القسم الثالث: بين مالك بن نبي وفتح الله كولن
مالك بن نبي.. من سمات التخلف إلى بذور الحضارة[1]
تعرَّفت على مالك بن نبي في يوم من أيام الله ولما أتجاوز التاسعة عشرة من العمر، كنت طالبًا في ثانوية "مفدي زكرياء" أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، وكان لأستاذ اللغة العربية "ابن ساحة" الفضلُ في ذلك. ولعلِّي سمعتُ اسم "مالك بن نبي" وتعجبتُ من هذه الصيغة في إحدى دروس اللغة العربية التي كان أستاذي يديرها بنجاح وإبداع منقطع النظير
التشبُّه بالكرام فلاح
أوَّل كتاب قرأته هو "مذكرات شاهد للقرن" باللغة العربية، مرحلة "الطفل" ثم "الطالب"، ولهذا الاختيار دافع معقول هو أنني -وأنا الدارس في شعبة الرياضيات- وددتُ الدخول في شعبة أدبية فكرية اجتماعية، ولم يكن المحيط يحبِّذ مثل هذا "النزول" من مستوى هو الأعلى، إلى مستوى -في عين الجميع- هو الأدنى، غير أني وجدتُ في مالك بن نبي الأنموذجَ والمثال، فهو المهندس الذي تحوَّل من "المعادلات الرياضية" و"الرسوم الصناعية"، إلى "النظريات الحضارية" و"المعالجات الفكرية". فصادف -بهذا- هوىً في نفسي وأمدَّني بالراحة والطمأنينة، وكنت دومًا أفتخر بهذا التشابه وإن لم يكن عميقًا، إلا أن التشبُّه بالكرام فلاح.
ثم بعد توقُّفي عن الدراسة في جامعة باب الزوار للعلوم والتكنولوجيا، سنة 1988م، والتحاقي بالمعهد العالي لأصول الدين في الجامعة المركزية، شاء الله أن تُفتح نافذة الحرية على كتب مالك بن نبي مع الانفتاح السياسيِّ، وأن تدخل عناوينه إلى السوق الجزائرية باللغة العربية، فاشتريتها من مكتبة "العالم الثالث" بشارع العربي بن مهيدي بأثمان تبدو اليوم بخسة (من 30 إلى 60 دينارًا جزائريًّا للعنوان الواحد).
ثم التزمتُ مطالعتها كاملة، ووجدت فيها الملاذ والمأوى لعالم الأفكار الذي غاب كليَّة عن ساحة المعهد، وحل محله الطرح التراثي الكلامي المذهبي المسطح. فكانت جامعتي هي "مالك بن نبي" لا "المعهد العالي"، إلى جوار بعض الأسماء المعتبرة مثل: محمد إقبال، وأبو الأعلى المودودي، ووحيد الدين خان... إضافة إلى أساتذتي -الآخذين بيدي- الدكاترة: محمد ناصر، ومحمد الزيني، وأحمد موساوي.
وفي بدايات التسعينيات عرض عليَّ ناشرٌ لبنانيٌّ قائمةَ إصدارات دار الفكر، وهو صاحب دار الملكية بالجزائر، وطلب مني وضع علامة على العناوين التي يترجَّح رواجُها في الجزائر، فلم أفكِّر طويلاً حتى وضعت العلامة على جميع مؤلَّفات مالك بن نبي، وما هي إلا أشهر حتى غطى اسم مالك بن نبي أرفف المكتبات التي طالما طاردته وأبعدته وتنكرت له.
وكنت بين الحين والحين أعود إلى ابن نبي لفهم ظاهرة أو لتفسير أزمة أو لمراجعة فكرة... وبخاصَّة مع تصاعد الفتن في الجزائر، وضياع الأمل في "جزائر عزيزة متمكنة قوية"، وتعدُّد مستويات الأزمات وتنوُّعها، محليًّا ووطنيًّا ودوليًّا.
