغلب هذه المعطيات واستطاعت توسيع مجالها الحيوي في وقت من الأوقات، فإن ذلك قد كان عاملا مثيرا لحفيظة قوى أخرى لم تدخر جهدا من أجل إضعاف الدولة العثمانية والقضاء على نفوذها في المنطقة.

وبالإضافة إلى المعطيات السالفة هناك معطى آخر لا يمكن القفز عليه وهو معطى الثقافة العسكرية ودورها في حياة الأتراك بصفة عامة، فإلى اليوم ما تزال الحياة الجندية تستهوي الإنسان التركي، وهي منزلة موروثة عن الدولة العثمانية، التي كانت تعتمد على الجيش والجندية إلى أبعد حد، وقد ظل للجيش أهمية كبيرة حتى سقوط دولة الخلافة، واستمرت هذه الأهمية، بعد 1923م على وجه الخصوص. يقول عقيل سعيد محفوض في هذا الشأن: "ركزت الدراسات العثمانية على مقولة الأساس العسكري للدولة العثمانية منذ تشكلها القبلي وحتى انهيارها عام 1918م. وذهب فيروز أحمد إلى أن "الدولة العثمانية كانت مؤسسة عسكرية عظمى"، وكانت جيشا قبل أن تصبح دولة. وقد ورثت الجمهورية وضعا أساسيا للعسكر في التكوين الاجتماعي والدولتي وفي صنع السياسة العامة، كما ورثت مؤسسة عسكرية لديها إحساس قوي بالذات والهوية والدور، ولكنها ورثت مع كل ذلك هواجس ومخاوف أمنية ثقيلة"[2].

2- القاعدة السكانية

البناء السكاني التركي حيوي ونشيط وهو كتلة بشرية ضخمة ذات حركية بالإضافة إلى تنوع عرقي وديني يطبع البناء السكاني بالتنوع الفكري، والتعدد الرؤيوي، الأمر الذي ينعكس إيجابا على المجتمع التركي، الذي بلغ عدد سكانه حسب احصائيات 2004م 72,2 مليون نسمة، وسيرتفع هذا الرقم إلى 82,6 مليون نسمة سنة 2015 وبالرغم من شساعة المساحة الجغرافية للدولة فإن أغلب السكان يتركزون في ثلاثة مدن كبرى هي إسطنبول، وأنقرة العاصمة، وإزمير.. في الوقت الذي يبلغ فيه سكان الحواضر 66,8%، ويتميز السكان بتكوين عرقي وديني ولغوي متعدد، "وتشكل الكتلة السكانية الكبيرة تحديات مهمة على صعيد التنمية البشرية والاستقرار الاقتصادي والسياسي. وأدى ذلك إلى جملة تحولات وتغيرات بنيوية في المجتمع والسياسة العامة على حد سواء، ذلك أن الكتلة السكانية هي القوة الحيوية ورأس المال البشري للمجتمعات والدول، ولكنها تمثل تحديا كبيرا في الوقت نفسه، حيث إن متطلبات التنمية البشرية والاستقرار السياسي والاجتماعي تتزايد بصورة مستمرة"[3].

ومن هنا فإن المشتغلين بالفكر لا بد من أن يراعوا هذه المعطيات، وأن يأخذوها بعين الاعتبار، لأن التحدي الكبير الذي يفرض نفسه هو كيف يدمج كل هذا التنوع في إطار رؤية واحدة ومشروع وطني واحد يتطلع إلى الريادة الإقليمية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.

ومن جهة أخرى فإن انفتاح تركيا منذ القرن 16م و 17م على الغرب وثقافته، وسعيها منذ وقت مبكر إلى استيراد المعدات الصناعية والزراعية، وأساليب العيش والاتصال، قد أثر في نمط العيش وفي مدارك الناس، وأدى إلى نوع من التغيير في العلاقات الزراعية وأنماط العمل الزراعي. كما أثر في رؤى الأفراد ومطامحهم الذاتية والجماعية، حتى قد صار معه الريف نفسه مستجيبا لمعطيات التحديث والتجديد، فتزايد الإقبال على المدن، وهو ما أدى بالقوة إلى خلق بنية مجتمعية جديدة من أهم مظاهرها:

•   بروز تقسيم اجتماعي طبقي وظيفي داخل المدن، وانقسام المدن إلى أحياء قديمة وأخرى حديثة، وإلى مراكز سكنية محترمة، وأخرى هامشية وفقيرة ومهملة.

•   انخراط الريف والمدن الريفية في حركة سياسية نشيطة، تؤثر في البرامج السياسية للأحزاب والحركات المدنية والاجتماعية، ولها تأثير في أفكار الإصلاح ومشاريعه، بل حتى في المشاريع السياسية والاجتماعية وغيرها.

ومن النتائج المباشرة لهذه الوضعية ظهور فروق في مستويات وأشكال التنمية البشرية وأنماط الحركية السياسية والاجتماعية بين مختلف المناطق بين شمال البلاد وغربها، وبين الجنوب والشرق. فقد اكتشفت المناطق السياسية والجغرافية خصوصياتها تبعا لهذه المناطق.

أدت الأوضاع السالفة إلى ظهور مجموعة من الظواهر، تشترك فيها تركيا مع دول أخرى في طريق النمو، كبروز مدن عملاقة كإسطنبول، التي تعتبر المدينة الوحيدة في العالم التي تتوزع جغرافيا على قارتين، لتشكل بذلك نقطة تلتقي عندها آسيا وأوروبا، وهي المدينة التجارية والثقافية والسياحية الأولى في تركيا.. ويفرض وضعها هذا تركيز الحركات السياسية والفكرية والاجتماعية لمجهودها فيها بنسبة مهمة، فهي تستهلك الكثير من جهدها وعملها ومشاريعها، إذ تعتبر مدينة النجاح السياسي والاجتماعي بامتياز.

تعتبر مدينة إسطنبول مدينة ذات خصوصية كبيرة جدا فهي مدينة تاريخية قديمة وذات تقاليد ثقافية عريقة. وتتميز بتنوع نسيجها السكاني وتعدده، دينيا وعرقيا وثقافيا، فقد كانت منذ القديم مركزا استقطاب من كل الجهات وخاصة من الشرق الأسيوي والعربي وشمال إفريقيا زيادة على أن اهتمام أوربا بإسطنبول اهتمام خاص.

تأتي العاصمة "أنقرة" في الصف الثاني بعد إسطنبول، وهي مدينة حديثة تقع وسط البلاد.. أما "إزميـر"، وغيرها من المدن الأخرى فتأتي في المرتبة الثالثة باعتبارها مدنا كبيرة، ويعلق عقيل محفوض على هذا الوضع بالقول: ستكون "التداعيات السياسية لتضخم المدن أكثر تعقيدا مع مرور الوقت، ذلك أن زيادة التحضر لا تعني زيادة مواكبة في الحضرية، أي لا يرافقها تطور في أسلوب الحياة ونظام القيم ومعايير السلوك والتمدن، فمعظم سكان المدن في تركيا لا يزالون يتصرفون بنمط الحياة الريفية، فضلا عن تبّني أنماط عيش ليست مدينية ولا ريفية، وهو ما يصطلح على تسميته بـ"ترييف المدن" (Ruralisation) وهو ناتج عن عدم الاهتمام الكافي وربما العجز السياسي والإداري والمادي عن صهر المهاجرين ودمجهم فعليا في الحياة المدنية الحديثة. وهكذا فقد تركز المهاجرون إلى المدن في مناطق وأحياء "تخصهم" اتسمت بترتيبات وأنماط معيشية هي صورة معدلة نسبيا عن الأنماط التي تركوها"[4].

 

3- واقع يغري معرفيا

الشاهد في هذه الملاحظات العامة هو أن هذه الوضعية تفرض على المثقف أسلوبا خاصا في التحليل والدراسة والتأويل، كما تفرض أخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار في كل مشاريع الإصلاح. فإذا كان المثقف يعتبر نفسه جزءً من المجتمع، وأحد مخرجاته، فإن محاولة فهمه وتحليله يقدم مجالا خصبا لطرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة، بل وتوظيف ذلك كله في كثير من الأحيان. ولهذا فإن هذه الدراسة تتصور أن معالم هذه المعطيات ستكون حاضرة وبارزة في المشروع الإصلاحي الذي انخرط فيه المتميزون من مفكري الإصلاح، ودعاته.

ومن المعطيات التي يبرز تأثيرها على المجتمع وتمارس تأثيرا دقيقا ما على رؤى الإصلاح وتوجهات الحركات الإصلاحية وبرامجها هو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"الإثنية" أو ما يعرف بالتكوينات الاجتماعية وهو مفهوم متصل بالجماعات العرقية والجغرافية والجسمانية الطبيعية، والتي يعبر عنها عادة بـ"الإثنية" والمقصود بها الجماعات العرقية والقومية والجماعات الدينية والمذهبية والجماعات اللغوية. ولذلك فإن الحديث عن التكوينات الاجتماعية الإثنية في تركيا يفرض "الإشارة إلى مسالة مهمة في الدراسة الإثنية والسوسيولوجية، وهي أن تلك الدراسات تركز على البلدان والمجتمعات المركبة والمتعددة؛ أي التي توجد فيها أكثر من جماعة عرقية أو ثقافية أو دينية، وهذا يعني أنها لا تعتبر الألمان في ألمانيا جماعة إثنية، ولكنها تعتبر الألمان في أسيا الوسطى والقفقاس مثلا جماعة إثنية"[5].

وعلى العموم فإن تركيا ذات فسيفساء من جهة الانتماءات الإثنية، فهي تضم كما يرى المختصّون شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي والسلالي، ولهذا التعدد أصول تاريخية يشكل البحث فيها عملا مستقلا ليس هذا مجاله.

4- الجماعات الدينية

اللغة التركية والعرق التركي ليست مفردات منفصلة، بل هي شيء واحد يحتاج إلى الدراسة في إطار رؤية إثنية، لأن اللغة التركية والعرق التركي هم الأغلبية المسيطرة والطابع العام لتركيا، ولهذا لا ينظر إليها على أنها إثنيات أو قضية إثنية.. والأمر نفسه يقال بخصوص المذهب السنّي، إذ هو الطابع الأكثر انتشارا في أغلب مناطق تركيا. لكن التفاعلات الفرعية الناتجة عن الحقل الديني والحقل اللغوي والحقل العرقي هو ما يشكل موضوعا جديرا بالبحث، ويمكن رصد ذلك من خلال:

1- الطائفة العلَويّة: وهي مذهب ديني مرتبط بصورة ما بالإسلام، والمصطلح غطاء لعدد كبير من الجماعات الدينية، وهي تكون نسبة تصل إلى 10 % من مجموع الأتراك.. فمعظم "العلويين هم إثنيا ولغويا أتراك انحدروا من وسط وشرق الأناضول، وأطلقت عليهم عدة تسميات من قبيل القِزِلْبَاش والبَكْتَاشية والتَّهْتَاجِية، فضلا عن تسميات أخرى لها طابع إثني مثل الزّازا، ويشمل مسمى "العلوية" جماعات عدة متباينة مثل الأتراك والعرب والأكراد والتركمان واليورك والتهاجي"[6].

يعتبر العلويّون في نظر البعض جماعة أو إثنية أو طائفة منغلقة على ذاتها، وقد أيّدوا الحركة الكمالية، واعتبروا النظام العلماني فرصة لربط الصلة بينهم وبين البنية الاجتماعية والسياسية المحيطة بهم، لكن مع ذلك ظل النظام العلماني يمارس تميزا ضدّهم، الشيء الذي دفعهم إلى إعادة بناء هويتهم الخاصة في ضوء المفاهيم اليسارية والماركسية وغيرها، كما أن تنامي الأصولية الدينية جعلهم أكثر حرصا على الحفاظ على هويتهم وعلى إعادة صياغتها في ضوء المفاهيم المشار إليها سالفا. وبالمقابل فإن هذه الحقائق والخصائص تفرض على مشاريع الإصلاح وعلى الفكر الحركي أخذ كل ذلك بعين الاعتبار، خاصة وأن هذه الطائفة تشكل نسبة تكاد تساوي عشُر النسيج السكاني التركي.

2- الأرمــن: وهم جماعة إثنية وعرقية ولغوية ودينية وثقافية، كان عددهم في الدولة العثمانية حوالي 1,2 مليون نسمة سنة 1896م. ويشكل موضوع الأرمن اليوم ضغوطا كبيرة توظفها أوربا وكذلك أمريكا من أجل ابتزاز تركيا، لمنع انضمامها إلى الاتحاد الأوربي، أو على الأقل تأجيله ما أمكن.

ويقدر الخبراء عدد الأرمن في تركيا اليوم بحوالي 60 ألف نسمة، يتمركزون على الخصوص في إسطنبول، ويتوزعون بين كاتوليك وبروتستانت، لكن الأغلبية أرتودكسية، ويعترف بهم إثنية، ويعاني الأرمن في العمق من مشكلة محاولة التخلص من إرث الكراهية الذي يؤزم العلاقة بينهم وبين الأتراك. وتعتبر القضية الأرمنية من المشاكل الكبرى التي قد تطرح على تركيا مشكلات اجتماعية وسياسية فيما سيقبل من الأيام، ولذلك فإن مشاريع الحوار التركي لا تقلل من أهمية المشكل وتحاول أخذه بعين الاعتبار في مشاريعها الإصلاحية كذلك.

3- اليهـود: يتجاوز عددهم حاليا 26 ألف نسمة بقليل، وهم بهذا العدد جماعة دينية صغيرة العدد لكنها قوية التأثير منذ القديم، وخاصة منذ أن تلقّت تركيا موجة من المهاجرين اليهود من الأندلس منذ سنة 1492م، وقد لعبوا دورا كبيرا وواضحا في الحياة الاقتصادية والسياسية للدولة العثمانية، واحتلوا بعض المناصب الحساسة لما عرفوا به من حنكة ودهاء في مجال التدبير الاقتصادي والسياسي.

استفاد اليهود على طول تاريخ وجودهم في تركيا من روح التسامح التي عوملوا به؛ بل كانت تجربتهم في ظل الدولة العثمانية "هادئة وسليمة ومثمرة"[7]. وكما لعب اليهود دورا كبيرا في عدم استقرار الدولة العثمانية، كانوا أحد المساهمين بقوة في سقوط الدولة العثمانية، وذلك من خلال انخراطهم الفعال في "الاتحاد والترقي"، وبعد ذلك في "تأسيس الجمهورية من خلال عدد من المثقفين والمنظرين للدولة الجديدة وللقومية التركية والعلمانية"[8]. يؤكد المتابعون أن يهود تركيا فئة غير متجانسة إثنيا ولغويا، فالكثير منهم من "السفارديم" هاجروا إلى تركيا من إسبانيا ويتكلمون لهجة هي في الأصل اللهجة التي يتكلم بها اليهود في إسبانيا أو في الأندلس وتعرف بـ"اللادينو" (Ladino)، يضاف إلى هؤلاء "الاشكيناز" وهم يهود أوربا وهم قلة ويتكلمون "الياديش" وهي لغة أو لهجة مشتقة من الألمانية. وهناك اليهود "الكارتيش"، الذين يعتبرهم اليهود الآخرون مهرطقين، ويتكلمون اليونانية. لكن كل اليهود يتكلمون التركية، ونسبة من يعرفون العبرية حوالي 8% ويتمتعون بحقوق ممارستهم الدينية وتعليم العبرية في مدارس خاصة، ولا يوجد أي تضييق عليهم من الناحية السياسية والدينية كما كانوا في القديم. يتمتعون اليوم بنفوذ كبير داخل المؤسسة العسكرية، وهناك بعض المعلومات أن بعض جنيرالات الجيش هم من اليهود، وإن كان الجيش لا يعترف بالانتماء الديني، إذ يعتبر "الـلادِينيّة" أحد مبادئه الأساسية والمركزية. وتتميز الطائفة اليهودية بقدرة كبيرة على العمل في الخفاء، والتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة بحنكة كبيرة. وهم معروفون بكونهم حلقة وصل في العلاقات التركية الإسرائيلية والتركية الأمريكية.

4- اليونانيـون: تعرف الجماعة اليونانية بحضورها القوي على طول فترات مهمة من تاريخ البشرية، لكنها خضعت للسلطة العثمانية منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وقد تميزت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى حدوث معارك قوية أسيلت فيها دماء كثيرة بين الاتراك واليونان. وقد تميزت 1923م سنة إعلان قيام الجمهورية العلمانية بتبادل للسكان بين الأتراك واليونان؛ حيث تم تهجير ما يزيد عن 1,3 مليون من اليونانيين مقابل 500 ألف من الأتراك وهو الوضع الذي أفقد السلطة الجديدة عددا مهما جدا من المتعلمين وأصحاب الخبرات، ويقدّر عددهم اليوم بـ 35 ألف من سكان تركيا.

تضم إسطنبول مقر الكنيسة اليونانية وهي تمثل المرجعية المسيحية الأرتدكسية في أوربا والعالم، ويتحدث اليونانيون لهجات محلّية مختلفة بالإضافة إلى التركية، علمًا بأن فئة قليلة من اليونانيين تدين بالإسلام وهم لا يشاركون باقي اليونانيين وعيهم الإثني.

تلعب الذاكرة بين الأتراك واليونان دورا في إذكاء نعرة العداء ضد اليونانيين، الأمر الذي أدّى في الآونة الأخيرة إلى حملة هجرة بمعدل 30 عائلة كل سنة نحو أوربا.

5- السريـان: وهم السوريون المسيحيون، ويقطنون في المناطق المتاخمة للحدود السورية مع تركيا في مَارْدِين ونصيبِين ودِيَار بَكر، لكن أغلبهم هاجر إلى إسطنبول ومدن أخرى، ويبلغ عددهم 20 ألفًا، يتكلمون السريانية ولهجات أخرى مشتقّة من الآرامية السورية، لكن الذين هاجر منهم خارج تركيا وخاصة إلى ألمانيا والسويد فيصل إلى حوالي 45 ألفًا.

تكاد تكون هذه هي أهم الجماعات الدينية الفرعية المنتشرة في تركيا، وهي جماعات تطبع المجتمع التركي بنوع من التنوع.