غير أن العجيب حقًّا في هذه الأيام وقد عقدت العزم على إعادة مطالعة جميع العناوين التي بين يدي مما ألَّف ابن نبي، العجيبُ حقًّا أنني اكتشفتُ في أرفف "معهد المناهج" مذكرات شاهد للقرن باللغة الفرنسية، نشر "سمر للنشر والتوزيع" سنة 2006م، وما إن قارنتها بالنسخة العربية حتى عرفت أنَّ ما تُرجم إلى اللغة العربية هو أقل من نصف المذكرات، وهو ينتهي إلى سنة 1939م، أمَّا من هذا التاريخ إلى سنة وفاته 1973م، فقد أودع في جزأين آخرين بعد "الطفل" و"الطالب"، وهما "الكاتب" و"الدفاتر"، وقد سمى جزءًا من "الكاتب" باسمٍ كنتُ قد عرفته من قبل، ولم يشأ الله أن أقرأه وهو "العفن"(Pourritures)
ومع سفري إلى "قسنطينة" وهي المدينة التي عرفت الكثير من أحداث حياة الرجل، وهي تعرفه ويعرفها جيدًا، فهي القريبة من مسقط رأسه "تبسة"، حملتُ معي الكتاب لعلّي أطالعه في الطريق أو قبيل النوم، وكان في حقيبتي -أو بالأحرى في جهاز الكمبيوتر المحمول- مشروع "تفعيل المرجعية الإباضية الميزابية".
بعد اشتغالي في المشروع وكتابة بعض فصوله متأثرًا بكتاب "فكرة الأفرو-آسيوية"، تحوّلت مذكِّرات ابن نبي إلى محور لبرنامجي اليوميِّ. وقد هالني ما اكتشفتُ من معاناة الرجل مما لم أكن أعرفه من قبلُ؛ حتى صرت اليوم متيقنًا أنَّ مالك بن نبي لم يكن يؤلف مقالاته، بل كان يعيشها بصبره كلمةً كلمةً، وينحتها من محنه وإحنه فكرةً فكرةً. فيصدق -اليومَ- أن يقال فيه "الرجل هو الفكر، والفكر هو الرجل".
من معاناة مالك بن نبي
فمالك بن نبي -من خلال مذكِّراته- قد سُجن وعُذِّب وحُوصر وأُفقرت أسرته (أبوه وأخته وكلُّ محيطه) وسُجنت زوجته مرَّات، وعرَف "الهجرة" كما سماها، وهي محاولة الهروب إلى الخارج بالأرجل، وعانى الأمرَّين في سبيل نشر أعماله، وفكَّر مرارًا في الانتحار، وكان معوزًا مُنعت عنه كلُّ أسباب التوظيف، وعرف بعض المناصب الشاقَّة التي تستدعي الجهد العضليَّ وهو المتعب المريض.
ولكن الذي أفرغ جعبته من الصبر وجعله يدعو الله أن يعجِّل الموت له، هو الهجران والحصار الذي فرضه عليه أبناء المستعمَرات من العرب والمسلمين بفعل "القابلية للاستعمار"، سواء بالتواطؤ مع المستعمِر، أو عن جهل وغفلة، أو لأمور أخرى لم يستطع تحديدها.
ولقد عانى الأمرَّين مع الحركات الوطنية بكلِّ أطيافها، وعرف في بعض "الزعامات" كلَّ معاني الخسَّة والرذيلة، وتيقَّن أنَّ أغلبهم طلاَّب سلطة، وجلَّهم أخطبوط يبتز الشعب ويغتال الأمل لمآربه الخاصة. وقلَّ منهم من مات مؤمنًا بمواقفه، منافحًا عن دينه ووطنه. وهؤلاء -عمومًا- كانوا تحت وطأة الأيادي الخفية والظاهرة للاستعمار، بالتنسيق مع القلوب الضعيفة والمنافقة لأبناء المستعمرات.
ويكفي أن ندرك أنَّ الرجل -وهو مَن هو- قد عرف الجوع وشارف على الهلاك مرارا، وقد اقتسم مع الطلبة الجامعيين غرفتهم وهو في الخمسينيات من عمره بالقاهرة، وقد أُرغِم على ترك عائلته سنوات وهو لا يعرف عنها شيئًا، ويدعو الله أن يكون قد رزقها الموت "لأنه أرحم عليهم من الحياة" كمال قال.
إطلالة على مذكرات ابن نبي
وقد شرع الرجل في تأليف "الظاهرة القرآنية" تحت قصف قنابل الألمان في الحرب العالمية الثانية، وكتبَ معظم مؤلفاته دون اعتماد المكتبات والمصادر، لأنه حُرم منها عن قصد من قِبَل الداخل والخارج.
وهو الذي كتب بتاريخ 22 مايو 1958م: "منذ خمسة أيام وأنا أحسُّ الفراغ تحت قدميَّ، والضباب أمام ناظريَّ، والأسف داخل أحشائي.." إلى أن يقول: "كلُّ مطلع شمس في مثل هذه الفترة العصيبة عليَّ، أستيقظ من النوم لأقول: هل هو يوم آخر؟! لا أعرف أحيانًا ما هي شخصيتي الحقيقية، فأنا نقطة تصارع بين جميع المتناقضات التي يمكنها أن توجد في إنسان على ظهر الأرض".
ويكتب في تاريخ آخر من دفاتره ومذكراته: "مرَّة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشك في كلِّ شيء... إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا ربِّ، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب".
تحويل العلم إلى عمل
أنا لست هنا مهتمًّا بعرض هذه المذكرات ولا مولعًا بالغرابة والترف الفكري، ولست بحاجة لبيان حجم المعلومات، فالكتاب الأصلي كفيل بإعطاء الصورة الحقيقية لما أقول، إنما وددتُ أن أُسقط ما قرأت على واقعنا اليوم، بعد مضي ما يقارب أربعين عامًا على وفاة الرجل.
أردتُ أن أقارن بين ذاتي بكلِّ حماقاتها وضعفها، وهذه الذات التي خرقت حُجب الكون واستقرت عند باريها، صابرة محتسبة رغم كلِّ المعاناة التي لا تتحملها الجبال الشامخة، ولا الأكوان الشاهقة.
فالرخاء الذي يحيط حياتنا هو -ولا شك- نعمةٌ من الخالق المنَّان. لكن -للأسف- إنه يترك قلمنا باردًا مهزومًا، يذره بعيدًا عن واقع الحياة -كما هي- هو أقرب إلى ترديد الصدى ومضغ الحجر منه إلى تغيير النفوس وإحداث الانقلابات الفكرية في دنيا الناس.
ما العمل وأنا حائر في منعرج فكريٍّ لمَّا أجد له الجواب الكافي؟ ما العمل وإشكالية تحويل العلم إلى عمل والفكرةِ إلى فعل، تقضُّ مضجعي وتذيقني العلقم آناء الليل وأطراف النهار؟ ما العمل وفي تقديري أنَّ الأمة الإسلامية لا تزال تدور في دائرة مفرغة من المشاكل والمعيقات والأزمات الذاتية والنفسية والداخلية... تحركها الأيدي الاستعمارية السياسية الخارجية؟
وأعيد السؤال على نفسي آلاف المرات: ما هو خطي الفكري؟ ما هي رسالتي؟ ما هو منهجي؟ وما هي أفعالي؟ وما قيمة علمي؟ وما نسبة فعلي إلى فكري؟
أعيش الفراغ الكوني والأسئلة المحيّرة، ولا أجد لها جوابًا، وقد تعالت أصوات الادِّعاء، وكثر اللغط، واستَشْرَت الخطابةُ، وتعلَّق الناس -إلا من رحم ربي- بالألفاظ والكلمات والأشكال والمظاهر، فأعرضوا عن المحتويات وعن حقائق الأمور والصدق والجهاد.
وتزداد هذه الحال استحكامًا كلَّما تكالبت السياسة على الأخلاق، وكلَّما نهشت ذئاب الخيانة أرواح المغفلين، وكلَّما سادت القردة والزعانف والرعاع.
تزداد كلَّما صفَّق الجمهور للمسرحية، وتأخَّر زمن النصر الحقِّ، وخاب الأمل في نهاية النفق، وتيقَّن اللبيب بطول الليل وبشدّة البرد على عالمنا الإسلامي الحائر.
غربة المفكرين وآلام التفكير
وقد ظننت أني أعيش هذه الغُربة وحدي، لكنني يوم كتبت "آلام التفكير" -في موقع فييكوس- بدا وكأنَّ العديد من العقلاء يتجرَّعون علقم هذه الفتنة، ولا يملكون الوسائل التي بها يعبِّرون، ولا اللغة التي بها يكتبون، ولا الفكر الذي به يحلِّلون... فهم أحياء داخل جسم ميتٍ، ومنتبهون بين شعب مرتاح إلى نوم مميت.
فكيف نجمع شتات هؤلاء في صفٍّ واحد؟ وكيف نصنع من الأطراف المترامية هيكلاً متينًا؟ مَن لها؟ ومتى؟ وبأي منهج وفكر؟
جُرّبت الثورات فلم تفلح؛ ذلك أنها زرعت الدم والقتل والإبادة، عوضَ الحياة والأمل والعمل.