5- التكوينات الإثنيـة

والمراد بهذه الإثنيات هو تلك الجماعات البشرية التي تشترك في الرابطة العرقية والثقافية أو القومية، كما تشترك في الوجدان العاطفي، وأهم الإثنيات المتواجدة على أرض تركيا هي:

1- الأكـراد: وهم شعب من أصول هندية وإيرانية، ويتوزع وجودهم بين عدة دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا وبنسبة قليلة في لبنان وأرمينيا وآسيا الوسطى. يعتبر الأكراد أهم جماعة إثنية في تركيا، ويقدر عددهم بحواليو 20% أي بنسبة تصل إلى 12 مليون أو 13 مليون نسمة، ويتركز وجودهم في 11 إقليما من جنوب شرق الأناضول.

إن تاريخ الأكراد في العصر الحديث مليء بالانتفاضات التي قادها زعماء محلّيون سفكت خلالها دماء كثيرة ومن أبرز انتفاضتهم انتفاضة الشيخ سعيد بيران سنة 1925م، وانتفاضة آغري عام بين عامي 1928م و 1930م، ودِيرْسِيم عام 1938م، لكن أبرزها حتى الآن هي انتفاضة حزب العمّال الكردستاني التي بدأت عام 1984م، وكانت تطالب بالاستقلال، ثم تحول إلى مطالبة بالحكم الذاتي.

وتعتبر القضية الكردية من أهم القضايا التي تقلق بال السياسيين والمثقفين على حد سواء، وتمارس أوربا ضغوطا كبيرة على الجهات الرسمية التركية من أجل الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للجماعات الإثنية، وخاصة حقوق الأكراد. وتبدو المسألة الكردية من أعقد القضايا التي تواجه تركيا في العصر الحديث، وهي إشكالية تفرض نفسها على رؤى مفكري الإصلاح، من خلال اقتراحهم لسبل تجاوزها ثقافيا وتربويا وفكريا.

2- الروم أو الغجـر: الدراسات الانتروبولوجية ترجح أصل الغجر في تركيا وفي أوربا والعالم من الهند، حين هاجرت جماعات بشرية من شمال الهند إلى مناطق مختلفة من العالم، ووصلوا إلى تركيا منذ القرن التاسع عشر، ويقدر عددهم في تركيا بحوالي 450 - 550 ألفًا.

3- يهود الدونمـة: الدونمـة، كلمة تركية تعني المتحول عن دينه إلى دين آخر، ويعني في إطار اصطلاحي اليهود الذين تحولوا إلى الإسلام رغبة أو رهبة في عام 1666م، وتتضمن عقيدتهم عناصر يهودية وإسلامية، لكنهم يعتبرون أنفسهم مسلمين ويُعترف بهم رسميًّا على أساس أنهم كذلك. يصل عددهم إلى حوالي 15 ألف نسمة، وتؤكد بعض المصادر أنهم أدّوا دورا خطيرا في إسقاط الخلافة.. يتمركزون خاصة في إسطنبول وأَدِرْنَة وإِزْمِير. وهناك اعتقاد سائد بـ"أنهم يهود حتى النخاع، لكنهم يتظاهرون بالإسلام".

انخرط أفراد هذه الفئة في "تركيا الفتاه" وفي "الاتحاد والترقي" ونشطوا فكريا في إصلاح الدولة العثمانية، ويشتغلون اليوم في دواليب الدولة ولهم وزن كبير في السياسة العامة، وحققوا نجاحات مهمة في المجال الاقتصادي والمالي. ومع ذلك "لم يشكلوا جزءا من الطبقة السياسية أو النخبة الاجتماعية لأن المسلمين واليهود لم يقبلوهم"[9].

4-العــرب: يتركز وجود العرب على وجه الخصوص في المناطق المتاخمة للحدود السورية في مناطق إسْكَنْدَرُون، ومارْدين، وإِسْعِرْد، ودِيَار بَكْر، وأغلبهم سنّة بالإضافة إلى العلويين، وبعض المسيحيّين الأرثوذكس. ويقدّر عدد العرب بحوالي 5 مليون نسمة.

أسالت قصة العرب مع الأتراك الكثير من الحبر منذ أواخر الدولة العثمانية، حتى صارت تخفي عداء في العمق، عمل أعداء الدولة العثمانية على إذكائه، وقد كان تنامي النزعة القومية لدى الأتراك وتوظيفها سياسيا منذ قيام الجمهورية سنة 1923م أن تجذرت تلك النظرة العدائية للعرب، الأمر الذي نتج عنه انغلاق المجتمع التركي ضد العرب وتغييبهم عن المشهد السياسي للجمهورية. لكن في العقود الأخيرة أدرك الأتراك أن العالم العربي هو بعدهم الاستراتيجي، الأمر الذي سيؤدّي في المستقبل إلى الاهتمام بالإثنية العربية في تركيا، في إطار ما يخدم المصالح التركية العربية المشتركة.

ثانيا: التنوع الثقافي وسؤال الإصلاح

توطئة

لقد تعمدنا التوسع في هذه المعطيات لأهمية ما تقدمه من معطيات عن طبيعة المجتمع التركي، وطبيعة التفاعلات المجتمعية المؤثرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في المشهد الفكري والثقافي. فمن الأكيد أن أفكار الإصلاح ومشاريعه لا تعرض إلا بالارتكاز على اقتناعات فكرية محددة وإن كانت تراعي حتما المشروع الوطني بالنسبة للبعض، لكنها قد تركز على مصالح فئة ضيقة هي مصالح الجماعة الدينية أو مصالح الجماعة الإثنية في إطار عقدي أو في إطار لغوي. ومشهد فكري هذه شخصيته وطبيعته يخفي صراعا فكريا لا تدرك معالمه إلا من خلال البحث بين السطور والتدقيق في الأبعاد الاجتماعية والثقافية والفكرية لمشاريع الإصلاح في مداها القريب والبعيد كذلك. ومن هنا كذلك فإن أكثر المشاريع استدعاء لاهتمام الباحث والمهتم هو تلك المشاريع التي تستطيع تجاوز كل المشكلات والعوائق، وتترفع عن الخوض مع الخائضين، مركزة على ما يخدم المشروع الوطني بغضّ النظر عن فئاته وإثنياته وجماعاته اللغوية والثقافية والسياسية والدينية وغيرها. وذلك بطرح رؤى تحتضن الجميع ولا تقصي أحدًا وتفتح ذراعيها للجميع في دائرة حوار بناء يخدم المصلحة العامة.

إن الوقوف على أهم التشكيلات البشرية والعقدية واللغوية، يتيح الوقوف على أهم التحولات، التي عرفها المجتمع التركي بعد سقوط الدولة العثمانية، وهي تحولات أدّت فيها السياسة دورًا مركزيًّا، الأمر الذي يجعلها جديرة بالدراسة والتحليل وخاصة التحولات الثقافية والفكرية، والتحولات المرتبطة بها.

لهذا فإن التعرض لأهم معالم الفكر الإصلاحي، ولأهم المقومات الحركية للفاعلين الأكثر حضورا في المجتمع التركي يفرض أولا التعرض لأهم المؤثرات التي أفرزت الواقع الذي تعرف به تركيا اليوم، لأن الحاضر ظِلّ للماضي، والأحداث التي عرفتها تركيا منذ ما يزيد عن مائة سنة قد أثرت بصورة مباشرة في الواقع في صورة تركيا اليوم، والجدير بالذكر أن هذه الأحداث منها ما يمكن اعتبار تأثيره أمرا طبيعيّا وعضويا فرضته طبيعة الأحداث نفسها وقابلية المجتمع للتفاعل مع ذلك. ومنها ما يمكن اعتبار تأثيره تأثيرا مصطنعا.

ومن هنا فإن مجموعة من الأسئلة تثار في هذا المقام، منها: ماذا خسرت تركيا بسقوط الخلافة العثمانية؟ وماذا كسبت؟ أو بالمقابل ماذا قدمت الكمالية لتركيا من عناصر إيجابية وماذا سلبتها؟ وهل هناك عناصر سلبية قدّمتها الجمهورية للواقع التركي؟ وإذا كانت الكمالية قد حجبت التحولات الأخرى التي عرفها المجتمع التركي، فما طبيعة المقومات الأخرى التي استطاعت المحافظة على شخصية المجتمع التركي دون صراع مع قيم الجمهورية والنظام العلماني؟

هذه أسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عن بعض المعطيات المرتبطة بها دون توسع لأنها ليست هي هدف هذه الدراسة. لكنها تضيء جوانب من هذه الدراسة.

1- صنع مجتمع جديـد

إن بناء مجتمع عملية طويلة ومضنية، وهي في كافة الأحوال ليست مسألة إرادية، أي إن بناء مجتمع والصبر على نموه بصورة طبيعية يحتاج إلى وقت طويل، إذ تحتاج عملية اكتمال الهيئة إلى وقت معقول لا يمكن لإرادة البشر أن تتدخل فيه بعملية قيصرية تفرض التحولات بالقوة، وتحدد الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع، لأن التدخل بهذه الصورة هو بمثابة فرض الأداة والنتيجة في الآن معا. أجل قد يُقبَل أمرُ فرض الوسيلة، لكن أن يتم تحديد النتيجة مسبقا والعمل على فرضها، فهذا مما تأباه السنن الكونية وترفضه وتمجه.

لقد سعى دعاة العلمانية و"الحداثة والتحديث" إلى صنع مجتمع جديد، وذلك قبيل انهيار الدولة العثمانية. فالمجتمع الجديد الحداثي الذي تاقت إليه النخب المثقفة في الدولة العثمانية وعملت من أجله، لم يكن ثمرة تحول اجتماعي عام تلمس معالمه في ذهنية مختلف فئات المجتمع، بل كان عبارة عن إرادة "قصدية مسبقة لصنع "أمـة" أو "قومية" وصولا إلى صنع مجتمع يقول عبد الرحمان الشهبندر في نص له يعود إلى عام 1934م: "أما وقد خطا الأتراك هذه الخطوات الواسعة في الميدان السياسي فلا عجب أن تتناول حربهم التجديدية الميادين الدينية والاجتماعية والتشريعية وما إلى ذلك من الأوضاع الأدبية، فالأساليب التي نجحت في الحرب وحققت للترك استقلالهم السياسي استهوتهم أيضا في هذه الميادين"[10].

يشير هذا النص -كما نصوص أخرى شبيهة- إلى أن قضية التغيير لم تكن حالة طبيعية فرضها التطور المنطقي للواقع الاجتماعي وإفرازا منطقيا لتحول حقيقي عبرت عنه طبقات واسعة من المجتمع التركي، بل كان مجرد وقائع أرادت فئة ما فرضها على المجتمع بالقوة.. يقول عقيل سعيد محفوظ: "ورثت تركيا الراهنة تكوينا مجتمعيا متعددا وفسيفساء مركبا، ومن الصعب القبول أو التسليم بادعاء الأتراك أن دولتهم هي تجل سياسي لـ"مجتمع" أو "أمة" أو "قومية" بإطلاق أو حسب المعاني المعرفية لمسميات مجتمع وأمة وقومية... وليس معنى ذلك أن الخروج من سلطة الدولة يعني تلاشي "النزاعات القومية" لدى التكوينات الاجتماعية في تركيا وإنما يعني أن التدخل السياسي هو الذي قسر تلك التكوينات على التشكل "مجتمعيا" وفق خطة سياسية تدعمها المؤسسة العسكرية والأيديولوجية القومية التركية"[11].

سعت الكمالية منذ قيامها إلى بناء مجتمع غير محدد الهوية، باستثناء الهوية التي أرادتها الكمالية، معتبرة ذلك شرطا مركزيا من أجل بناء دولة تستطيع الاستمرار في الوجود مع القدرة على الاندماج في المدنية الحديثة وفق نموذج يستلهم الحضارة الأوربية. وهذا الطموح كان يقتضي وجود نخب سياسية وثقافية وفكرية وعسكرية تؤمن بالمشروع وبضرورة فرضه بالقوة أو تزويده "بقوة إكراه واعتباره مهمة جوهرية لا تنفصم عن بنية الدولة"[12]. ويرى البعض في هذا المشروع أنه "مشروع إكراهي"[13]، فقد استعملت الكمالية كل الأساليب المتاحة لها بما في ذلك التخلص من الإثنيات التي يصعب إدماجها كالأرمن، واليونان. وذهبت إلى استبدال المسلمين بالمسيحيين اليونانيين مع دولة اليونان، والنتيجة أن أغلب التكوينات صارت تؤمن بأن الدولة التركية والكمالية هي الحل، الذي يحل المشاكل أو بالأحرى يؤجلها. لكن السؤال العالق هو هل نجحت الكمالية في خلق هذا الجو المجتمعي، وهل نجحت في ترسيخه؟

لقد كان هذا الاختيار نتيجة منطقية لما استوردته الكمالية عن مفهوم المجتمع من الغرب وهو ما أدى إلى تشكيل مجتمع هجين، أو شبه مجتمع، يتميز بوجود فارق كبير بين الواقع المجتمعي الذي توصل الكماليون إلى صنعه، والمجتمع المثال الذي كانوا يحلمون به.[14] وعلة ذلك هي أن هذا المشروع لم يستطع رغم كل المحاولات النفاذ إلى صلب الرأسمال المعنوي الذي تشكل عبر صيرورة تاريخية طويلة تعتبر الحضارة العثمانية وما مثلته طرفا واحدا فيه ليس غير، لأن ما عجزت الكمالية عنه هو أنها لم تستطع أن تكون "نظاما عقديا أو أيديولوجيا واضحة.[15] بمعنى أنها كانت مجرد صيحات تريد تحقيق نتيجة عاجلة دون أن تكون النتائج مؤسسة على مرام فكرية وثقافية دقيقة، ولهذا السبب فقد كان إلزاما على المعارضين للغزو الفكري والثقافي الغربي، والمعارضين للداعين إلى طمس كل معالم الهوية التركية، والرافضين للتحديث وفق النمط الذي شكلت معالمه القوى المعادية للدولة العثمانية باعتبارها عنصرا موحدا لراية المسلمين... كان لزاما على هذه القوى أن تنعزل لبعض الوقت لتعمل في هدوء على إعادة بناء ما تم تهديمه خلال عقود طويلة جدا، لقد أدرك المعارضون لهذا الغزو أن ما تعرض له المجتمع التركي هو أخطر من محاولة التصدي له بردود أفعال متسرعة، ولذلك رأى بعض أهل الحكمة ضرورة العمل على إعادة بناء ما تهدم في الإنسان في هدوء.

2- اليوم ظل الأمس

وما ستحاول هذه الدراسة تَبيُّنَه في الصفحات اللاحقة هو في الحقيقة رصد لأهم الوقائع والأحداث التي كان المجتمع التركي عرضة لها قبل أن تقوم الكمالية بالإطباق على المجتمع ومحاصرتِه والعمل على فرض مشروعها بالقوة والتسلط.. من خلال الإجابة عن أسئلة حول أحداث صَنعتْ تركيا الحديثة بكل تناقضاتها وبكل ما تحمله من عناصر سلبية وعناصر إيجابية.

إن اليوم ظل للأمس، فكيف بدأت الحملة التي أدّت إلى قيام الطوفان الكبير، الذي أسقط الخلافة ثم أقام الجمهورية. ولماذا سقطت الدولة العثمانية؟

يفسر بعض الدارسين العرب قضية سقوط الدولة العثمانية من خلال أفكار ابن خلدون (توفي 1406م بالقاهرة) ونظريته في الاجتماع؛ وذلك منذ أن انتبه العرب إلى أهمية أفكاره في بدايات القرن التاسع عشر. فرفاعة الطهطاوي الذي أقام في باريس بين 1826م و 1831م اكتشف أهمية ابن خلدون، ولذلك عندما عين مشرفا على "مدرسة الألسن" نصح بنشر "المقدمة"، ليتم ذلك في سنة 1857م. وعلى الرغم من أن العرب قد أعادوا التعرف على ابن خلدون خلال هذه المرحلة فإن الأتراك العثمانيين كانوا أحاطوه بعناية خاصة منذ وقت مبكر جدا مقارنة بالعرب، واستفادوا كثيرا من دروس "المقدمة". فقد فتح التعرفُ على أفكارها البابَ لظهور العديد من الأفكار الإصلاحية، كما ارتكزت بعض الدعوات على هذه الأفكار. فقد نبه حاجي خليفة أو كاتِب جلَبي (المولود سنة 1607م والتوفي سنة 1657م) في كتابه المعروف "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" إلى أهمية كتاب ابن خلدون: "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر من أيام العرب والعجم والبربر لقاضي القضاة عبد الرحمان بن محمد ابن خلدون الإشبيلي الحضرمي المتوفى سنة 808 هـ. وهو على مقدمة وثلاثة كتب...". فعناية حاجي خليفة بابن خلدون لم تقف عند حد التعريف بالكتاب كما هو منهج كتابه "كشف الظنون" بل سيحاول الإفادة منه وذلك بتوجيه رسالة إلى "محمد الرابع" عنوانها "دستور العمل لإصلاح الخلل"، وكانت هذه الرسالة جوابا على السؤال الذي وجّهه السلطان لمعاونيه للبحث عن أسباب الخلل المالي الذي أصبحت تعاني منه الدولة. يقول حاجي خليفة: "إن الدولة مثل الأفراد تمر بثلاث مراحل: النمو، والركود، ثم الانحطاط"[16].. ويمضي مبيّنا أن الدولة العثمانية قد عاشت طويلا وبأن مرحلة الركود قد مضت بهدوء وبأن مراحل المرحلة الثالثة قد ظهرت ملامحها، لذلك يلزم إصلاح الخلل قبل فوات الأوان، يقول حاجي خليفة شارحا وجهة نظره: "ومن علامات الشيخوخة عند الرجل، الكسل وسوء الهضم، وكذلك هو شأن الدول.. وكما أن المرء عندما يشيخ يصبح أبيض الشعر، ففي مرحلة انحطاط الدول يزداد الترف والأبهة وتنتشر الألقاب في كل مكان، ويزداد تشبه الناس في ملابسهم وأثاث بيوتهم بالعامل فيزداد الإسراف"[17].

يبرز هذا الكلام الصادر عن أحد أهم مثقفي الدولة العثمانية في بداية القرن السابع عشر أن خاصة المجتمع كانت تدرك أن خللا قد أصاب الدولة وأنه بات من الضروري البحث عن أسباب لذلك من أجل تدارك الحال، كما يبين النص كذلك أن السلاطين أنفسهم كانوا يحملون هم الإصلاح ويدفعون في هذا الاتجاه. ومن هنا نلاحظ بأن حاجي خليفة يستعير مفاهيم ابن خلدون عن نشوء الدول وقوتها ثم انحطاطها، موظّفا ذلك كله من أجل المساهمة في الإجابة عن أسئلة المرحلة.