جُرّبت الكتب والمقالات، غير أنها خاطبت بعض الناس، ونبّهت بعض الأفئدة، ولم تلج إلى قرارة النفوس لتغيِّرها، ولا إلى أغوار العقول لتصقلها.
جُرّبت المدارس والمعاهد، فأثمرت رجالاً ليسوا الأسوأ في الميدان، ولكنهم يقينًا لم يكونوا الأحسنَ والأجدر بصنع واقع مختلف تمامًا عن أيِّ مرحلة تاريخية أخرى عرفها العالم الإسلامي.
جُرّبت الحركات والجماعات، فجرَّدت أتباعها من الإحساس الحضاريِّ العام، وبدَّلتهم بإحساس ذاتيٍّ مفرد، ينظر إلى العالم من كُوَّة مغلقة، فيفسِّر الكون كلَّه من زاويته الضيِّقة، ويختزل الحقيقة فيما بلغه عن "زعيمه" أو "مرشده"، وهو قابع في الدهاليز وداخل البنايات، بعيدًا عن سعة الكون والحياة.
الفرد يحمل بذرة المجموع
ماذا بقي لنا أن نجرِّب إذن؟ هل من الحكمة أن نتوقَّف هنيهة، ونفكِّر مليًّا، ونعيد قراءة الواقع ببصيرة، ونجتهد في قراءة الأدلَّة والنصوص بوعي ودراية، ثم نقترح الدواء اللائق والشفاء الرائق؟
أولم يفعل ذلك بعض العلماء -منهم مالك بن نبي- فلم يفلحوا، ولم يغيّروا هذا الواقع التغيير المنشود؟
أقول -والله أعلم- الخرقُ أوسع من أن تخيطه إبرة واحدةٌ، والجرح أعقد من أن يشفيه دواء واحد، والأرض أظمأ من أن تسقيها قطرة واحدة، والفؤاد أفرغ من أن يعمره أمل واحد، والفكر أجدب من أن تحييه فكرة واحدة.
ولنجرِّب جمع الطاقات جميعها على صعيد واحد، لكن شريطة أن يكون مفطورا في خلية كلٍّ منها ما يدفعها للاجتماع والتكتُّل، تمامًا مثل الفطرة التي تحملها الطيور وهي تحلِّق في أسراب، تُحسب بالألوف والملايين، في نظام متسق ومتناغم، ذلك أنَّ الفرد يحمل بذرة المجموع، وأنَّ المجموع يتكوَّن من قوَّة الأفراد.
وحتى يتمكن أيُّ طرف من الالتحاق بالمجموع، يجب عليه أن يتخلى عن فكرة "أنا ولا أحد"، وفكرة "الصواب المطلق معي والخطأ المطلق مع غيري"، وفكرة "بي يصلح الوجود وبغيري يخرب"... ففنُّ الاجتماع قد يكون أحيانًا كسبيًّا، ولكنه في كثير من الأحيان يكون فطريًّا، يُنْبئ عن معدن الفرد، مصداقًا لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا»(متفق عليه).
فلتكن –أخي- من المعدن الصالح الذي يزرع بذور الحضارة بعد أن يستأصل سمات التخلف، غير مكترث ولا آبهٍ بما يُقال عنه أو بما يقال فيه. فالله سبحانه وتعالى وحده هو الكفيل أن يبارك خطواته، وهو الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو القائل: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(التوبة:105).
مشكلة المعرفة، والخصوصية الإسلامية عند مالك بن نبي
لو كان مالك بن نبي عالما متخصِّصا، محشورا في زاوية ضيِّقة من زوايا المعرفة البشرية، لكان البحثُ في "مشكلة المعرفة" عنده أمرًا هيِّنا، يكفي فيه بعضُ الجهد حتى يستوي على سوقه؛ لكن، ما دام الرجل موسوعة معرفية عميقة، ومشروعا فكريا عالميا، ونسقا منهجيا متميزا، فإنَّ صياغة محاضرةٍ، أو مقالٍ، أو بحثٍ، عن نظرية المعرفة في نتاجه يصبح أمرا مستعصيا؛ ولذا لا بدَّ أن أنبِّه أنَّ هذا العمل لا يعدو أن يكون مقاربة، ومدخلا، ومحاولة، يستتبع جهودا أخرى مكثفة، أطول نفسا، وأوفر جهدا ووقتا.