يذكر خالد زيادة في مقاله جملة من العلماء والمفكرين المنتمين للقرن السابع عشر والثامن عشر الذين استفادوا من فكر ابن خلدون، وخاصة فيما يتعلق بنشوء الأمم والدول وانحطاطها، وهو ما يؤكد بأن خاصة المجتمع كانت تعي الواقع، الذي انحدرت إليه الدولة العثمانية، وكانت تحاول بكل جهد البحث عن أجوبة مقنعة للأزمة الوجودية التي وصل إليها الإنسان في ظل الدولة العثمانية خلال هذه المرحلة، ومن هؤلاء العلماء يذكر: أحمد بن لطف الله المعروف بمنجم باشا (توفي سنة 1706م)، ومصطفى نعيمة وهو مؤرخ عثماني مشهور (1655م - 1716م)، وتميز بعمله على إعادة صياغة نظرية ابن خلدون عن حتمية تدهور الدولة بالإشارة إلى أن الدولة العثمانية تستطيع الخروج من انحطاطها أو الخروج من الطور الخامس، فتمنع التدهور النهائي من خلال وجود ساسة أذكياء محنكين، من "عاقلي الذات" الذين يعملون وفق "سنة الله" لمنع انحطاط الدولة ووقفه.

تُرجِم كتابُ ابن خلدون إلى اللغة العثمانية منذ مطلع القرن الثامن عشر وهو ما أتاح للأتراك الذين لا يعرفون العربية الاطلاع على أفكار ابن خلدون، وتوظيفها في دعواتهم الإصلاحية وربما حتى الترويج لفكرة حتمية نهاية الدولة العثمانية. وقد تزامن ترجمة "المقدمة" مع الاعتراف الصريح للسلطة الحاكمة أحمد الثالث (1705-1730م) بتدهور الدولة وضرورة العمل على إصلاح عسكريتها. وفي القرن التاسع عشر صارت أفكار ابن خلدون عن طريقة الترجمة معروفة لدى عدد من المفكرين والمؤرخين الأتراك كخَير الله أفندي (متوفي 1865م) الذي أكّد في كتابه التاريخي الكبير (32 جزءا) أن مواجهة الانحطاط يجب أن تكون بغير الاعتماد على سلالة مالكة.[18]

الشاهد فيما تقدم هو أن الشعور بأن الدولة العثمانية القوية لم تعد كما كانت وبأن مرحلة الانحدار قد ظهرت بوادرها، كان شعورا عاما وإحساس عدد كبير من المثقفين بتعبير هذا العصر، والعلماء بالتعبير السائد آنئذ. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فحتى السلاطين لاحظوا هذه الوضعية، ومنهم من دعا صراحة إلى ضرورة البحث في تحديد أسباب العلة ومكامنها، ولم تكن هذه الوضعية لتمرّ دون أن يلمس علماء الدولة العثمانية وأهل السلطان والسياسة أن خصما قريبا جغرافيا يقف على الحدود، وبأنه يترقب، وأن بوادر تفوقه بدأت تلوح وصارت ظاهرة للعيان، ولا يمكن القفز على ذلك.

3- صدمة اكتشاف تفوق أوروبا المسيحية

متى اكتشف العثمانيون تفوق أوربا المسيحية على المسلمين؟ سؤال مهم جدا لأن جوابه صادم، فلقد اكتشفت المسلمون بصفة عامة والدولة العثمانية على وجه الخصوص بما في ذلك السلاطين وأهل الحل والعقد هذا التفوق منذ وقت مبكر جدا. فكما أشرنا في كلام سالف فقد كتب حاجي خليفة سنة 1653م رسالة يشرح فيها أسباب تدهور الدولة أطلق عليها عنوان "دستور العمل لإصلاح الخلل" وهي رسالة جوابية على طلب السلطان محمد الرابع بالبحث في أسباب الاختلال المالي والاقتصادي الذي باتت تعاني منه الدولة.

لعل أهم ما ساهم في تدهور الدولة العثمانية ودخولها في الطور الثالث حسب نظرية ابن خلدون، هو أمر تدخل الانكشارية التي كانت -ولوقت طويل- أحد دعائم القوة في الدولة العثمانية في شؤون الحكم، وانحرافها عن المرامي التي أنشئت من أجلها وهي الدفاع عن حدود الوطن، وهذا هو ما يُستَشفّ من بعض المصادر، التي تعرضت لعلاقة العسكر وخاصة الانكشارية بأهل السياسة وفي مقدمتهم السلاطين. وكمثال على ذلك نجد "قُوجِي مصطفى بك" -وهو ألباني جاء إلى القسطنطينية في سن مبكرة وعاش في القصر السلطاني في حقبة كانت الدولة ما تزال قوية- يوجه رسالة في هذا الموضوع إلى السلطان مراد الرابع. فقد عاصر قوجي بك هذا مرحلة تاريخية عُرِفت بتسلط الانكشارية وعجز السلطان عن إطلاق إرادته في الداخل والخارج. يقول خالد زيادة: "..الحادث الهام الذي شهدته القسطنيطينية في تلك الحقبة هو صراع السلطان الفتى عثمان الثاني مع الانكشارية ومقتله. ولد عثمان في سنة صعود والده إلى العرش في عام 1603م، وبعد وفاة أحمد الأول عام 1617م تولى السلطنة شقيقه مصطفى، لكن عثمان الثاني المؤيد من شيخ الإسلام استفاد من ضعف عمه فخلعه وصعد إلى العرش في العام التالي 1618م، لكن السلطان الشاب الذي أراد أن يحكم بشكل مستقل فقد تأييد الانكشارية وتأييد العلماء وعطف العامة عليه، وقد تطورت الأحداث وازداد الجفاء بينه وبين زعماء الانكشارية حتى أدّت تنظيماته إلى ثورة قادها آغا الانكشارية انتهت بمقتله عام 1622م"[19]. لكن معالم التدهور كانت آخذة في الظهور، لأن أول رصد لمعالم تدهور الإدارة كان في عهد السلطان سليمان القانوني (1520م-1566م) من خلال رسالة كتبها وزير سابق اسمه "لطفي باشا" وعنوانها "أصاف نامة"، يرصد فيها بعض معالم الأزمة ويقترح فيها على السلطان بعض الحلول.

بعد هذه الأحداث الأليمة تولى مراد الرابع شقيق عثمان القتيل منصب السلطان وكان سنه لا يتجاوز الحادية عشرة، واستمرت الانكشارية في التلاعب والتحكم في أمور السلطنة، وإحداث الشغب والتدخل في شؤون الحكم حتى اشتد عود مراد الرابع فاتخذ جملة تنظيمات بمساعدة أعوان شقيقه جعلت الكفة تميل لمصلحته، إذ بدأ خلال سنة 1632م يعبئ كل الطاقات بفاعلية لا تصدق من أجل الحرب ضد فارس.[20]

هذه هي أسباب نزول رسالة قوجي بك، الذي أصبح يعتبر خلال هذه المرحلة مستشارا، بل ومربّيا لمراد الرابع كما يقول خالد زيادة، وقد رفعت له هذه الرسالة الأثر سنة 1630م، وانتبه إلى أهميتها بعد مرور حوالي مائة سنة من كتابتها، وكانت أول لغة أجنبية تترجم إليها هي اللغة الفرنسية، وكان ذلك سنة 1750م وترجمها بوتي دولاكروا "PETIS DE LA CROIX" وترجمت إلى العربية سنة 1826م تحت عنوان: "التلخيصات المتعلقة بتدبير أمور سلطنة الدولة العلية العثمانية" وطبعت لأول مرة في إسطنبول سنة 1861م، وتتميز الرسالة بسرد وقائع توحي حينا بالإيجابية، لكنها تخفي الإشارة إلى أن السائد على الوضع السياسي والاجتماعي هو عكس ذلك، ولا يتأخر قوجي بك عن إسداء النصح واقتراح ما يراه مناسبا لسلامة الدولة، ولعل أهم ما يقترحه هو أن تكون للسلطنة الكلمة الأولى والأخيرة وألا تفتح الباب لمن لا تسمح له التقاليد السلطانية بأن يتدخل في شؤون تدبير الدولة وخاصة الجيش. وتشير الرسالة إلى عدم السماح للغجر واليهود وغيرهم من الذين لا إيمان ولا دين لهم ولا شريعة بالدخول إلى القصر. ويعلق خالد زيادة على ذلك بقوله: "وتتلخص أفكار قوجي بك في تفسيره لأسباب الانحطاط على الوجه التالي: غياب السلطان عن رقابة "الحكومة" وتسليمه لأفراد حاشيته المناصب والمغانم، وعدم إخلاص الوزراء وتفضيلهم مصالحَهم على مصالح الدولة. والتخريب الذي لحق بالإقطاعات العسكرية... وقد كانت من قبل تمد الدولة بالمال والقوة المقاتلة، وأخيرا الفساد الذي لحق برجال الدين والجهاز التعليمي"[21].

إن أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الكلام أو من كلام "قوجي بك" هو إشارته إلى عدم بقاء المؤسسة السلطانية على التقاليد التي تمكنها من الإشراف المباشر على شؤون الدولة، وفتحها المجال أمام من لا تحركهم سوى المصالح الخاصة للتدخل في شؤون الدولة، بالإضافة إلى فتح المجال أمام غير المخلصين والمؤمنين والمعروفين تاريخيا بسوء طويتهم كالغجر واليهود من دخول القصر والتعرف على دواليبه والتحكم فيها. وتبدو هذه الملاحظة الأخيرة ذات أهمية كبيرة لأنها ستساهم بصورة مباشرة فيما بعد في سقوط الدولة وذهاب الخلافة وتشتيت الدولة العثمانية.

الشاهد فيما تقدم هو أن تنبيه المفكرين والمثقفين إلى ما كانت تعيشه الدولة العثمانية من بوادر الانحطاط، كان بدأ في وقت مبكّر جدا، وصاحب هذا التنبيه دعوات إصلاحية كثيرة توجهت على وجه الخصوص إلى أعلى سلطة في البلاد، وهي السلاطين، لكنها لم تبرح مكانها لظروف كثيرة ليس هذا مجال تتبعها.

لقد ارتبطت هذه التنبيهات والدعوات ببروز موضوع التعرف على التفوق الأوربي، لأن العثمانيين أدركوا التفوق الأوربي بحكم موقعهم المميز وكونهم أقرب الدول التي تدين بدين الإسلام إلى أوربا. ولما كانوا أول من أدرك التفوق الأوربي، فقد كانوا أول من حاول الاقتراب منه. في الوقت الذي تعتقد فيه فئات واسعة من المجتمع العربي أن العالم العرب وخاصة مصر أدركوا التفوق الأوربي قبل المركز في الدولة العثمانية، وأن سعي العالم العربي إلى الاستفادة من هذا التفوق كان أسبق زمنيا.

إن التنبيهات التي قدمها كل مِن قوجي بك، وحاجي خليفة، وحسين هزارْفَن (ولد 1601م - توفي 1681م) كان في سنة 1669م من خلال كتابه "تلخيص البيان في قوانين آل عثمان"[22] تؤكد أن النخبة العارفة في المجتمع العثماني كانت على وعي بأن وضع السلطنة لم يكن على ما يرام، وكانت تحلم بإصلاح الوضع قبل فوات الأوان. وتأكد ذلك مع هزيمة الدولة وجيشها الانكشاري سنة 1699م في حربها أمام الروس والنّمسا وفقدانها للكثير من الأراضي، وهي الهزيمة التي أكّدت للطبقة الحاكمة أن التفوق الأوربي أمر واقع، كما أكّدت أن تلك التنبيهات التي تقدم بها المثقف التركي على مدى القرن السابع عشر كانت تنبيهات في محلها وكان يتوجب أخذها بعين الاعتبار.

4- عهد الزنبق (عهر التوليب)

كان السلطان أحمد الثالث ذا طبيعة خاصة، ميّالة إلى السلم، كانت شخصيته تخفي رغبة طماحة إلى إعادة بناء الدولة العثمانية على أسس سليمة تتجاوز الانحطاط، وكانت طبيعة الاختيار تقتضي مرحلة سلم تبعد المتربصين بالبلد وبالمسلمين على حد سواء، وقد تأتّى له ذلك عندما اهتدى إلى وزير يشاطره الرؤية نفسها وهو المصلح إبراهيم دَامَادْ باشا، وكان ذلك في سنة 1717م.. إذ كانت لهما رغبة كبيرة في معرفة أوربا من الداخل فأرسل السلطان سفيره محمد أفندي إلى أوربا عام 1720م، وإلى باريس تحديدا. ومن أهم منجزات عصر التوليب أو الزنبق هذا هو تمكن المسلمين من استعمال الطباعة إذ طبعت بها بعض الكتب.[23]

كانت المطبعة دخلت إلى الدولة العثمانية قبل هذا العصر بوقت طويل، وكان اليهود أول من أدخلها حين سمح لهم السلطان باستعمالها في طبع كتبهم الدينية، وكان دخول المطبعة بصورة واسعة في سنة 1727م، وعهد لإدارتها لإبراهيم متفرّقة. ويعتبر كتاب "أصول الحكم في نظام الأمم" المطبوع سنة 1731م لمؤلفه إبراهيم متفرّقة -وكان أهداه للسلطان محمود (1730م - 1750م)- أول محاولة للتنظير للأخذ عن أوربا والاستفادة من علومها وتقدمها.[24] والظاهر أن هذا الكتاب كان ألف في الفترة التي وقعت فيه الثورة على أحمد الثالث وعزله ثم عين محمود مكانه. يقول إبراهيم متفرّقة في مقدمة الكتاب: "وهكذا انسحبتُ إلى زاوية، وفي ظلام الوحدة استسلمت لأفكاري وتذوّقت بسلام راحة النفس ونعيم الحياة الخاصة حتى قامت عام 1143هـ - 1730م شمس سلطان البيت العثماني فوجدت ذهني قد توقف وامتلأ بالأفكار، كما امتلأ القلب بالألم لرؤية هذه العدوانية على امتداد تلك السنة والكوارث التي أحاطت فجأة بالدولة العثمانية"[25]. والسلطان المقصود هنا هو محمود الأول (1730م-1754م) الذي وصل إلى العرش بعد ثورة الانكشارية التي أطاحت بالسلطان أحمد، وقتلت وزيره إبراهيم، بسبب ميوله الإصلاحية، واتجاهه إلى تحديث الدولة.

ومن أهم ما تتميز به مقدمة متفرقة تلك الإشارة الواضحة إلى التفوق الأوربي، يقول: "ما دفعني إلى عملي هذا والذي فوق طاقتي، وأبعد من حدود عقلي هو هذا الشعب المسيحي النجس (يقصد الأوربيين)، بمقارنته مع المسلمين إذ كان منخفضا جدا عن المسلمين في العدد وطبيعة جسمه وعقله، وهو جنس بائس. لكن منذ بضعة سنين انتشروا في كافة أرجاء العالم فلم يسيطروا على بعض المقاطعات فحسب، بل ظهروا عدة مرات منتصرين على الجيش العثماني"[26]. فهذا النص واضح الإشارة إلى تفوق العنصر الأوربي، وفيه دليل على تراجع المسلمين عن دورهم الريادي. ويعلق خالد زيادة على محاولة متفرّقة بالقول: "وكتاب متفرّقة يتضمن أفكارا تجعله أكثر من محاولة لاستعراض علوم أوربا وتقدمها، بل هو محاولة للابتعاد عن الصيغ التقليدية للتفكير العثماني السائد والاقتراب من التفكير الأوربي حول مسائل الدولة والحكم والعلوم... ويدعو إبراهيم إلى ترجيح العقل في تناول مسائل الحكم؛ ويمكننا تلمس أثر عقلانية الغرب في تفكيره من خلال دعوته التي تستقطب فكرة الكتاب الرئيسية وهي الفصل بين دين الأعداء، الذي لم يكن من محبذيه على الإطلاق، وبين ضرورة الاستفادة من علومهم... ويمكن القول بأن كتاب "أصول الحكم في نظام الأمم" هو أول محاولة نظرية من نوعها تطرح مسألة الاستفادة من علوم أوربا العسكرية والإدارية واتباع طرائقها في الحكم والإدارة"[27].

وعلى العموم، فإن موضوع التعرف على التفوق الأوربي، وما سجله الرحالة والسفراء، وما سجله أدب الرحلة جدير بالاهتمام وهو من المواضيع التي تحتاج إلى الدراسة، مما نرجو أن يوفقنا الله للقيام به في المستقبل، في إطار دراسة أخرى.

إن موضوع دخول الدولة في مرحلة الانحطاط وسقوطها موضوع شائك ويحتاج إلى العديد من بحوث، ولكن مما لا بد من التعرض له هو ذلك الانقلاب الفكري وعملية التغريب التي كان الصرح العثماني مسرحا لها. ولعل من أهم المواضيع التي تثير الاهتمام في هذا المجال هو صعود التيار القومي وتيار التغريب، وتعجيله بتفكيك الدولة العثمانية، ومساهمته في سقوط الخلافة.

5- التيـارات القومـية

أ- التيار القومي العربي

يعتبر الشام هو المكان الطبيعي لتطور التيار القومي العربي الذي عمل الغرب المسيحي على دعمه، وإذكاء ناره وتوظيفه في بذْر بذور الفرقة والعداء بين العرب والأتراك العثمانيين. ولذلك تم التركيز على "العرب المسيحيين" من أجل تدبير هذا المخطط من خلال اللعب على وتر المشترك المسيحي بين أوروبا والعرب المسحيين في المشرق العربي وخاصة في الشام (سوريا والعراق حاليا).. بعبارة أخرى لقد "كانت الرابطة الإسلامية تغلب على العلاقات بين عرب الشام المسلمين وبين العثمانيين، بينما لا يجد النصارى في بلاد الشام أية روابط وصلات تربطهم بالعثمانيين، فكانوا والحالة هذه التربةَ الخصبة التي نبتت فيها الأفكار والجمعيات المعادية للدولة العثمانية، والتي استخدمت لتنخر جسد هذه الدولة وتسعى لإسقاطها"[28].

ويرى بعض المثقفين أن ظهور التيارات القومية وخاصة تيار القومية العربية، الذي ظهر في بلاد الشام على وجه الخصوص كان ظاهرة إيجابية ساهمت في نشر الوعي وعوامل اليقظة والنهضة[29]. لكنها في الحقيقة لم تكن سوى عامل من عوامل التعجيل بسقوط الخلافة والتعجيل بدخول الاستعمار إلى أغلب دول العالم العربي، بل إن القومية العربية كانت وسيلة "لهدم ما كان بني وأسّس على قواعد ثابتة من التفاهم والعمل المشترك، الذي كان عنوان العلاقات العربية العثمانية خلال قرون سلفت، وكيف تكون عوامل نهضة ولم تأت بأي تقدم تكنولوجي أو مادي للبلاد العربية، بل جاءت بأفكار ومبادئ هدامة مخربة، سعى المبشرون الفرنسيون تحت راية الصليبية العالمية، وبرعاية الدول الرائدة في استعمار الشعوب كفرنسا وبريطانيا التي بثها ونشرها بين سكان بلاد الشام، كي تؤتي ثمارها وتزرع الفرقة والتباغض والتنافر بينهم وبين العثمانيين"[30].

ومن العوامل التي ساعدت على بلورة هذا الاتجاه الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، وما كان لها من آثار في مصر وبلاد الشام ثم باقي مناطق العالم العربي. يضاف إلى ذلك الإرساليات التبشيرية، التي أخذت تفد إلى المنطقة العربية وخاصة إلى بلاد الشام منذ القرن الرابع عشر الميلادي في صورة موجات، زيادة على تأسيس المدارس والكليات والجامعات العلمية، ثم دعم الجمعيات العلمية والأدبية وتأسيسها كـ"جمعية الآداب والفنون"، و"الجمعية الشرقية"، و"جمعية شمس البر"، و"جمعية زهر الآداب" و"جمعية المقاصد الخيرية"، و"الجمعية العلمية السورية" و"جمعية بيروت السورية"، التي تعد أول عمل منظم في حركة القومية العربية، وأسسها نخبة من الشباب اللبنانيين ممن تلقوا تعليمهم في الكلية الأمريكية البروتستانية في بيروت، وكانت تسير على خطى "جمعية العثمانيين الجدد" (يَنِي عُثْمَانْلِيلَرْ) التي كانت تدعو إلى قطع العلاقة بين العرب والعثمانيين، ثم "جمعية النهضة العربية"، وآخر ما أسس من الجمعيات الداعية إلى الانفصال مباشرة "جمعية رابطة الوطن العربي" التي أنشأها نجيب عازوري سنة 1904م الذي كان يوجه أفكاره من فرنسا التي كان لجأ إليها. ثم أسس خير الله "جمعية عصبة الوطن العربي" سنة 1905م، وسارت على مسار الجمعيات السابقة في الدعوة والتحريض ضد الدولة العثمانية. ويضاف إلى كل هذه العوامل التي ساهمت في انتشار الفكرة القومية العربية ضد الدولة العثمانية انتشار الطباعة والصحافة، والمعروف تاريخيا أن المسيحيين كانوا أول من وظف هاتين الوسيلتين في بلاد الشام على الخصوص في نشر الأفكار والتعبير عن مواقفهم. وإذا كان دافع دخول المطبعة إلى الشام دينيًّا يتمثل في طباعة الكتاب المقدس فإن هذا الهدف ما لبث أن تحول إلى دعم الصحافة القومية الانفصالية.[31]

ب- التيار الطُّوراني

لم يكن هذا التيار المتنامي، والتخطيط المحكم الذي مارسه أعداء الدولة العثمانية والجامعة الإسلامية ليحصر نشاطه في الشام، بل كان يعي ضرورة أن يذكي نار القومية ونزعتها في مركز الدولة العثمانية نفسها بدءً من الآستانة وامتدادا إلى مناطق أخرى في الأناضول والبلقان وغيرها من المناطق، وكان السلاح الأقوى في ذلك كله هو "الطورانية".

تعود نشأة حركة العثمانيين الجدد (يَنِي عُثْمَانْلِيلَر) إلى منتصف القرن التاسع عشر، وكان ذلك بعد بداية حركة التنظيمات، والتي انطلقت في عهد السلطان عبد المجيد عام 1839م، وكان اسم الجمعية التي تحتضنهم "ترقّي واتّحاد" ثم حولوها إلى "اتّحاد وترقّي"[32]، وتمكّنوا في وقت وجيز من الوصول إلى المناصب العليا، واحتلالها ليدخلوا في صراع مع السلطة الحاكمة، وكانوا قبل ذلك قد أقاموا في العواصم الأوربية الكبرى كجنيف وباريس ولندن، وكتبوا العديد من المقالات المشهرة بالعثمانيين وبالسلاطين، والمنتقدة للدولة ولأوضاعها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وطالبوا السلطان بالسير بالدولة في طريق الإصلاح لمواكبة النظم السياسية في أوربا، بعد احتكاكهم بالغرب واطلاعهم على تراثه الفكري وتأثرهم بأفكاره. وكان أفراد هذا التيار قد انخرطوا في سلك "الحركة الماسونية العالمية" المسمّاة "البناء الحرّ" التي ظهرت في أراضي الدولة العثمانية منذ 1738م، وحاربها السلاطين العثمانيون، بتشريع القوانين التي تحظر على العثمانيين الانخراط في الجمعيات السرية، لما رأوا ما تشكّله الماسونية على الدولة العثمانية وعلى الأمة الإسلامية من خطر.[33]

تلقى أغلب الذين تزعموا التيار القومي التركي تعليمهم في المدارس والكليات التبشيرية، التي أنشئت قبل ذلك في أهم المدن العثمانية، ككلّية "رُوبَرت" في إسطنبول، وثانوية "غلَطَه سَرَاي" وغيرهما.

كانت أغلب الجمعيات في بداية إنشائها حركات ذات أهداف إصلاحية تريد النهوض بالدولة العثمانية والخروج بها من الانحطاط، لكن يبدوا أن هذا الغرض المعلن كان مجرد ستار لكسب الوقت من أجل الدعاية وتجميع المؤيّدين والأنصار، ولتجنب رد الفعل لدى عامة الناس في أرجاء الدولة العثمانية. وقد كانت هذه الجمعيات تظهر أن مبادئ الحركة لا تتعارض مع الإسلام ومع القيم الإسلامية، حتى لا يجدوا مقاومة ومعارضة فيقضى عليهم وهم في البداية. ولا يدل هذا على أن السلاطين العثمانيين كانوا يجهلون مخططاتهم، بل كانوا يعلمون ذلك وكانوا يحاولون مداراتهم والحيلولة دون تمكّنهم من تنفيذ غرضهم بإعلان الجمهورية وإسقاط الخلافة، وقد أدى بعض السلاطين العثمانيين حياتهم ثمنًا لذلك.

ويذكر السلطان عبد الحميد في مذكّراته ما يشير إلى مخططات الإصلاحيين هؤلاء، يقول: "كنت أعلم أن كمال بك وضياء بك ورشدي باشا وآخرين من رفاقهم يجتمعون كل مساء في قصر مدْحت باشا يعاقرون الخمر ويتحدثون، وذات مرة قال مدحت باشا: "ليس في الأسرة المالكة العثمانية خير يرجى، ولم يبق إلا الاتجاه نحو الجمهور، تُرى كيف يمكن هذا؟..."[34]. ومن يقرأ مذكّرات السلطان عبد الحميد بإنعام لا بد من أن يقف على مستوى دقة المخطط الذي كانت الماسونية تقوم به وتعمل على تنفيذه.

لقد "استطاع السلطان عبد الحميد بمتابعته وحرصه أن يقدم الدليل القطعي على أن هدف الماسونية العثمانيين هو إسقاط الخلافة وإقامة نظام علماني يستبق الإسلام عن الدولة العثمانية ويعلنها جمهورية يتولي الحكم فيها هؤلاء المنتسبون إلى "تركيا الفتاة" من الأحرار الماسونيين العثمانيين الجدد"[35]. كانت النزعة القومية هي الوسيلة التي لجأ إليها هؤلاء من أجل تفتيت أطراف الدولة العثمانية، وخاصة النزعة الطورانية والنزعة العربية، لكن حنكة السلطان عبد الحميد الثاني أجّلت مخططات الجمهوريين ومخططات الإنجليز والفرنسيين لسنوات عديدة. وعموما فإن جمعيتي "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" وقبلهما "العثمانيون الجدد"، قد أدّت دورا خطيرا في إسقاط الخلافة، والتحول بتركيا إلى عالم آخر هو عالم التغريب وعالم الجمهورية العلمانية. ولا يمكن القول إن هذه النتيجة كانت عمل يوم وليلة، بل على العكس من ذلك إنه نتيجة غزو فكري طويل نفّذه أعداء الدولة العثمانية في الداخل والخارج، وما سنحاول تبينه فيما يأتي من الصفحات هو الوقوف على طبيعة الغزو الثقافي والفكري، الذي كان المجتمع التركي عرضة له منذ القرن السابع عشر وربما قبله، وإن كان السلطان عبد الحميد قد وقف سدا منيعا أمام تطور النزعات القومية واستغلالها للإيقاع بين العرب والأتراك، كما يشهد بذلك الذين أرّخوا للمرحلة.

 

المبحث الثاني: الغزو الثقافي الممنهج

أولا: تمزيق الرابطة الإسلامية

توطئة

لقد كانت الدولة عبر جميع أطرافها عرضة لغزو فكري ممنهج، سيساهم بصورة مباشرة في إسقاط الخلافة وتشتيت أطراف الدولة بعد تمزيق الرابطة المعنوية الإسلامية، التي كانت تجمع بين مختلف أطراف الدولة. وقد تكاتفت العديد من العوامل في تسريع السقوط، لكن المتأمل في هذه العوامل يلمس أن أكبر خطر واجهته الدولة العثمانية هو الغزو الثقافي والفكري، الذي لم يترك مجالا من المجالات إلا ودخله، بما في ذلك الوسط العائلي والأسري للسلطة الحاكمة، وما قد يؤسف له هو أن هذا الغزو قد تم في بعض الأوقات بأيدي أبناء الوطن، لقد سلم القائمون على الأمر وأهل الحل والعقد مستقبل الأمة كله لأعدائهم في غفلة منهم، ظنا منهم أنهم يحسنون لأنفسهم ولأوطانهم.

ومن أهم العوامل التي ساهمت في تعرض الدولة العثمانية للغزو الفكري والثقافي الأوربي نذكر على سبيل التمثيل:

1- الموقع الجيوسياسي

تركيا تتمتع بموقع إستراتيجي مهمّ، فهي تقع عند نقطة اتصال إستراتيجية بين آسيا وأوربا، وتعتبر إسطنبول في هذا الإطار مدينة متميّزة الموقع. ولذلك شكل فتحها حدثا تاريخيا أمد الدولة العثمانية بالقوة وسمح لها في الوقت نفسه بأن تطيل أمد الدولة لفترة زمنية طويلة. كما مكّن فتح القسطنطينية العثمانيين من فرض سيادتهم على البحر الأسود والتحكم فيه، وقد جعل هذا الموقع الدولة العثمانية محطّ اهتمام أوروبا، وخاصة الدول التي كانت تعيش مرحلة النهضة والتقدم. ولذلك فقد عمل هذا الغرب الباحث عن متنفس جغرافي وسياسي على تمرير أنماط فكرية محددة تمهيدا للانقضاض على تركة "الرجل المريض".

وفي الإطار نفسه ينبغي ألا نتجاهل أن أوروبا ظلّت دائما تعتبر تركيا عمقا إستراتيجيا بالنظر إلى ما كانت تشكله القسطنطينية من أهمية تاريخية ورمزية. الأمر الذي يحتم عدم سيادة نمط فكري وثقافي مختلف عن فكر وثقافة أوروبا، التي تأسست بعد نجاح الثورة الفرنسية في تركيز مبادئها، وانتقال بريق تلك المبادئ إلى مختلف مناطق أوروبا.

2- تطور تاريخ أوربا الحديث وصدى الثورة الفرنسية

ومن أهم الأحداث التي ميزت تاريخ أوربا وما تزال، انتصار مبادئ الثورة الفرنسية، التي أوجدت مبادئ العلمانية والقومية والحركة الدستورية. لقد كانت العلمانية من "نتائج الصراع الذي نشب بين البابوية والأباطرة أيهما أعلى، البابا أو الإمبراطور؟ فانتهى هذا الصراع بعد قرنيين من الزمان بهزيمة البابوية وظهور العلمانية، وإصدار الدساتير لبيان حدود الحاكم والمحكوم، يعني ذلك تحلل أوربا من الإقطاع الذي خيّم على أوربا خلال العصور الوسطى، وإيجاد الدولة الحديثة المنظمة، لاستحالة العودة إلى النظام الإقطاعي"[36].

إن العلمانية -كما آمن بها المجتمع الأوربي- هي اعتبار أمر الحياة شيئا يخص النشاط الإنساني بمعزل عن الدين، وعن أي مبدأ روحي آخر. فالعلمانية بهذا المنطق تعنى بالزمنية والدنيوية، لقد وقفت الأنظمة السياسية التي تأسست في أوربا بعد نجاح الثورة الفرنسية من الدين موقف المحايد دون أن تكون معه أو ضده،[37] لكن التفسير السائد في أغلب الأدبيات العربية لا يخرج عن إطار رفض العلمانية للدين، وهو ما حاول الخصوم وبعض المحسوبين على العالم الإسلامي أن يؤسسوا عليه رؤيتهم الداعية إلى إعلان القطيعة بين الدين والعلم. ومن الأكيد أن هذا المفهوم هو الذي ساد خلال مرحلة الجمهورية وقيام الثورة الكمالية.

لقد عرفت أوربا منذ 1848م سنة نجاح الثورة الفرنسية حملة دستورية واسعة، وحركة قوية للحصول على أنظمة دستورية تثور على الأنظمة الاستبدادية. كان من الطبيعي أن تتسرب بعض هذه الأفكار إلى داخل الدولة العثمانية بسبب إيمان بعض السلاطين أنفسهم بمبادئ الثورة الفرنسية، وكانت المناطق الأوربية التابعة للسلطة العثمانية هي أول المناطق تأثرا بمبادئ الثورة الفرنسية، الأمر الذي ولّد لديها رغبة في التحرر والاستقلال والخروج عن سلطة الدولة العثمانية.

يرى بعض الباحثين في التاريخ[38] أن نجاح الأفكار الفرنسية في الدولة العثمانية وفي العالم العربي وانتشارها يرجع إلى القوة المادية للغرب اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. وهو ما لمسه العثمانيون أنفسهم حقيقته، الشيء الذي دفع عددا من السلاطين إلى العمل على تحديث الدولة وخاصة في مجال الاقتصاد والجيش.

3- أطماع أوربا في العالم الإسلامي

تُبرز كل العناصر السالفة الذكر مدى إصرار أوربا على بسْط يدها على ممتلكات الدولة العثمانية. وقد بدأ هذا الإحساس والتوجه يتقوى بعد الحملة الفرنسية على مصر مباشرة؛ فبعد الحملة تطلعت الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى روسيا والنمسا إلى تركة الدولة العثمانية باصطناع الأزمات الداخلية وإذكاء نار الفتنة، وخاصة في المناطق الأوربية لتشجيع النزعات الانفصالية، وشغل السلطة العثمانية، وتشتيت تركيزها.. ساهمت العوامل السالفة وغيرها في ازدياد أطماع الدول الأوربية في إضعاف الدولة العثمانية تمهيدا لإسقاطها، والحصول على كل مناطق النفوذ التابعة لها نظرا لما كانت تزخر به هذه المناطق من ثروات يسيل لها لعاب القوى الصاعدة في أوروبا، كانت هذه المطامع تحتاج إلى مخططات مدروسة، وإلى زرع بذور الفرقة داخل الجسم العثماني، ومن أجل الوصول إلى تنفيذ المطامع كان الغزو الفكري والثقافي سبيلا من سبل بث الفتنة داخل المجتمع العثماني.

وَحّدتْ كل من روسيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا رغم ما بينهم من عداء جهودَهم من أجل القضاء على الدولة العثمانية. كانت سياسة بطرس الأكبر بعد وصوله إلى العرش هي فتح آفاق جديدة في بحر البلطيق وفي البحر الأسود، وسارت كترين الثانية على هذا النهج كما سار إسكندر الأول. كان حلم كاترين الثانية هو تحقق اليوم الذي تسير فيه إلى القسطنطينية من أجل اعتلاء عرش بيزنطة، بل كانت تعدّ حقيبتها لذلك حين مقابلتها للإمبراطور جوزيف الثاني ملك النمسا في كرسون (Kherson) حيث أقيم احتفال بهذه المناسبة، ومر الاثنان من تحت قوسٍ كُتِبَ عليه "هذا الطريق إلى بيزنتيوم" وهو اللقاء الذي تم فيه تقسيم أملاك الدولة العثمانية في أوربا بحيث يتكون من تساليا ومقدونيا وتراقيا والقسطنطينية إمبراطورية يونانية. وللوصول إلى الهدف فقد اتبعت كاترين ما أسماه بعض المؤرّخين بـ"الميكافيلية المسكوفية" المرتكزة على إثارة الحروب الأهلية والاضطرابات في أملاك الدولة وخلق فرص للتدخل الأجنبي، ثم مقاومة أي حركة إصلاحية عثمانية قد تؤدّي إلى القضاء على هدفها.[39]

4- أنشطة المنظمات الماسونية السرøية

تمكّن اليهود من التغلغل في المجتمع العثماني، والتحكم في الاقتصاد والمال والسياسة، بعد مدة من طردهم من الأندلس في سنة 1683م. وبغضّ النظر عن تاريخ تأسيس أول محفل ماسوني في تركيا فإن الماسونية قد أدّت دورا فعالا في نشر مقدمات الغزو الفكري والثقافي، إلى درجة أن الصدر الأعظم إبراهيم باشا قد رأى في وقت لاحق أن الماسونية تجديد للفكر والآراء وطلب من عدد من العلماء والمثقفين الانتساب إليها.[40] وتاريخ اليهود الذين تظاهروا بالإسلام من أتباع ساباتاي أو يهود الدونمة حافل بالأحداث التي تؤكد اشتغالهم على تخريب الدولة العثمانية؛ فقد شنوا هجوما على أجهزتها المختلفة وشلوا حركتها بإثقالها بالديون ثم التحكم في سياستها وفرض مراقبين غربيّين بدعوى حماية ديونهم، لكن الغرض الحقيقي كان هو التجسس على الدولة وتوجيه دفة السياسية.