بدايةً، سنتعرض لـ"مشكلة المعرفة" كما هي في المصادر المتخصصة، ثم نقيس ما أنتجه مالك بن نبي في عناوين هذه المشكلة البعيدة الغور في حقل "الفلسفة" و"نظرية المعرفة" و"الأبستيمولوجيا"؛ معتمدين على أسلوب الاستشكال أكثر من أسلوب الحكم والقطع والختم، ذلك أنَّ الحوار الفعَّال حريٌّ بإجلاء الصورة وتوضيحها، ولقد قرَّر بعض العلماء أنَّ "الاستشكال علمٌ"، وهو مفيد إذا لم يحِد عن الأمانة والانضباط والوضوح.
فلنحاول أن نكون كذلك في هذه المداخلة، سائلين الله التوفيق والسداد.
مشكلة المعرفة
يقول محمد باقر الصدر، في كتابة "فلسفتنا": "تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادَّة، تحتلُّ مركزًا رئيسًا في الفلسفة، وخاصَّة
الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفيِّ لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها. وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأولية للكيان الفكري الجبار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكوَّنت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار ومفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟"[2].
فلا يمكن إذن أن يقيم عالم صرحا أو نظرية فلسفية دون ضبط مشكلة المعرفة؛ من هنا، وبما أنَّ ابن نبي، باتفاق الباحثين والدارسين، هو صاحب مشروع فكري حضاري فلسفي، فلا بد إذن أن يكون له حضور في قضايا "مشكلة المعرفة"، وإذا ما رمنا التبسيط، فإننا نحدد المشكلات التي تتثيرها نظرية المعرفة في الإجابة على الأسئلة الثلاثة الآتية:
"أولا: طبيعة المعرفة الإنسانية.
ثانيا: مصادر المعرفة.
ثالثا: حدود المعرفة وإمكاناتها"[3].
وسنحاول أن نعرِّف كل ركن من هذه الأركان على حده، انطلاقا من طبيعة المعرفة، التي هي الركيزة والمبتدأ.
طبيعة المعرفة
عن طبيعة المعرفة يبرز السؤال الجوهريُّ حول معيار الحقيقة: "هل هو الوضوح والبداهة، أم النجاح والمنفعة"... ترى الأطروحة الأولى أنَّ مصدر المعرفة من طبيعة عقلية؛ فالمعارف هي نتاجٌ عقليٌّ وليست مجرَّد نسخٍ مطابقة للواقع، ومن هذا المنطلق فإنَّ معيار الحقيقة هو العقل الذي أنتج المعرفة، وعلامة ذلك الوضوحُ والبداهة... وتعود هذه الأطروحة إلى فلسفة "أفلاطون" الذي قال في كتابه "الجمهورية": "من الواجب على النفس الباحثة عن الحقيقة أن تمزِّق حجاب البدن، وأن تنجو من عبوديته، وأن تظهر ذاتها بالتأمُّل".
وفي الفلسفة الحديثة اعتمد "ديكارت" في بناء الحقيقة على العقل، ورفض الحواس؛ لأنها خدَّاعة، قال في كتابه "حديث الطريقة": "لا أتلقى على الإطلاق شيئا على أنّه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك".. ويقول في موضع آخر: "كنت دوما شديد الرغبة في تعلم التمييز بين الحق والباطل، حتى أنظر بتبصر في أفعالي، وأسير بأمان في هذه الحياة"[4].
أمَّا الأطروحة الثانية فتتمثل في "المذهب البراغماتي"، وهي ترى أنَّ الحقيقة تقاس بمعيار النجاح والمنفعة، أي بمطابقة الأشياء لمنفعتنا لا مطابقة الفكر لذاته أو للأشياء الخارجية... ترتبط هذه الأطروحة بالفيلسوف الأمريكي "بيرس" الذي قال: "المعرفة كائن ما كانت لا تستحق هذا الاسم إلاَّ إذا كانت لها نتائج عملية يمكن لكلِّ إنسان أن يشاهدها إذا أراد".. وتعمَّقت هذه الأطروحة على يد "وليم جيمس" الذي قال في كتابه "محاضرات في البراغماتية": "الحقُّ ليس إلاَّ التفكير الملائم لغايته، والصواب ليس إلاَّ الفعل الملائم في مجال السلوك". ويُعتبر "جون ديوي" حلقة إضافية في سلسلة المذهب البراغماتي، حيث ربط بين التفكير والمنفعة قال في كتابه "كيف نفكِّر"، مؤكِّدا أنه "يبدأ التفكير إذا اعترضت الإنسان مشكلة تتطلَّب الحل".