هذه أهم العوامل التي سهّلت الغزو الفكري والثقافي الذي تعرضت له الدولة العثمانية، ومن خلالها باقي أطراف الدولة، وخاصة العرَبية منها على الخصوص. ولا مبالغة إذا قيل بأن سبب سقوط الدولة العثمانية كان فكريًّا بالدرجة الأولى وفي المرحلة الأولى، بمعنى أن الدولة العثمانية كانت سقطت ثقافيًّا وفكريًّا -مهّد لسقوط رمزيتها التاريخية والدينية- قبل أن تسقط اقتصاديًّا وعسكريًّا.

إن الدولة ممثلة في أكبر مؤسسة فيها وهي السلطنة كانت تعي ضرورة الإصلاح وتعي أن دواليب الدولة قد دب إليها الهرم والفساد ولزم إصلاحها، لكن التيار الثقافي والفكري كان أقوى ولم يفقه الناس آنئذ إلى المثل القائل "وداوني بالتي كانت هي الداء".

ثانيا: مظاهر الغزو الثقافي

توطئة

وسنحاول فيما يأتي الوقوف عند أهم مظاهر الغزو الثقافي والفكري الذي كانت الدولة العثمانية عرضة له قبل حوالي مائة سنة قبل سقوط الخلافة لتستمر مظاهره بصرامة على يد أهل البيت أنفسهم بدءً من سنة تاريخ إعلان الجمهورية (1923م) وإلغاء الخلافة (1924م).

1- السلاطين العثمانيون وقضايا التحديث

لقد تصور بعض السلاطين أن الإصلاح عملية تقنية هدفها الجيش ومظاهر الحياة العامة، ويتجلى ذلك في:

أ-الاستغـراب

أشرنا في الصفحات السالفة إلى مظاهر الخلل التي بدأت تتسرب إلى عمق الدولة العثمانية، بالإضافة إلى ما صارت الدول الأوربية تقوم به من إذكاء لمظاهر الفرقة والفتنة لإضعاف الدولة وإضعاف السلطة الحاكمة، وهو الوضع الذي جعل بعض السلاطين يقتنعون بإيحاء من بعض عملاء الدول الأوربية بأن هناك خللا يتوجب إصلاحه، فتوجه السلاطين إلى اقتباس النظم العسكرية الأوربية. ويبدو أن السبب المباشر الذي أدى إلى التفكير في الجيش هو الاعتقاد بأن جيش الانكشارية لم يعد يساير العصر ولم يعد يقوم بدوره المركزي بالنسبة للدولة العثمانية، بالإضافة إلى النفوذ الكبير الذي أصبح هؤلاء يتمتّعون به إلى درجة أنهم طغوا وأصبحوا يهدّدون أمْن الدولة واستقرارها. وتميّزت جهود الإصلاح هذه بثلاث ميزات منذ أوائل القرن الثامن عشر الميلادي.

•   الميزة الأولى: هي ميزة الاستلهام الكلي للنموذج الفرنسي، ومن خلاله استلهام النموذج الأوربي الذي أصبح حديث المنتديات ونموذجا مثاليا يجب الاقتداء به.

•   الميزة الثانية: هي التركيز على الرفع من المستوى التقني للجيش وإعادة إعداده وبنائه على النمط الأوربي.

•   الميزة الثالثة: تبرير أسباب الإصلاح تفاديا للصدام بين دعاة الإصلاح والمعارضين له.[41]

لقد ساهمت كل هذه العناصر وغيرها في إثارة جو من الفرقة بين مختلف فئات المجتمع، وبدأ أثر ذلك يظهر عندما عارضت الإنكشارية هذه الإصلاحات وأيّدهم بعض العلماء المتعصّبين ممن اعتبروا بناء الجيش على النظام الأوربي كفرا، لارتداء البنطلون (السراويل) بدل "الشّالْوار" إلى غير ذلك من المظاهر التي كان بعض العلماء يعتبرونها مظاهر كفر ومظاهر خروج عن الدين دون سعيهم إلى تبين الأسباب الحقيقية الكامنة خلف حالة التدهور التي وصلها واقع العسكر والسياسة والمجتمع والفكر والثقافة خلال هذه الفترة في الدولة العثمانية. "وفي الواقع إن التغيير كان في البداية في مجال التجهيزات للجيش وتنظيمه وتدريبه، ولم يكن هناك أي تفكير أو تدخل في الأمور السياسية مثل التعليم أو الصناعة أو الزراعة، بل إن حركة الاستغراب الحقيقية في عهد السلطان تركزت على المجال العسكري فقط، لإعادة تنظيم فيالق الجيش المختلفة، وتزويد بعضها بأسلحة جديدة. وقد اهتم السلطان كثيرا بالمدارس الفنية العسكرية، وعمليات الترجمة لبناء الوحدات العسكرية، المشاة والمدفعية، وخصص المهندسين لبناء السفن، وصناعة المدافع لمواجهة تسلط الإنكشارية على مؤسسات الدولة وفشلهم في خوض الحروب أمام القوى الأوربية"[42]. فالسلطان ومن والاه وبعض فئات المجتمع لم يدركوا أن الإصلاحات التي عرفتها أوربا كانت وليدة حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأن لأوروبا خصوصية ليست هي خصوصية الدولة العثمانية.

الفكر الغربي دخل إلى صلب الدولة العثمانية دخولا غير سليم، فقد تسرب دون أن تكون الشروط الفكرية متوفرة وشروط الحصانة متأتية، الشيء الذي سيؤدي بالدولة إلى الدخول في متاهة ستنتهي بإسقاط الخلافة.

ب-عصر التنظيمات

المقصود هنا هو تلك الإصلاحات التي أدخلت على نظام الحكم، ومؤسسات الدولة الإدارية والسياسية. وهي تستند إلى مرسومين سلطانيين صدر الأول في سنة 1839م والمعروف بـ"منشور كُلْخَانَة"؛ وصدر الثاني سنة 1856م وعرف بـ"مرسوم الإصلاحات".. وقد أضفى المرسومان على حركة الإصلاح والتغريب صبغة رسمية، وبدأت الدولة تستلهم الروح الغربية في الحياة وفي الفكر والتقنية والسياسة والإدارة، وتنكّرت لأصولها الحضارية وللشريعة الإسلامية التي كانت لزمن طويل سبب قوة الدولة العثمانية. وإذا كان السلطان عبد المجيد هو الذي وضع قطار التغريب على السكة، فإنه في الحقيقة كان خاضعا لتأثير وزيره مصطفى رشيد باشا الذي وجد في الغرب مثله الأعلى، وفي الماسونية فلسفته المثالية، وهو الذي أعدّ الجيل اللاحق له في أهم الوزارات وأعد رجال الدولة، وهو الذي ساهم بصورة قوية في دفع عجلة التغريب.[43]

ولا مجانبة للصواب إذا قيل إن الغرب هو الذي أدار عمليه التغريب هذه، إذ جعلها سيفا ذا حدّين: الحد الأول هو حد محمد علي باشا، إذ إن الإصلاحات التي قام بها في الجيش، جعلته يبدو في صورة قوية إلى درجة التفوق على جيش المركز.. وأما الحد الثاني فهو حد تسريب الإصلاح بنسب لا تتيح تفوق الجيش العثماني، وهنا وظف الحد الأول وهو جيش محمد علي لضرب محاولات بناء جيش عصري في الدولة المركزية.

كانت الدولة العثمانية لقرون رمز وحدة أغلب المناطق الإسلامية، لكنها ستقع منذ أواخر القرن السادس عشر وطيلة القرن السابع عشر فريسة النزاعات الداخلية، والأطماع الخارجية. وقد أدّى هذا الوضع المتدهور إلى فتح الباب واسعا أمام الغزو الفكري والثقافي، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى قطع الصلة مع الأصول التي صنعت ولقرون عديدة قوة الدولة العثمانية لتدخل تركيا إلى ساحة العلمانية. يقول ياسر أحمد حسن معلّقا على ما نبع مع "التنظيمات" من تحول في بنية الواقع الاجتماعي والفكري لتركيا والأناضول: "من الآن فصاعدا ستشهد السلطنة انفتاحا هو الأكبر في تاريخها على الغرب الأوربي، الذي كان يعيش في ذلك الوقت حالة صعود الفكرة القومية؛ وإذ تبدو السلطنة مَعنيّة بهذه الفكرة، بحكم كونها متعددة القوميات والأديان والمذاهب وبحكم التحدي الصادر عن بعض منها في وجه إسطنبول، فإن مقترحها السلطوي المتمثل في فرمان التنظيمات لن يقدم حلولا ناجحة تضع حدا لانهيارها، بل ستمضي السلطنة من أزمة إلى أخرى، تجتاحها رياح التمرد والانفصال ذات البواعث القومية، ولن يكون النزاع مع مصر هو الأول في سلسلة الأزمات والصراعات الخارجية والداخلية، وسيكون جليا مع نهايات القرن أن "التنظيمات" لم تكن عهد تجديد قط، وإنما مثلت مقدمات للتمزق والانهيار الذي تسارع مع بدايات القرن العشرين. لكن ذلك لا ينفي أن "التنظيمات" ستقدم بفعل ما أحدثته من حركة في المياه الراكدة رصيدا محفوظا لمستقبل ليس ببعيد لانبعاث قومية تركية جديدة وخالصة، ستخرج من قلب عملية الانهيار لتغير مسار ومستقبل أبنائها أولا، وشكل خريطـة المنطقة التي يعيش فيها ثانيا، ولتفرض حسابات جديـدة ومثيرة في محيط أوسع"[44].

2- تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية

ليس للبشر أن يغير سنن الله في كونه، ولن يغير الله سننه لسواد عيون جماعة من الجماعات، بل (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:11)، وينصلح حالهم. ومن هنا يبرز مفهوم الإصلاح بقوة.

لم يكن من المتيسر إصلاح ما تم إتلافه وإفساده خلال حيز زمني طويل لا يقل عن قرنين من العمل السري والمنظم تنظيما دقيقا، ولذلك فالإصلاح كان في حاجة هو الآخر إلى حيز زمني طويل، وإلى رؤية ثاقبة تدرك مكامن الخلل وتحدد مكامن المرض. بعبارة دقيقة كان الوضع يفرض القيام بعملية تشريح للجسد المريض قبل وصف الدواء. ولا مغالاة إذا قيل إن بعض رجالات تركيا لمسوا هذه الحقيقة وتصدوا للقيام بها كل من زاوية نظره ومن جهة ما يؤمن به، فمنهم من نجح بقدر إخلاصه، ومنهم من كانت الأحداث معاكسة لمسعاه، فانتهى إلى باب موصد لتضيع الأفكار والمواقف في حمأة الأحداث رغم محاولات النهوض والانبعاث المتعددة.

إضافة إلى المعطيات التي حاولنا الوقوف على مضامينها وأبعادها في المباحث السابقة ينبغي الإشارة إلى أهمية المعطى والمسار المعاكس للانهيار الإسلامي العثماني، والذي مثله تأسيس الجمهورية والقطع مع الماضي بكل ما يمثله، والعمل على الانطلاق إلى المستقبل بروح أخرى اختار لها مؤسسو الجمهورية "العلمانية" شعارا، والتغريب الأوربي طريقا ومنهجا. ومع ذلك فإن "العلمنة" قد أثارت العديد من الإشكالات والتناقضات في ظل عدم اكتمال ونضوج الشروط التاريخية والاجتماعية لتركيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وهو ما جعلها لا تمت بكثير صلة إلى العلمانية. "ولم تستطع، بالتالي، أن تكون ذات حضور مؤثر وحاسم بصورة طبيعية في مجتمع تشرّب بالأيدلوجيا الإسلامية على امتداد أكثر من سبعة قرون. لهذا وجدت العلمانية نفسها بعد سبعين عاما من الممارسة أمام تصاعد التيارات الإسلامية، رغم كل القيود القانونية"[45].

ولا ينبغي في الإطار نفسه استبعاد دور الجيش في الحياة السياسية وغيرها. الأمر الذي يؤكد بأن النظام الديمقراطي الذي جرى تبنّيه منذ 1945م كان في الحقيقة نظاما شكليا من زاوية أن قوة الجيش سمحت لنفسها بالتدخل في كل وقت وحين لحماية المبادئ الكمالية بوساطة "مجلس الأمن القومي"، الذي نصت عليه الدساتير المتعاقبة منذ 1961م.[46]

لهذا يطرح السؤال: لماذا اندفع أتاتورك كل هذا الاندفاع نحو الأَوْرَبة ونحو دين أوربا في العصور الحديثة "العلمانية"؟ ألا يمكن أن نلمس نوعا من الصدق والإخلاص فيما قام به؟ ألا يمكن أن نتصور أن إيمان كمال أتاتورك بضرورة مغادرة تركيا إلى أوربا يحتم مغادرتها للإسلام والقطع مع هذا الإرث الذي جعل أوربا التي كانت مجرد جغرافيا قبل فتح القسطنطينية سنة 1453م تتحول بعد ذلك إلى مصطلح سياسي وحضاري وثقافي وإلى مواجهة تخفي حربا صليبية.[47]

وليبرز كون إلغاء الدين والإسلام من الحياة سدا للباب أمام الموقف الأوربي تجاه تركيا والإسلام بصفة عامة، لكن هل كان هذا الأمر كافيا لكي تتوقف أوربا عن اعتبار تركيا عدوا باعتبار ماضيها التاريخي القوي؟ ألا يمكن القول إن خطوات الكمالية هذه كانت نوعا من الانسحاب خلف الستار من أجل إعادة ترتيب البيت وتنظيمه من أجل انطلاقة جديدة على أسس متينة. أليس من الإنصاف القول إن ما حدث كان فيه خير بالنسبة للفكر الإسلامي وبالنسبة للفكرة الدينية الإسلامية حتى تعيد تجديد نفسها وتعيد إنتاج ذاتها بما يتلاءم وشروط العصر الحديث؟ وفي الإطار نفسه ماذا تُمثّل تركيا اليوم بالنسبة لأوربا وبالنسبة لباقي دول العالم الإسلامي، والعالم العربي جزء من هذا الكيان؟ ألا يحمل مشروعا حضاريا تعترف به أوربا وتعتبره عاملا حاسما يمنع دخول تركيا إلى حظيرة السوق الأوربية المشتـركة.[48]

لقد سعى كمال أتاتورك بكل قوة إلى أَوْرَبة تركيا لأنه اقتنع أن هذا هو الحل، بل كان يؤمن إيمانا قاطعا أن هناك حضارة عالمية واحدة هي الحضارة الأوربية. وينبغي اقتباسها كلها بورودها وأشواكها، ولذلك حرص كمال أتاتورك على التذكير في كل خطبه بضرورة الانخراط في مجموعة الأمم المتحضرة يقصد أوروبا، واضعا نصب عينيه التغيير الاجتماعي قبل التغيير السياسي.[49]

كان كمال أتاتورك يؤمن -كما يذكر ذلك الذين ترجموا له وكتبوا عن حياته وأفكاره- بضرورة تمتع الإنسان التركي بتركيته وإنسانيته وكرامته بصورة تلقائية دون النظر إلى دينه. وكان اعتقد بأن "المرشد الحقيقي الوحيد في الحياة هو العلم"[50].

لقد كان شديد الحساسية اتجاه الفكرة الشرقية التي تربط التفوق الحضاري حسب تصوره بالمذهب الديني، فالقديم وحضارة الأجداد وحضارة الترك الغابرة لا تحقق النهضة، يقول: "إن حضارتنا القديمة لن تمنحنا الحياة. وإن لكل جيل حضارته، ومتى صنعنا حضارة لنا أصبحنا جديرين بالانتماء إلى الأجداد،"[51]. والأجداد هنا ليسوا هم العثمانيين بل هم الأتراك القدامى.. وأما النموذج الذي يحقق ذلك فهو النموذج الأوربي، يقول: "والحضارة التي يجب أن ينشئها الجيل التركي الجديد هي حضارة أوربية مضمونا وشكلا، لأن هناك حضارة واحدة هي الحضارة الأوربية، هي الحضارة القائدة، والحضارة الموصلة إلى القوة والسيطرة على الطبيعة. وخلق الإنسان السيد والأمة السيدة المتحررة من السلطة الفردية والسلطة التيوقراطية. وإن جميع أمم العالم مضطرة إلى الأخذ بالحضارة الأوربية لكي تؤمن لنفسها الحياة والاعتبار"[52].

فالأوربة في صورتها الكاملة كما طبّقت في أوروبا ونجحت، ينبغي تنزيلها في الواقع التركي. وحتى يتحقق ذلك ينبغي إعداد التربة التي ستساعد على نموها نموا طبيعيا، حتى تعطي ثمارا تشبه الحضارة الأوربية. وإعداد هذه التربة يفرض محاربة العقليات المتحجرة وخاصة العقليات الدينية، يقول: "إن هدف الثورة هو أن تخلق في تركيا الجمهورية مجتمعا عصريا، متحضّرا روحا وشكلا، هذا هو قطب هدف الثورة، ويجب أن نهزم العقليات غير القادرة على تقبل هذه الحقيقة، هناك عقليات تميت الأمة. ولهذا يجب غسل عقول الناس من الأسطورة والخرافة، وبدون ذلك لا يمكن إدخال نور الحقيقة إلى عقول الناس"[53].

ولتحقيق هذه الغاية أعلن كمال أتاتورك حملة اجتثاث لكل الطرق والتكايا وكل المظاهر الدينية، وأعلن قائلا: "سأغلق كل التكايا.. نحن نستمد قوتنا من الحضارة والعلم والمعرفة ونسترشد بها"[54]. فهل نجح كمال أتاتورك ودعاة الأوربة في قطع تركيا عن جذورها، وهل إغلاق التكايا ومحاربة الطرق الصوفية ومحاربة الفكر الديني ومحاصرته كفيل بالقضاء على الروح الدينية المتجذرة في لاوعْي الإنسان التركي؟ لقد أكدت الأيام أن الخيار صعب التحقيق لأنه مضاد للطبيعة الإنسانية ومضاد لسنن الكون.