ويظهر اتجاه ثالث ينظر إلى الحقيقة نظرة تكاملية تجمع العقل والواقع والمنفعة في معيار واحد؛ فالإنسان عند "ابن خلدون" ولد خالٍ من المعرفة وباتصاله بالواقع شرع في بنائها؛ فالحواس -إذن- تقدِّم مادة المعرفة، والعقل ينظِّمها ويفسِّرها من خلال فكرة الزمان والمكان والسببية والغائية (مقولات العقل)، وكما قال "كانط": "الأفكار من دون مضمون حسيّ جوفاء، والإحساس من دون تصورات عقلية أعمى"، ومتى اتّحد العقل بالواقع تحققت المنفعة وانكشفت الحقيقة.
هذه هي المذاهب الثلاثة في تحديد طبيعة المعرفة، والسؤال المستنبط هو: ما هو مذهب ابن نبي؟ أهو عقلي، أم براغماتي، أم هو بين بين؟
أساسا، هل يمكن أن نعثر على موقف كامل، ورؤية واضحة، عند ابن نبي، في هذا الجدل الفلسفي التاريخي العميق؟
ذلك ما نحاول استجلاءه، وبدأ الغوص فيه، في مداخلتنا، تاركين التعمق والتفصيل لأوانه ولأربابه.
مصادر المعرفة
تبعا لتحديد طبيعة المعرفة، ونتيجةً لازمة عليها، انقسمت المدارس الفلسفية في تحديد مصادر المعرفة إلى مذاهب، من أبرزها:
1- المذهب التجريبي: الذي يرى أنَّ مصادر معارفنا كلَّها هي "الخبرة الحسية، ووسيلة اكتساب المعرفة هي الحواس وحدها" وينسب هذا المذهب إلى جملة من الفلاسفة على رأسهم "ديفيد هيوم"، و"جون لوك"[5].
2- المذهب العقلي: وهو لا ينكر الحواسَّ؛ ولكنه لا يجعلها مصدرا صادقا للمعرفة إذ "لا بدَّ من مصدر آخر للمعرفة غير الحواس. وليس ثمة مصدر آخر للمعرفة يمكن الركون إليه إلاَّ العقل، فما يصدر عن العقل صادق بالضرورة"[6]. ويقوم المذهب على فكرتين أساسيتين، هما "الشك في قدرة الحواس كوسيلة لنقل المعارف الضرورية عن العالم، والإيمان بالعقل كمصدر وحيد للمعرفة"[7].
3- ومن المنطقي أن يأتي المذهب الثالث، الذي يجمع بين المصدرين المتقدِّمين، والذي يُعرف بالمذهب النقدي، ليقرِّر على لسان "كانت" أنَّ "المعرفة لا تتم إلاَّ بالخبرة الحسية والمبادئ العقلية معا، ومن هذا يتضح أنَّ المذهب النقدي قد وقف بين الواقعية والتجريبية"[8].
من هذا المدخل، نسأل: ما هي مكانة الحواس في مصادر المعرفة عند ابن نبي؟ هل ينحو منحى المذهب العقلي؟ أم أنَّ الجمع بين الاثنين هو الصواب؟ لكن، كيف يتم الجمع، أليس هو نوعا من التلفيق لا غير؟
أين يصنف مالك بن نبي، موضوع هذا المبحث، في هذه الاتجاهات؟
إمكان المعرفة وحدودها
هل المعرفة ممكنة؟ وإذا كانت ممكنة فما حدودها؟ هذان هما السؤالان الرئيسان في هذا المبحث. ولقد ظهر -كما هو مفترض- مذهبان رئيسان، هما:
1-مذهب الشك: وهو مذهب ينكر إمكان المعرفة، وينكر كلَّ صورة من صور المعرفة، وهو مذهب "ينفي قدرة الإنسان على الحصول على معارف يقينية" وقد نبت هذا المذهب عند السوفسطائيين، بزعامة "بروتاجوراس وجورجياس".