3- القطع مع الماضي ومنظومة مجتمعية جديدة

استمرت حملة التغيير الساعية إلى بناء منظومة مجتمعية متحررة من إرث الماضي، ودعت إلى تبني الفكر الطوراني أو النظرية الطورانية. وإذا ما سجل التاريخ الحديث من حدث فلابد أن يسجل توجه كمال أتاتورك إلى دعم نظرية أسطورية ترجع كل لغات العالم إلى أصل واحد هو اللغة الأتراكية تمهيدا لجمع الأتراك حول لغة موحدة، فأعلنت الحرب على كل ما يوجد في اللغة العثمانية التي كانت هي لغة أغلب سكان تركيا وخاصة في الأناضول. فأدخلت ألفاظا جديدة واستبدلتها بالألفاظ الإسلامية الأصل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، ويذكر صويص أن هذه الخطوة لم تكن بدافع فكري أو ثقافي بل كانت بدافع سياسي يقول: "حين قررت الجمهورية التركية استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني كذا... كان الوازع إلى ذلك سياسيا وليس ثقافيا، ولم يكن ذلك جزءا من حركة التتريك التي سادت تركيا بعد التحرير، بل نتيجة ما حدث في الأقطار المجاورة لتركيا نفسها. فحين قامت الثورة الاشتراكية سنة 1918م تبنت حكومة الاتحاد السوفياتي الحرف اللاتيني في أذربيجان وشمال قفقاسيا، وصدر بذلك مرسوم جمهوري سنة 1925م يفرض الكتابة بالأحرف اللاتينية في هذه المناطق، التي يتكلم سكانها اللغة التركية، وفي سنة 1926م عقد مؤتمر "باكو" وقرر منع استخدام الحرف العربي لدى الناطقين بالتركية في الاتحاد السوفياتي.

وكان هدف الاتحاد السوفياتي من هذه السياسة هو إضعاف نفوذ الإسلام في السكان، ثم فصم الرابطة بين هؤلاء الأتراك القاطنين في الاتحاد السوفياتي وأبناء جلدتهم القاطنين في تركيا الذين كانوا يستخدمون الحرف العربي"[55].

ويرى فريق آخر أن كمال أتاتورك لم يكن في البداية يهتم لمصير أذربيجان وغيرها من المناطق الأتراكية بل كان مهتما من خلال إلغاء الحرف العربي بالقطيعة مع الماضي بكل ما يمثله، حتى يتسنى للأجيال اللاحقة الإقبال على المستقبل بروح متجددة.

4- إعادة قراءة صورة الإسلام في تركيا

هل استطاعت تركيا بعد كل هذا القضاء على ماضيها في صلب لاوعي المجتمع التركي؟ وهل تمكنت من أن تطفئ جذوة الإسلام والدين في القلوب؟ وكيف تبلور الفكر الديني في الواقع التركي؟ وإلى أي حد استطاعت الفكرة الدينية التكيف مع واقع علماني ولاديني لا يتسامح؟ وهل استطاعت الفكرة الإسلامية الصمود في وجه التغيير والتفاعل معه، وكيف تم لها ذلك؟

لن نبالغ إذا قلنا إن الفكرة الإسلامية هي الأقوى حضورا في الواقع التركي اليوم بمظاهر مختلفة وتوجهات متنوعة. الحدث التركي اليوم يصنعه الجيش بسلطته القوية، وتصنعه الأحزاب السياسية ذات الأيديولوجية الإسلامية وخاصة حزب العدالة والتنمية. ويصنعه مجتمع مدني قوي متشبع بالفكرة الدينية، ومتشبع بضرورة توظيفها من أجل تركيا قوية.

وبداية لا بد من الإشارة إلى أن الجو الديمقراطي الذي تبلورت معالمه في العقدين الأخيرين والذي سمح لبعض حركات الإسلام السياسي من الوصول إلى إدارة الشأن السياسي بنوع من النجاح، قد جعل تركيا محط اهتمام الباحثين والمهتمين، وخاصة المتتبع العربي وفئات واسعة من المجتمع من مثقفين وسياسيين وحتى الشارع، وانتقل هذا الاهتمام إلى نوع من الإعجاب ورغبة في معرفة حقيقة تركيا الجديدة، والمتأمل فيما يتجاذبه الناس من أحاديث حول تركيا يجدها تنقسم إلى انطباعين اثنين:

•   الانطباع الأول هو أن تركيا الحديثة هي نتيجة التوجه العلماني الذي تأسست في ضوئه الجمهورية، وأهل هذا الرأي يؤكدون بأن تركيا اليوم نتاج الأجواء العلمانية، التي عاشت في ظلها تركيا منذ 70 سنة خلت. الشيء الذي يؤكد في نظر هؤلاء أن العلمانية هي سبيل النهضة والانبعاث.

•   الانطباع الثاني يعتبر أن تركيا تمكنت من الحفاظ على هويتها وبأن معاول الهدم والتخريب التي طالت المجتمع التركي لم تستطع النيل من هذه الهوية، بل هناك من ينظر لتركيا على أنها تملك كل شروط قيادة الشرق الإسلامي إلى النهضة والانبعاث. وهناك من يعتبر قيادة تركيا اليوم عثمانيين جددًا، وهناك من يذهب أبعد من هذه الرؤية حين يعتبر تركيا مطالبة بأن تتحمل مسؤولية الانفتاح على العالم العربي، ومطالبة بالنظر إلى العالم العربي على أنه عمقها الاستراتيجي، في ضوء إيجاد توازن استراتيجي جديد في المنطقة. العالم العربي الذي يشعر بنوع من الاستضعاف، يحلم بأن بتركيا حليف قادر على بث الدفء في العلاقات العربية التركية. ومن المستحيل أن يتم تجاهل المشترك الديني، في ظل الاختيارات المناهضة لأوربا بالنسبة لإيران، لأن التوجهات التي تطبع إيران تجعل الإنسان العربي لا يطمئن كثيرا لما قد يأتي به المستقبل.

كان الإسلام هو دعامة الحكم، والسلطان في الدولة العثمانية، بل إن الدولة العثمانية قد تمكنت في وقت من الأوقات من أن تقوم على أساس التقاليد الإسلامية السائدة وعلى أساس تفسير نصوص القرآن الكريم وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تقول د. مرغريت حلو: "الشريعة التي وضعت في القرون الأولى للإسلام والتي جسدت الأعراف والتفسير لسيرة النبي بنيت على التقاليد السائدة في مجتمع يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الذي توالد من توسع الإسلام، ومن هنا فمن الطبيعي أن تبقى أمور عديدة لا تلحظها الشريعة أو تفصل الكلام عليها. في الفترة السابقة للحكم العثماني لم تكن ممارسة الكثير من الأشياء مستندة إلى أي قانون تنظيمي، بل كانت عرفية برمتها، ثم تغيرت بتغير الزمان والمكان، ويعزى الفضل إلى السلاطين العثمانيين في:

1-خلق حكم مفصل، وجعل الدولة أكثر ميلا إلى السلالة الملكية منها إلى الدينية الشعبية.

2-تفعيل الشريعة من خلال جعلها القانون المطبق في الدولة.[56]

وفي هذا الإطار لا ينبغي التغافل عن ملاحظة مهمة جدا وهي أن أهم الدراسات المنجزة حول تركيا العثمانيين أنجزها باحثون غربيون، الأمر الذي يدل على أهمية تركيا بالنسبة للغرب، وهذا ليس من منطلق العداء أو الصراع الحضاري فحسب، وإنما باعتباره اعترافا بقوة هذه الدولة وأهميتها بالنسبة لأوربا.

ويؤكد بيرنار لويس في كتابه نشوء تركيا الحديثة (The emergence of Modern Turkey)، أن للإسلام العثماني يدا واضح المعالم في التنظيم القضائي وخاصة فيما يتعلق بالإقرار بسلطة القضاء، ويظهر كذلك في تنظيم الهياكل الدينية، وإقرار سلطة مشيخة الإسلام التي كان لها الحق في عزل السلطان.[57] ويضيف بيرنار لويس في الكتاب نفسه أن الأتراك في ظل دولة العثمانيين لم يكرهوا على الإسلام، وكان اختيارهم له عن قناعة ومحض رغبتهم، ولذلك فهو لا يحمل في طياته أي مؤشر من مؤشرات النقمة أو الخوف. فقد ذاب الأتراك في الإسلام ونسوا ماضيهم، وانتسبوا للإسلام وحده دون غيره، وصار لقب تركي مرادفا للمسلم.[58]

كل هذه المقومات طبعت المفهوم العثماني للإسلام، وتجلى ذلك في: "تفاني الإمبراطورية العثمانية، منذ نشأتها حتى زوالها، في الدفاع عن الإيمان، والحفاظ على قوة الإسلام من خلال محاولاتها بالدرجة الأولى توسيع دار الإسلام باتجاه أوربا وغيرها من المناطق، ومن خلال محاولتها بالتالي صد الهجمات الغربية، والحيلولة دون تغلغل الغرب في دار الإسلام، كما تجلى أثره أيضا في إحلال الهوية الإسلامية محل الهوية التركية إحلالا شبه كامل"[59].

وليس هذا فحسب، فقد اعترف السلاطين العثمانيون اعترافا مبدئيا بكفاءة الشريعة في تسيير الحياة العامة،[60] ومما ينبغي الإلحاح عليه كذلك في هذا المقام هو ما كان يتمتع به غير المسلمين من حرية الاعتقاد والتصرف وحرية الحفاظ على هويتهم الثقافية والعقدية، وهذا معاكس لما يذهب إليه بيرنارد لويس الذي يؤكد بأن أتباع الديانات الأخرى كانوا معزولين ولم يكن بمقدورهم الاختلاط بالمجتمع الإسلامي بحرية، ولذلك لم يتمكنوا حسب رأيه من المساهمة في الحياة الثقافية العثمانية إسهاما واضحا، وهذه مغالطة كبيرة جدا لأن الدولة العثمانية كانت من بين الدول القليلة التي استقبلت اليهود بعد طردهم من الأندلس، ليعيشوا بعد ذلك في مناطق مختلفة من الدولة العثمانية، ولتكون لهم اليد الطولي في إسقاط الخلافة، بالنظر إلى المكانة التي أعطيت لهم، والمناصب التي وصلوا إليها في ظل السلطنة العثمانية.

وقد توحي تحليلات بعض من درس هذا الموضوع واهتم به أن الصورة الجديدة لتركيا العلمانية والمقطوعة عن ماضيها وتاريخها، والمتجهة بكل إصرار وقوة إلى الأوربية، هي في الحقيقة حالة محصورة في المدن الكبرى بين طبقات المثقفين والتجار والقيادات الإدارية والسياسة وقادة العسكر. لكنه لم يتجاوز هذه الطبقات لكي يصير خيارا شعبيا واقتناعا يوميا.[61] لكن السواد الأعظم من الشعب ظل معزولا عن التيارات الجديدة لأسباب في طليعتها اتساع المساحة وصعوبة الاتصال والمواصلات، وطبيعة الحياة القروية، وعلاقة سكان هذه القرى بالدولة ومؤسساتها، وارتفاع نسبة الأمية، وتعلق القرويين بالدين، وتنظيمهم الاجتماعي القبلي العشائري، ورغبتهم في الحفاظ على عزلتهم، وولائهم لمناطقهم وللدين ورموزه (الخلافة) وتمسكهم بكل ما هو تقليدي ومحافظ. فأهل القرى هولاء كان لبيئتهم وَلاء مباشر للإسلام، ولم يكن بمقدورهم التفكير في احتمال التناقض بين متطلبات الدين ومتطلبات الدولة، والحقيقة أن هذه الظاهرة ما تزال بارزة حتى اليوم.[62]

كل هذه المعطيات تؤكد بأن المجتمع التركي كان وظل مجتمعا مرتبطا بهويته ولم تستطع كل حملات التغريب والأوربة أن تقضي على هذه الشعلة. والراجح أن التحولات التي عرفتها تركيا قد طبعت الارتباط بالهوية بروح جديدة ومكّنتها من أن تعيد صياغة نفسها صياغة جديدة وهذا ما سنحاول تبينه في مباحث آتية في هذه الدراسة.

5- الحرب الثقافية على الإسلام

يؤكد برنارد لويس (Lewis Bernard) أن تضخيم الإصلاحات التي قام بها كمال أتاتورك أمر مستبعد، ذلك لأن السلاطين العثمانيين أنفسهم قد سبقوه إلى الكثير من تلك الإصلاحات.[63] وهنا نرجع إلى السؤال الذي كنا طرحناه سابقا وهو "هل يكفي تغيير القوانين للقضاء على الدين والإيمان في القلوب، وهل اقتباس القانون الفرنسي أو القانون السويسري يكفي لجعل الناس فرنسيين أو سويسريين؟".. الجواب جلي إذ "لم يكن اعتماد الحكومة التركية القانون المدني السويسري كفيلا أو كافيا لجعل تركيا سويسرا الشرق الأوسط، ولم يكن بالتالي كفيلا أو كافيا أيضا لجعل الجيلين التركيين، الجيل الذي عايش الإمبراطورية الإسلامية في آخر أيامها، والجيل الجديد الذي ترعرع في مطلع عهد الجمهورية، قادرين على الفصل بين انتمائهما التركي وانتمائهما إلى الإسلام،"[64] ودليل هذا هو عدد الطلبة الذين سجلوا أنفسهم في كلية الإلهيات. فقد كان عددهم 287 بين سنة 1927م وسنة 1932م، ثم تقلص إلى عشر فقط سنة 1933م الأمر الذي عجل بإغلاقها سنة 1936، ليعاد فتحها سنة 1949م[65]. ويمكن أن نتصور علة هذا الفشل وهو ما كانت هذه الكلية تقدمه من معارف، إذ كان الأتراك على العموم يعتقدون أنها تعلم الإلحاد والمروق عن الدين والإسلام.

وبعد وفاة مهندس الثورة الكمالية ومؤسس الجمهورية سنة 1938م دخلت تركيا مرحلة جديدة في العلاقة مع الإسلام، حيث ستشهد السنوات والعقود التي تلت وفاته نوعا من التحسن في نظرة العلمانية للإسلام وللممارسة الدينية بصفة عامة دون أن يكون ذلك تراجعا عن مبادئ العلمانية[66]. كانت السلطة الحاكمة تشعر بخطورة ما قد يجلبه التركيز على عقلانية الفرد، وعلى الجوانب المادية من فراغ روحي وعاطفي قد تستغله الحركات الدينية المتطرفة. بالإضافة إلى ما قد تخلفه الأزمات من عدم قدرة على التفسير والتحليل وخاصة في الأوساط الشعبية والطبقات المهمشة والبسيطة. الأمر الذي يجعل الدين وسيلة للهروب وملاذا للعزاء.[67]

ولتفادي هذه الوضعية وكسياسة استباقية قررت الجمهورية في سنة 1940م إلحاق الأئمة بالجيش، وفي السنة نفسها ظهرت أولى بوادر معارضة دينية تمثلت على الخصوص في معارضة إقدام وزارة التربية في سنة 1939م على نشر النسخة التركية من دائرة المعارف الإسلامية ""Encyclopedia-of Islam" عندما قام مجموعة من الأتراك المتدينين بقيادة أشرف أديب (الذي كان محررا بجريدة إسلامية في عهد تركيا الفتاة) بالاعتراض على نشر هذه النسخة، مشددا على أنها ليست مع الإسلام بل ضده، لأنها إنتاج الإرساليات المسيحية الرامية إلى تهديم أسس الإسلام، وانتقد هؤلاء وزارة التربية لدعمها مشروعا مناهضا للدين الإسلامي. ظهرت هذه الانتقادات أولا في رسائل وجهت إلى المسؤولين، ثم في مقالات نشرت في وسائل الإعلام، وأخيرا في دورية تولى المعارضون إصدارها بأنفسهم.[68]

وستقوم هذه المعارضة بنشر الموسوعة الإسلامية التركية (Turk Islam Ansiklopedisi) لتكون منافسة لتلك التي قامت الحكومة بنشرها من قبل، ولتكون معبرا عن وجهة النظر الإسلامية.[69]

ويلاحظ المتابع لحقيقة هذا التغيير ثلاثة أشكال من الممارسة التي تجسد الرجوع إلى الإسلام:

•   الشكل الأول هو الشكل الشعبي وهو أكثر بروزا وأقوى حضورا لأنه متصل في المقام الأول بالسواد الأعظم من الشعب التركي. ويتمثل على الخصوص في تمويل المساجد وترميمها، وجمع التبرعات والزكوات لتمويل مدارس الأئمة والخطباء، بالإضافة إلى تزايد عدد الراغبين في الحج وزيارة البقاع المقدسة دون إهمال المظاهر الثابتة الأخرى في الممارسة الإسلامية من صوم وصلاة واحترام للباس الإسلامي. يضاف إلى كل ذلك تزايد الإقبال على المقتطفات الدينية والأحاديث النبوية وتزايد عدد المنشورات ذات الطابع الإسلامي وتكاثر الإقبال على الجماعات الدينية، إضافة إلى تزايد اهتمام بعض وسائل الإعلام بالمناسبات الدينية كعيد المولد الشريف، بنشر قصائد وأشعار في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والاهتمام ببعض المواسم ذات الطابع الصوفي. وما يمكن أن يسترعي الانتباه في هذا المقام هو تزايد النقاش حول القضايا الدينية، التي كان العامة يخوضون فيها، مطالبين بضرورة إيجاد رجال دين أكفاء وبتحسين وضع الإرث الروحي.[70]

•   وأما الشكل الثاني فهو الشكل الذي برز فيه جمهور السلطة الحاكمة نفسها والذي تمثل على الخصوص في رفع القرار المانع للأذان باللغة العربية في سنة 1950م. وبعده بدأت الإذاعات الرسمية تذيع بثا منظما لتلاوة القرآن الكريم، كما سمح بتعميم تعلم حصص المادة الدينية للجميع إلا من رفض ذلك.

وقد نتساءل هل كان هذا التسامح نوعا من الثورة ضد مبادئ كمال أتاتورك أم كان مجرد سياسة وقائية وخطة حمائية من جهة أن المنع الصارم يؤدي إلى ظهور ظواهر غير محسوبة النتائج وغير مقدور على التحكم فيها.

•   وأما الشكل الثالث فقد مثله بروز بعض الحركات الإسلامية ذات البعد السياسي رغم ارتكازها على مرجعية روحية كالطريقة التيجانية التي برزت قبل الحرب العالمة الأولى ليخفت صوتها منذ 1925م، لتظهر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى في هذا الإطار التطور الكبير الذي عرفته تركيا على أثر رغبتها في التحول إلى دولة صناعية؛ الأمر الذي نتج عنه هجرة عدد كبير من الباحثين عن ظروف أفضل للعيش، الأمر الذي زاد من عدد السكان في المدن الكبرى وزاد معه حاجتهم وتوسعت معه مصالحهم ومطالبهم وأدى كذلك إلى نشوء طبقة متوسطة مع ما يمثله هذا النشوء من تحول في العقليات وفي نمط التفكير.

وأما الطبقات الأخرى وخاصة الدنيا فكانت هي الأخرى ذات تطلعات خاصة لا تختلف كثيرا عن تطلعات الطبقة الوسطى. وهكذا بدأت التحولات الاقتصادية والتعليم العلماني والتحديث الاجتماعي ينافس القيم الدينية وظهر ذلك على الخصوص في وسط الطبقة العمالية، حيث صار العامل التركي أكثر انفتاحا على المفكر والسياسي الذي يحثه على ضرورة المحافظة على التوجه الغربي، بل لقد كان لهذه الطبقة (الطبقة العمالية) مطالب لم يستطع الحزب الديمقراطي الحاكم التعاطي معها.

حاولت حكومة عَدْنَان مَنْدَرِيس أن تتقدم بإصلاحاتها من أجل صورة جديدة لتركيا، لكن الأمر ما لبث أن تداعى بإعلان انقلاب 27 ماي 1960م الذي أطاح بالحكومة المدنية التي كان مندريس يرأسها.[71]

وستعرف فترة 1961م-1965م عودة للحياة الديمقراطية وشكلت العديد من الحكومات الائتلافية، أقرت أغلبها بشرعية مطالب الطبقة المتوسطة والتي يشكل العمال الجزء الأكبر منها، وتمكنت الطبقات العمالية من "سن المواقف الرسمية من الحركة العمالية، ومن إصدار التشريعات التي جعلت من العمال المؤطرين في اتحادهم مواطنين مشاركين وفاعلين في تحديد المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتحديد حل لها شواهد معبرة.[72] "والذي لا شكّ فيه أن هذا الأسلوب نجح في التغلب على إرث عثماني، كانت الجمهورية عاجزة عن تخطيه، إنه نجح في ردم الهوة العميقة بين الشعب والمفكرين والقادة"[73].

وإذا استثنينا محاولات "حزب الخلاص الوطني" الذي حصل على نسبة 12% من أصوات الناخبين في انتخابات 1973م والذي لم يستطع أن يتجاوز نسبة 8,6% في انتخابات 1977م، فإن الأحزاب ذات التوجه الديني لم تستطع التميز واستقطاب الأصوات ولم تكن قادرة على إثارة التخوف من تنامي الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام السياسي، الأمر الذي فسره البعض على أنه نجاح للسياسة العلمانية واستمرارها على الصعيد الشعبي. وقد ترجم ذلك في دستور 1972م من خلال التنصيص على أن الجمهورية التركية دولة علمانية.[74]

6- رفع القيود على الدين

وعلى العموم يمكن القول بأن مرحلة تعدد الأحزاب قد عرفت رفع العديد من القيود المفروضة على الدين، وحصل نوع من الانبعاث الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى ظهور أحزاب تخاطب المشاعر الإسلامية. "وقد أصبح الآن من المسلم به في تركيا أن العلمانية لم تعد من المسائل الجدلية التي فيها أخذ ورد، غير أن الجدل استمر حول العديد من الأمور التي لها علاقة بالإسلام"[75].

و هناك أسباب كامنة وراء عودة الأتراك إلى الإسلام وخاصة في الفترة الأخيرة، ومن هذه الأسباب نذكر:

1- اقتناع الكثير من المفكرين والفلاسفة بعدم جدوى الاهتمام بالفلسفة الوضعية العلمانية منذ الحرب العالمية الثانية، وجعلها المسار الوحيد في منظومة التفكير.

2- تخوف السلطة الحاكمة من قيام أو حدوث ثورة تقيم نظاما إسلاميا يؤدي إلى سيطرة إيديولوجية تقليدية.

3- انتشار المبادئ الديمقراطية التي عمقت الوعي السياسي لدى سكان البوادي، ونمت إحساسهم بالحرية وخاصة حرية المعتقد وحرية التفكير.

4- الخوف من انتشار الفكر الشيوعي في ظل التهديد الذي مارسه السوفيات على تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع الأتراك إلى التفكير بجدية في ضرورة منح المجتمع حصانة أخلاقية وروحية واجتماعية.[76]

ويمكن القول بأن لهذه العودة أسبابا وليس أسرارا، ولعل من أهم الأسباب استمرار جذوة الفكر الإصلاحي الإسلامي على مدى سنوات طويلة؛ فالدور الذي لعبه الفكر الحركي الإسلامي بمختلف مشاربه كان حاسما في المحافظة على بقاء المجتمع التركي على صلة بالهوية الإسلامية دون التهاون في التفاعل الإيجابي كلما دعت الضرورة إلى ذلك مع المستجدات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي عرفها المجتمع التركي في مرحلة الجمهورية، وخاصة العلمانية.

ينقسم الفكر الإصلاحي المتصل بالخلفية الإسلامية في تركيا إلى قسمين كبيرين:

القسم الأول اختيار المجال السياسي أو ما يسمى بالإسلام السياسي معتركا للإصلاح، واعتبار الوصول إلى السلطة سبيلا يسهل عودة تركيا إلى جسدها الإسلامي.

القسم الثاني اعتبر الانخراط في المجتمع والعمل المدني والاجتماعي والابتعاد قدر الإمكان عن العمل السياسي ومعتركه هو الأساس الذي يحقق إيجاد مجتمع فعال منخرط في العصر. وفي ظني أن مثل هذا التوجه هو الذي يتوفر على القوة الأكبر تأثيرا في مختلف مكونات المجتمع والواقع بما في ذلك السياسة.

وسنحاول في الفقرات الآتية التحدث عن أهم هذه التيارات من زاوية أن الموضوع الرئيسي في هذا البحث هو الحديث عن شخصية تعتبر اليوم من أكثر الشخصيات تأثيرا في الواقع التركي بفكره وحركته وأتباعه، وهي شخصية يعترف بها العدو قبل الصديق والمنافسون قبل الأتباع، "الأستاذ فتح الله كولن".

من يتعرض للحديث عن الفكر الإصلاحي ذي الاتجاه الإسلامي في تركيا اليوم لا بد له من الوقوف عند شخصية الأستاذ فتح الله كولن، ولا بد له من أن يقف عند شخصية "الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي" الذي كان ملهمًا لحركة إصلاحية بارزة للعيان. والحديث عن الحركة هنا لا يعني أن الرجل قد سعى إلى بناء كيان منظم ومهيكل، فهذا لم يحدث ولم يسمح الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي به، إذ كان يلحّ دائما على ضرورة الالتفاف حول "رسائل النور" التي كان يعتبرها فيضا من فيوضات القرآن الكريم.

ولد النورسي سنة 1295هـ / 1876م في قرية نُورْس (NURS) التي يُنسب إليها، حتى صارت هذه النسبة علَما عليه عرف بها في تركيا وخارج تركيا. تلقى تعليمه الأول على يد مشايخ وعلماء شرق الأناضول حتى حصل على الإجازة في سن الخامسة عشرة، ثم انتقل إلى إسْعِرْد (Siirt) في جنوب تركيا، ومنها إلى مَارْدِين (Mardin) في جنوب شرق تركيا (1310هـ / 1892م)، ثم إلى وَان (Van) في 1312هـ / 1894م، وهناك ركز على تعلم العلوم التي لم يتلقّاها على شيوخه في شرق الأناضول، فدرس التاريخ والجغْرافيا والرياضيات والجيولوجيا والفزياء والكمياء والفلك، والفلسفة.[77]

وقد شهد له بمواهبة الخارقة وقدرته الكبيرة على الحفظ والاستيعاب "ومن الجدير بالذكر أن "سعيد" لم ينتسب إلى أية طريقة صوفية كما هو المعتاد في الأناضول"[78]، فقد كان له مواقف مشككة في قدرة الطرق الصوفية على إكساب الإسلام حيويته، ولكنه مع ذلك فقد تأثر إلى حد كبير بمتصوفة الأناضول. ويذكر شريف مَارْدِين (Şerif Mardin) -وهو أحد علماء الاجتماع الأتراك البارزين- أن سعيد النورسي هو نتاج النشاط الصوفي النقشبندي في الأناضول، لكنه يمثل انعطافا،[79] ولا ينبغي لهذا الرأي أن يحجب أن سعيد النورسي آمن بأن مناهج التعليم التقليدية التي كانت سائدة في تركيا أواخر الدولة العثمانية كانت عاجزة عن إنتاج نموذج بشَري يستطيع الإجابة عن أسئلة العصر، وهذا الذي جعله يجتهد بكل قوة في سبيل إنشاء "مدرسة الزهراء" التي كان يتطلع لأن تكون على غرار الجامع الأزهر في مصر، وأن يجمع منهج التدريس فيها بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية، وأن يدرّس فيها علماء أكراد وأتراك بغرض خدمة الإسلام في الأناضول.[80]

7- النورسي نموذج المصلح المتفتح

تمكن سعيد النورسي بحكم تمكنه من مخالطة الأوساط المثقفة والنافذة في الدولة العثمانية من أن يتعرف على الأفكار الأوربية ورأيها في الإسلام وفي الدولة العثمانية، وأن يدرك مدى التفاوت بين الواقع الحضاري الأوربي وواقع المسلمين بصفة عامة والدولة العثمانية على وجه الخصوص. ولذلك لم يرفض الأفكار الأوربية وسعى " لتطوير نمط تفكير نقدي داخل التقاليد العثمانية بدلا من أنماط التفكير الأوربي. ووجد أن ذلك النمط الجديد يستوجب لهجة خطاب جديدة يوائم بين العقلية الأوربية والتقاليد العثمانية الإسلامية"[81]. ولهذا السبب أيد المشروطية وتفاعل معها من زاوية أنها قد تكون وسيلة من وسائل بث روح التجديد في المجتمع الإسلامي على وجه العموم والمجتمع العثماني على وجه الخصوص.

وقد ألقى بهذه المناسبة خطبة في ميدان الحرية بمدينة سلانيك (Selanik) بث فيها مفهومه لـ"الحرية الشرعية" التي يضع الشارع ضوابطها ويبين حدودها في مقابل "الحرية الفوضوية" التي لا تنضبط لأي ضابط. وألح في الخطبة نفسها على ضرورة الاستفادة من التقدم العلمي واقتباسه من الغرب، لكن دون أخذ الجوانب السلبية في الحياة الاجتماعية للغرب. ثم ألح على أن تأخر الدولة العثمانية ترجع مسؤولته إلى ثلاث فئات هي: فئة علماء الدين، وفئة المتعلمين (الذين لم يفهموا الغرب فهما صحيحا)، ثم فئة أصحاب التكايا الذين انغلقوا على أنفسهم واتهموا الناس بالكفر والخروج عن الدين.[82]

ولذلك سعى سعيد النورسي إلى إيجاد نوع من التوافق بين الرؤية الإسلامية والمشروطية من خلال البحث عن عناصر الالتقاء؛ الشيء الذي يكشف مدى انفتاح رؤيته وتفاؤله بالمشروطية على اعتبار أنها قد تحمل حلا لأزمة الأمة. وما يدل كذلك على هذا التفاؤل هو محاولته بعد إلغاء السلطنة سنة 1342هـ / 1923م، والخلافة سنة 1343هـ / 1924م، توجيه السلطة الجديدة نحو إعطاء أهمية كبرى للدين في السياسة الداخلية، مع اتباع سياسة واضحة ذات رؤية إسلامية نحو الاتحاد الإسلامي.

وتعتبر زيارته لـ"أنقرة" العاصمة في نهاية سنة 1922م مرحلة حاسمة في حياته، لأنه سيدخل بعد ذلك في مرحلة جديدة، حيث لاحظ بأن الإيمان في خطر، وأدرك أن الوضع يحتاج إلى من يحول دون الإجهاز على ما تبقى من روح إسلامية في المجتمع التركي، ولذلك سيعلن ميلاد "سعيد الجديد" قاطعا العلاقة مع السياسة، ومنبريا لإنقاذ الإيمان. ولم يعمل النورسي خلال هذه المرحلة الجديدة على توجيه محبّيه إلى معارضة الأفكار العلمانية بصورة علنية بل "وجّههم لتشكيل عالم ذاتي لا تصله هذه التغييرات، والمحافظة على هذا العالم من تدخل الدولة. وطالب سعيد النورسي المسلمين بإصلاح حياتهم والانشغال بأنفسهم وعالمهم الداخلي"[83].

لقد ركز النورسي في هذه المرحلة على أمرين:

•   الأول هو إيجاد مساحة معنوية تكون بمثابة الحصانة ضد التغييرات التي كانت الجمهورية تجتهد في إدخال كل الأتراك في إطارها من خلال فرض الفكرة العلمانية بالمفهوم الذي فهمه كمال أتاتورك. وأما المستهدف في مشروع النورسي فهو "الفرد المسلم والأسرة المسلمة، وأوضح أن ذينك المستهدفين لا يمكن للحكومة مجابهتهما، ولا التدخل في خصوصيتها؛ فالحكومة والنظام الأمني يتعامل مع الملموس ولا يدخل القلوب، ومن هنا جعل كفاحه متعمقًا، مستهدفا الفرد، ناظرا إليه على أنه نواة الأمة وآلية الحياة"[84].

•   الثاني السعي إلى إيجاد رؤية إيمانية تراعي معطيات الواقع العصري الذي حققت فيه العلوم الطبيعية تقدما كبيرا يفتن الألباب ويأخذ العقول، ووظفت توظيفا من أجل نشر الشبهات حول الإسلام. وقد تمكن من خلال رسائل النور أن يبني منظومة من الأدلة المستقاة من القرآن الكريم ومن التدبير المتأني في الظواهر الكونية أو ما كان يطلق عليه "القرآن المنظور".

تمكن سعيد النورسي خلال سنوات طويلة من المنافي والسجون أن يؤلف مجموعة من الرسائل في حقائق الإيمان أطلق عليها فيما بعد "رسائل النور". وقصة انتشار هذه الرسائل في أرجاء تركيا جديرة بالاهتمام، فأمام الحصار الذي ضرب على بديع الزمان سعيد النورسي وبالنظر إلى الحصار الذي مارسته السلطة الحاكمة على كل ما له علاقة بالإسلام وخاصة نشر الكتب الإسلامية، كان النسخ باليد هو الوسيلة التي لجأ إليها النورسي في نشر رسائله بين الناس في مختلف أنحاء تركيا؛ وذلك بالاعتماد على شبكة من النسّاخ مقتنعين بفكر النورسي وبفكر الرسائل. وبسبب هذه الرسائل حُوكم النورسي بتهمة المس بأمن الدولة والعمل على تكوين دولة إسلامية، لكنه كان في كل مرة يبرأ ولا تستطيع لجان الفحص العديدة التي فحصت الرسائل أن تعثر على ما يدين النورسي ويدين الرسائل حيث أكدت العديد من الخبرات التي أنجزتها اللجان العلمية بأمر من السلطات القضائية والسياسية خلوها من أي إشارة إلى قضايا سياسة واقتصارها على إبراز حقائق الإيمان.

وبناء على ما تقدم يمكن القول إن مشروع النورسي الإصلاحي قد اعتمد على المرتكزات الآتية:

أ- الفهم العميق لحاجة المجتمع

بعد قيام الجمهورية وتمكنها من بسط سلطتها على كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية، ويأس النورسي من أي أمل يرجى في الحكام الجدد وإدراكه بأن الواقع في حاجة إلى ما هو أقوى من مجرد مقالات صحفية ومواجهة السلطة الحاكمة المتسلطة بالمعارضة، أي إلى نوع آخر من المواجهة، لأن الذي قامت السلطة الجديدة كان ثورة استهدفت تغيير العقليات والثقافة، وكان من اللازم -كما تصور النورسي- دون الإفصاح عن ذلك مباشرة هو القيام بثورة أخرى تستهدف إعادة ربط المجتمع بهويته العقدية والإيمانية. يقول طارق عبد الجليل السيد: "مع تأسيس الجمهورية التركية وحدوث الانقلابات الاجتماعية والسياسية داخل تركيا، أحس سعيد القديم بأن أنشطته القديمة في إصلاح الدولة عن طريق كتابة المقالات من الصحف والمجلات والمشاركة السياسية في الهَيْئَات والجمعيات، وكذلك جهوده في الدفاع عن قضايا الوحدة الإسلامية، لم تعد تجْد شيئا، وأن مرحلة جديدة بدأت في الحياة السياسية والاجتماعية بتركيا غيرت سلم الأولويات، وقلبت الموازين الاجتماعية والقيمية والتوجهات السياسة الخارجية رأسًا على عقب"[85].

ولذلك فقد رأى بأن إنقاذ الإيمان هو السبيل إلى ذلك وبأنه هو العنصر الذي يعتلي سلّم الأولويات بالنسبة للإصلاح، كان يعتقد بأن المنهج يجب أن يكون منسجما مع الفطرة وقوانينها التي هي نفسها القوانين المتحكمة في الكون.[86]

إن أهم ما يستشف من توجه النورسي الجديد هو القيام بنوع من الجهاد المعنوي الذي يستهدف بناء المجتمع. وهذا هو تفسير إلحاحه على الاهتمام بالرسائل باعتبارها إلهاما من الله، مع حرصه على أن تكون هي الغذاء الفكري الوحيد الذي يسمح للناس بأن يحافظوا على حصانتهم العقدية والإيمانية، وبأن يتمكنوا من الوقوف في وجه الأمواج العاتية الصادرة عن الفكر الطبيعي والتوجه العلماني للدولة.

ب- تربية الأجيال على هذه الروح المعنوية

يقول إحسان قاسم الصالحي في تقديمه لـ"الملاحق" عن طبيعة المرحلة من حيث طبيعة التوجه التربوي: "ومن هنا نرى أن مرحلتي "بَارْلا" و"قَسْطَمُوني" (1927م-1944م) وكذا أَمِيردَاغْ تتميز بالعمل السري التام والتأسيس السري الصامت، والتأكيد على الحذر الشديد لإرساء القواعد وتربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل، والوفاء الخاص والشغف بالدعوة والارتباط المتين بها"[87]. لم يكن النورسي في أي لحظة معنيا بأن يكثر الأتباع بقدر ما كان معنيا بالكيف، فالعمل الذي استقر في داخله إنجازه أو بالأحرى ألهمه الله إنجازه هو إيجاد جماعة من المخلصين المؤمنين بالفكرة، الأقوياء في ذواتهم، والواثقين بوعد الله.