2-مذهب اليقين والاعتقاد: وهو يقرر أنَّ ادعاء الشك باستحالة المعرفة ادعاء باطلٌ، ولقد قضى الفلاسفة على الشك باعتباره نظرية في المعرفة، وإن أبقوه منهجا في البحث لا مذهبا. فالشك الديكارتي مثلا هو "خطوة ضرورية... وهو منهج إلى حقيقة أولى، ووسيلة هادفة إلى يقين عقلي"[9]. ويتوزع اليقينيون إلى عدة مدارس، ليس المجال مجال عرضها وسردها.
من خلال هذين المذهبين في إمكان المعرفة، إلى أي اتجاه يميل ابن نبي؟ وأين عبَّر عن موقفه فيما ألَّف من كتب؟ أم أنه لم يتعرَّض لهذه الإشكالات إلاَّ عرضا، بما لا يسمح بالحكم المبرهن عليه في هذا النقاش؟
لا شكَّ أنَّ البحث والتنقيب في جملة ما كتب ابن نبي، وما كتب عنه، قد يفتح لنا نوافذ للجواب عن هذه الإشكالات، ولنحاول إذن اقتحام العقبة، والغوص في المسألة.
الخصوصية الإسلامية
تعالج بحوث "التأصيل" السؤال العميق: ماذا يعني أن يكون العلم إسلاميا؟ وقد عبَّرت مدرسة "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" عن ذلك بصياغتها لمفاهيم "أسلمة العلوم" أو "أسلمة المعرفة"، وبعيدا عن الجدل الدائر في مشروعية هذه الأسلمة من عدم مشروعيتها؛ فإنَّ الأسلمة معناها: "التأصيل الإسلامي للعلوم والمعارف، أو توجيه العلوم وجهة إسلامية، أو إسلام المعرفة، أو النظام المعرفي للإسلام، أو علم العلوم والمعارف".
وقد عرَّف الدكتور عماد الدين خليل مفهوم أسلمة المعرفة بكونها "ممارسة النشاط المعرفي كشفا وتجميعا وتوصيلا ونشرا؛ من زاوية التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة".
أمَّا الدكتور طه جابر العلواني، أحد روَّاد المعهد ومؤسِّسيه الأوائل، فيقول: "أسلمة المعرفة تمثِّل الجانب الذي يمكن أن نطلق عليه الجانب النظريَّ من الإسلام، أو الجانب المعرفيَّ، الذي يقابل الجانب النظريَّ في سواه".
وفي ورقتنا هذه، نطرح سؤالا دقيقا هو: ما هو مفهوم الخصوصية الإسلامية لنظرية المعرفة عند ابن نبي؟
يجتهد البعض في نقل نظرية المعرفة كما وردت في المصادر الغربية، ويحشر لها نصوصا قرآنية وحديثية، ويسمي ذلك: الخصوصية الإسلامية؛ بينما يرى آخرون أنَّ الخصوصية تعني النسبة إلى الفلاسفة المسلمين؛ يقول الصدر: "نظرية الانتزاع، وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة"[10].
فهل مالك بن نبي في خصوصيته الإسلامية تبنى المنهج الأول، أم هو من رواد المنهج الثاني، أم أنه صاحب منهج مختلف عنهما؟
في فكر ابن نبي
ألَّف ابن نبي ما يربو على عشرين عنوانا، بعضُها صدر على شكل مقالات، ثم جمع في عناوين منهجية، من ذلك نذكر "بين الرشاد والتيه"، والبعض الآخر ألقاه ابن نبي على شكل محاضرات، ثم جمعه، أو جمع من بعده في كتب مستقلة، نمثل لهذا النوع بـ"وجهة العالم الإسلامي"، و"مجالس دمشق". ومنها ما صدر مؤلفا مستقلا، اعتنى بصياغته كلية، أبرز العناوين في هذا النوع هي "الظاهرة القرآنية"، و"شروط النهضة"، و"مشكلة الثقافة"، و"مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي". وثمة أصناف أخرى، ليس المقام مقام تحليلها جميعا؛ ذلك أنَّ السؤال الحري بهذا البحث، هو: في أيٍّ من هذه المؤلفات عالج مالك بن نبي مشكلة المعرفة؟ وبأي نسبة؟ وما هي العناوين التي تعتبر مصدرا، وما هي تلك التي تعد مرجعا؟
لا شك أنَّ الجواب لا يملكه إلاَّ بحث متخصِّص، في وقت طويل، وبجهد مستقص، وهذا ما لا ندَّعيه، وما ينبغي لنا أن نفعل. غير أنَّ الحكم الأولي، وطول ممارستنا لمصادر ابن نبي، كلُّ ذلك يقضي أنَّ كتاب "مشكلة الأفكار"، ومن قبله "شروط النهضة"، و"مشكلة الثقافة"، هي المصادر الأساسية المعتمدة في استجلاء معالم نظرية المعرفة عند ابن نبي، وتأتي الكتب الأخرى على شكل تطبيقات، أو شروح، أو إضافات.