وتربية هذا الجيل التأسيسي لا بد له من الشقّين وهما الرجل والمرأة؛ فلقد آمن النورسي بأن الاعتماد على شق واحد قد يكون عنصر تكسير لشوكة العمل لعلمه بأن توحد جهود الطرفين معًا سكون عنصر قوة للعمل.

وفي الإطار نفسه نلاحظ أن النورسي دائم الإلحاح على أهمية الشباب وضرورة إعدادهم الإعداد اللازم للقيام بالمهمة الجليلة، وذلك لأنهم يمثلون المستقبل؛ وعدم إنقاذ إيمان أجيال الشباب، يعني أن المستقبل لن يكون على الصورة التي كان النورسي يطمح إليها. ونظرا لأهمية عنصر الشباب، ونظرا كذلك لمعرفة النورسي بالمخاطر التي تحف بهم في ظل الواقع الجديد، كان النورسي (رحمه الله) كثير الإلحاح على توجيه الخطاب إليهم حاثّا إياهم على الالتزام بروح الدين وتحذيرهم من مغبة الانزلاق إلى الشراك الكثيرة جدا المنصوبة لهم في كل مكان وفي كل وقت وحين.

وكما اهتم النورسي بالشباب اهتم بالمرأة لكونها العنصر المكمل لدور الرجل، بل لأن المرأة في نظر النورسي هي المجتمع كله، ولذلك ألح على ضرورة العناية بها وضرورة اشتراكها في المشروع الإصلاحي الذي آمن به، لعلمه بأن إعداد المرأة الإعداد اللازم هو إعداد لمجتمع المستقبل، وهو كذلك إعداد للقاعدة الأساسية لصلاح المجتمع.

وفي الإطار نفسه وجدنا النورسي يلح على ضرورة الاهتمام بالأسرة والبيت المسلم، وضرورة إعداد أفراده إعدادا يتناسب مع توجيهات القرآن الكريم، ومع السنن الكونية. واهتمام النورسي بهذا المكون هو في العمق اهتمام بمكون مركزي في المجتمع، لأن إصلاح المجتمع لا يتأتى إلا بإصلاح المكونات الصغرى، والأسرة أهم هذه المكونات الصغرى.

يعتبر النورسي محطة ذات أهمية كبيرة جدا لا يمكن المرور عليها عندما يتعلق الأمر بالفكر الإصلاحي الحديث في تركيا. فلقد أثر بوجه أو بآخر في جهود العمل الإصلاحي في تركيا الحديثة أو في تركيا الجمهورية. لقد كانت أفكار النورسي من خلال رسائله منارة ترسم منهج إعادة بناء المجتمع وبناء الإنسان بصورة هادئة دون صدام أو مواجهة مع السلطة الحاكمة. ولقد كان إيمانه بهذا الهدف السامي هو المحرك القوي الذي جعل "سعيد الجديد" يلعن السياسة ويتعوذ منها بقوله: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة". ولا ينبغي فهم ذلك على أنه هروب من المواجهة، بل هو الحكمة التي تعرف أن دخول معركة من المعارك دون وسائل وأدوات تعتبر معركة فاشلة وخاسرة، ولذلك فإن ترك السياسة بالنسبة للنورسي هو في العمق ترك لما يحول دون العمل الحقيقي وهو البناء. لأن السياسة مصدر للخلاف والتنازع ونشر الفرقة، والاشتغالُ بها هو اشتغال بما يفرق، ويؤدي إلى النزاع، ويلهي عن العمل الحقيقي وهو بناء المجتمع.

لم يكن النورسي بصورة ما بعيدا عن السياسة، لأنه ظل حاضرا في جوهرها، لكن بصورة غير مباشرة. وبغضّ النظر عن الأجيال المؤمنة التي ربطت بالقرآن وبالإسلام الصافي فإن أفكاره قد أثرت بصورة مباشرة في رؤية العديد من الحركات المدنية والسياسية. وهنا كذلك لا يمكن القول بأن أفكاره قد أثرت في الحركات ذات الاتجاه الإسلامي فحسب بل إن تأثيره قد امتد حتى إلى التيارات الأخرى اللبرالية والماركسية وغيرها، إما بدفعها إلى تغيير أفكارها بما يتلاءم وجود أفكار النورسي المنتشرة بين مختلف فئات المجتمع وطبقاته، وإما بالاقتباس من أفكاره ومنهجه، وإما بالتماس ود الجماعة سواء على حياته (مرحلة سعيد الثالث) أو بعد وفاته.

ولا يمكن تجاهل الدور الذي أدّته الدعوة النورية بصورة غير مباشرة في تغيير النظرة النمطية التي تحكمت في السلطة الحاكمة منذ إلغاء الخلافة سنة 1924م. فقد كانت أفكار النورسي وعمق انتشارها في المجتمع دافعا للسلطة السياسية في أن تعيد النظر في الكثير من مظاهر محاربة الإسلام في المجتمع التركي.

رفض النورسي الانخراط في السياسة حتى لا يكون الدين مطية للسياسة ولأجل ألا يكون أيديولوجية لتحقيق أهداف عابرة وليس نتائج دائمة.

ت- التركيز على الجماعة

كان النورسي في إطار منهجه الإصلاحي دائم الإلحاح على ضرورة العمل الجماعي وأفضليته على العمل الفردي، بل كان دائم الإلحاح على أن القوة حليفة العمل الجماعي والضعف حليف العمل الفردي، ولهذا كان النورسي حريصا على أن يذكر أصحابه وطلاب النور بضرورة التمسك بأسباب النجاح في العمل، وهي:

•   التعاون والاتحاد وعدم الاختلاف،

•   الإخلاص وابتغاء وجه الله.

وربما كان هذا الشعور هو الذي جعل النورسي ينوء بنفسه عن الرد على الخصوم وكذلك صار طلبة النور بعد وفاته رحمه الله. فلم يعرف على النورسي أنه رد على خصومه أو دخل معهم في جدل، والعلة كذلك واضحة؛ حيث يمكن اعتبار الرد على الخصوم ومجادلتهم نوعا من التناقض مع المرتكزات التي اعتبرها النورسي أساسية في مهمة الإصلاح، وهي محاربة الفرقة التي هي إلى جانب الفقر والجهل أهم أعداء الإنسان والمجتمع، والتي لا يتأتى إصلاح المجتمع دون محاربتها، ولذلك فالدخول في الجدل سبيل إلى إرساء الفرقة وبث النزاع بين فئات المجتمع.[88]

يقول طارق عبد الجليل: "ولعل صفة "جماعة العمل" عند النورسي بما فيها من مرونة في التعامل مع معارضيه، هي التي مكّنت حركة النور من الانتشار داخل الحياة الاجتماعية في تركيا ووصولها إلى فئات عديدة من الشعب، والنخب المثقفة، وكذلك سهلت لها الاستفادة من الخدمات المؤسسة بأجهزة الدولة. وخاصة كذلك بصورة لا تشعر النظام بالقلق اتجاهها، وكذلك مكنت لها الانتشار خارج حدود تركيا في آسيا الوسطى وفي أوربا وأمريكا وكذلك التواجد في الوطن العربي"[89].

8- دعوة فتح الله كولـن

من الأسئلة الأساسية التي تطرح عندما يتعلق الأمر بالأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، الأسئلة المتعلقة بمدى ارتباط دعوة الأستاذ فتح الله كولن بحركة النور. فشخصية الأستاذ فتح الله كولن شخصية ذات مؤهلات وقدرات خاصة، خطابية وكتابية، بالإضافة إلى مؤهلات أخرى سنتعرض لها لاحقا.

أهم ما يربط دعوة فتح الله بالحركة النورية هو الرسائل؛ فأدبيات الأستاذ فتح الله تشير في كثير من المواطن إلى أهمية رسائل النور وتشير إلى قيمتها التربوية، وهي موجودة ضمن المصادر المقررة إن صح هذا التعبير في منهج التربية المعتمد لدى المجموعة. وما يؤكد ذلك هو أن للأستاذ فتح الله مقالات حول شخصية الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.

إن تأثر الأستاذ فتح الله بالنورسي من خلال رسائل النور لا يمكن إنكاره ولا يمكن تجاهله ولا يمكن لأحد مهما بلغ من التعصب للأستاذ فتح الله كولن أن ينكر هذا التأثير. وهذا ليس بالأمر المستغرب لأن النورسي استطاع التأثير في أجيال من الأتراك وطبع الحياة الروحية والحياة الاجتماعية بطابع خاص لا يمكن إنكاره. ولكن مع كل ذلك فإن فتح الله كولن كما استفاد من الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، استفاد من غيره من أعلام الفكر في مختلف الحقول الدينية منها والصوفية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية. وقد مكّنته ثقافته العميقة والمتنوعة بالإضافة إلى شخصيته الحركية من أن يتفرد برؤية خاصة تمكنت من التغلغل في ثنايا المجتمع، واستطاعت أن تبني حركة مدنية جديرة بالاهتمام وجديرة بالدرس والتحليل. وهذه الحركة الحية ليست وليدة يوم وليلة بل هي وليدة عمر صرفه الأستاذ فتح الله في خدمة المجتمع وفي بناء الإنسان. لقد نذر حياته كلها لهذه المهمة السامية، بل يمكن القول: إن الأستاذ فتح الله قد حقق وصية الأستاذ بديع الزمان التي كانت تحث على أهمية رسائل النور التي هي تفسير للقرآن الكريم كما يقول إحسان قاسم الصالحي، بالإضافة إلى أن الأستاذ فتح الله قد استطاع بكل ما حصل عليه من معارف أن يُنزل فكر الأستاذ بديع الزمان إلى الواقع من خلال إقناع الناس بإنشاء المشاريع الحضارية النافعة التي تبني الحضارة وتعود بالنفع على الإنسان، واستطاع تقديم إضافات نوعية تجديدية إلى فكر سعيد النورسي.

يعتبر "مشروع الخدمة" مجالا يثير اهتمام علماء الاجتماع في العالم كله. ولا يكاد يمضي يوم دون أن يتم تنظيم ندوة أو مؤتمر أو تقدم محاضرة حول الأستاذ فتح الله في مختلف مناطق العالم، وخاصة في أمريكا وفي أوربا. الأمر الذي يفسر الأهمية المعرفية التي يكتسيها موضوع "الخدمة"، وفكر الأستاذ فتح الله كولن.

 

 

[1]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا: المؤسسة العسكرية والسياسة العامة، عقيل سعيد محفوظ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط:1، أبوظبي / الإمارات العربية المتحدة، 2008م، ص:59.

 [2]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:64.

 [3]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:67.

 [4]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:70.

 [5]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:71.

 [6]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:71-72.

 [7]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:74

 [8]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:74

 [9]     جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:83.

 [10]    الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية في تركيا، رشيد رضا - علي عبد الرزاق - عبد الرحمان الشهبندر، دار الطبيعة، بيروت.

 [11]    جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:88.

 [12]    جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:89.

 [13]    جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:89.

 [14]    جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:90.

 [15]    جدليات المجتمع والدولة في تركيا، عقيل سعيد محفوظ، ص:90-91.

 [16]    العثمانيون وابن خلدون، المقدمة، تفسر أسباب انحطاط الدولة العثمانية، خالد زيادة، مجلة المسيرة، العدد التاسع، المجلد الأول، 1980، ص:33-36.

 [17]    العثمانيون وابن خلدون، خالد زيادة، ص:34.

 [18]    أول مترجم للمقدمة إلى اللغة التركية هو "صاحب زادة" أو "بيري زادة"، كان يحتل منصب شيخ الإسلام في إسطنبول (توفي عام 1742م). وثاني مترجم هو "أحمد جودث باشا" المؤرخ (1822-1890م).

 [19]    "أسباب انحطاط الدولة أربعة: الحكم، الإدارة، الجيش، العلماء"، خالد زيادة، مجلة المسيرة، العدد:6، المجلد: 1 (1980م)، ص:14.

 [20]    أسباب انحطاط الدولة، خالد زيادة، ص:15.

 [21]    أسباب انحطاط الدولة، خالد زيادة، ص:18.

 [22]    "أول محاولة إسلامية لتنظير التقدم الأوربي"، خالد زيادة، مجلة المسيرة، العدد:8، المجلد: 1 (1980م)، ص:11-12.

 [23]    رفع إبراهيم متفرّقة سنة 1726م رسالة بعنوان "وسيلة الطباعة" إلى الوزير أحمد الثالث إبراهيم داماد، وإلى شيخ الإسلام شرح فيها فائدة إدخال فن الطباعة واستعماله بالنسبة للمسلمين، وأدّت هذه الرسالة دورها حيث سمحت بدخول الطباعة واستعمالها، لكنها كانت تحذر طبع الكتب الدينية، والمقصود بها الكتب الدينية الإسلامية.

 [24]    "أول محاولة إسلامية لتنظير التقدم الأوربي"، خالد زيادة، ص:12.

 [25]    انظر: "أول محاولة إسلامية لتنظير التقدم الأوربي"، خالد زيادة، ص: 13-14.

 [26]    "أول محاولة إسلامية لتنظير التقدم الأوربي"، خالد زيادة، ص:14.

 [27]    "أول محاولة إسلامية لتنظير التقدم الأوربي"، خالد زيادة، ص:16.

 [28]    سقوط الخلافة، عرب بلاد الشام والدولة العثمانية، د. محمد علي الأحمد، دار الإسراء للنشر والتوزيع، ودار حمورابي للنشر والتوزيع، عمان، ط:1، 1428هـ - 2007م، ص:117.

 [29]    انظر: الجذور التاريخية للثورة العربية الكبرى، في "دراسات في الثورة العربية الكبرى"، نقولا زيادة، الشركة الأردنية العالمية للنشر والتوزيع، ط:1، عمان/الأردن، 1969م، ص:19.

 [30]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:118.

 [31]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:119-154.

 [32]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:162.

 [33]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:162-163.

 [34]    مذكرات السلطان عبد الحميد، تحقيق وترجمة: د. محمد حرب، دار القلم، ط:3، دمشق 1412هـ / 1991م، ص:106.

 [35]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:166.

 [36]    سقوط الخلافة، د. محمد علي الأحمد، ص:229.

 [37]    انظر: العلمانية وآثارها على الأوضاع الإسلامية في تركيا، عبد الكريم المشهداني، ص:3.

 [38]    تاريخ المشرق العربي، عمر عبد العزيز عمر، ص:258.

 [39]    انظر: تاريخ المشرق العربي، عمر عبد العزيز عمر، ص:251-252.

 [40]    انظر: الدولة العثمانية والغزو الفكري حتى عام 1327هـ\1909م، خلف بن دبلان بن خضر الوذيناني، منشورات معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، 1417هـ\1996م، ص:272.

 [41]    الدولة العثمانية والغزو الفكري، خلف بن دبلان بن خضر الوذيناني، ص:294-295.

 [42]    الدولة العثمانية والغزو الفكري، خلف بن دبلان بن خضر الوذيناني، ص:305.

 [43]    الدولة العثمانية والغزو الفكري، خلف بن دبلان بن خضر الوذيناني، ص:317.

 [44]    تركيا: البحث عن المستقبل،ياسر أحمد حسن، الدار المصرية اللبنانية، ط:1، القاهرة 2006م، ص:20-21.

 [45]    تركيا الجمهورية الحائرة، مقاربات في الدين والسياسة والعلاقات الخارجية، محمد نور الدين، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، ط:1، بيروت 1998م، ص:15.

 [46]    تركيا الجمهورية الحائرة، محمد نور الدين، ص:15.

 [47]    انظر: تركيا الجمهورية الحائرة، محمد نور الدين، ص:21-22.

 [48]    تركيا الجمهورية الحائرة، محمد نور الدين، ص:42-45.

 [49]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، بدون دار طابعة، ط:1، مارس 1970م، ص:237.

 [50]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:238.

 [51]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:239.

 [52]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:239.

 [53]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:260.

 [54]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:260.

 [55]    أتاتورك منقذ تركيا وباني نهضتها الحديثة، سليم الصويص، ص:225-226.

 [56]    الإسلام والسياسة في تركيا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مرغريت حلو، مركز الدراسات الأرمينية، لبنان، ص:16.

 [57]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:14.

 [58]    Lewis Bernard, The emergence of modern Turkey, P: 11.

[59]

 [60]    انظر:

      REED Howard, Revival of islam in secular Turkey, Middle east journal. Summer 1954: P 267.

[61]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:32.

 [62]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:32-33.

 [63]    The emergence of Modes of modern Turkey: P267.

[64]

 [65]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، الهامش:60، ص:47.

 [66]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:48.

 [67]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:49.

 [68]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:49.

 [69]    انظر: برنارد لويس نهضة تركيا الحديثة،

The emergence of Modern turkey, p:411.

[70]    REED Howard, Revival of Islam in Secular turkey: Middle east journal, p:271-272.

[71]

[72]

 [73]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:57.

 [74]    الإسلام والسياسة في تركيا، مرغريت حلو، ص:59.

 [75]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها ومستقبلها (دراسة حول الصراع بين الدين والدولة في تركيا)، أحمد نورى النعيمي، دار البشير، ط:1، عمان/الأردن، 1413هـ- 1993م، ص:7.

 [76]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:36.

 [77]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:157.

 [78]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:157.

 [79]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:157-158.

 [80]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:158.

 [81]    الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، أحمد نورى النعيمي، ص:158.

 [82]    انظر: رجل القدر في حياة أمة، أورخان محمد علي، ص:37.

 [83]    رجل القدر في حياة أمة، أورخان محمد علي، ص:126.

 [84]    رجل القدر في حياة أمة، أورخان محمد علي، ص:126.

 [85]    الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة، طارق عبد الجليل السيد، دراسة في الفكر والممارسة، جواد الشرق للنشر والتوزيع، القاهرة 1421هـ-2001م، ص:175.

 [86]    انظر: المكتوبات، سعيد النورسي، ص:362؛ صقيل الإسلام، سعيد النورسي، ص:215.

 [87]    الملاحق في فقه دعوة، سعيد النورسي، المقدمة، ص:7-8.

 [88]    انظر: الملاحق، سعيد النورسي، ص:199، 285.

 [89]    الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة، طارق عبد الجليل السيد، ص:194-195.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.