عن فكر ابن نبي
أوَّل ما يجمُل السؤال عنه هو: هل تمت معالجة نظرية المعرفة عند مالك بن نبي من قِبل باحثين متقدِّمين؛ سواء في دراسات وبحوث أكاديمية، أم في مقالات علمية، أم ضمن أجزاء من مؤلفات خاصة؟
لقد حلل زكي الميلاد "نظرية الثقافة عند مالك بن نبي"، تحت عنوان "نحو قراءة معرفية جديدة"، وقد تناول الباحث بالخصوص الفرقَ بين "الثقافة" و"العلم"، وخطورة الخلط بينهما في المجال الفكري، وعلى هذا الأساس "تصبح الثقافة -كما يقول- نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن قياس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم".
غير أنَّ زكي الميلاد لم يتطرق للعناوين الرئيسة، والإشكالات الأساسية لنظرية المعرفة عند مالك بن نبي، وعلى كلٍّ ليس هذا مقصده من بحثه.[11]
أمَّا محمد إبراهيم فقد تعرَّض في مقال له إلى "مشكلة الأفكار عند مالك بن نبي"؛ غير أنه -للأسف- نقل شذرات وومضات من فكر الرجل، لا يربط بينها رابط، والمقال مخلٌّ جدًّا، لا يرقى إلى مستوى التحليل الفلسفي العلميِّ المتخصص.[12]
أمَّا الدكتور مصطفى عشوي، ففي مقال له بعنوان: "إنسان الحضارة في فكر ابن نبي"، فقد أبدع في عرض الجوانب الأساسية في الإنسان في فكر مالك بن نبي: "الجانب الروحي، والجانب الجسمي، والجانب الوجداني، والجانب العقلي"؛ وفي الجانب العقلي أورد بعض الملامح عن مشكلة المعرفة عن ابن نبي، وبالخصوص علاقة الأفكار بالعمل، أو ما عرف بالمنطق العملي. ويبقى المقال جادا وهاما، غير أنه ليس متخصصا في نظرية المعرفة عن مفكرنا.
ومن الضروري، كي يكتمل الحكم فيما كتب مالك بن نبي، وما كتب عنه، حول نظرية المعرفة، أن تجرى بحوث استقصائية طويلة النفس، لعلها تليق رسائل للماجستير وأطروحات للدكتوراه، في مستوى أهمية الموضوع، وأثره على مسار الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر.
أما في سياقنا، فيكفي أن نذكر أننا لم نعثر على عمل علميٍّ واحد عالج نظرية المعرفة عند مالك بن نبي، وهذا لا ينفي وجوده، طبعا.
للإجابة على الأسئلة والإشكالات السابقة، نجد أنَّ عرض خصائص مشكلة المعرفة عند ابن نبي، ستكون مفتاحا ومدخلا للولوج إلى الموضوع بمنهجية، إذ ليست التفاصيل قادرةً على إبراز صورة شمولية مركَّبة. ومن ثمَّ، فإنَّ أبرز الخصائص التي استنبطناها، تتمثل في العناوين الآتية:
1- فكرٌ خارج التصنيف
إنَّ التصنيفات في عمومها ملزمة للمشتغلين في حقلها؛ غير أنَّها قد تتجاوز البعض، وقد يتجاوزها البعض الآخر؛ فهي تتجاوز من لم يبلغ مستواها، ولم يرقَ مراقيها؛ أمَّا العباقرة الذين خبروا ذلك المجال، وعرفوا أسراره وأغواره، فإنهم يتجاوزون -غالبا- تلكم التصنيفات، ذلك أنها مجرَّد إجراء منهجيٍّ مساير لقصور العقل، أمَا وقد رشُد هذا العقل العبقري، فما حاجته إذن لهذا التصنيف؟
ومالك بن نبي لو حاولت تصنيفه في خانة معينة، لأدركتك الصعوبة قبل أن تدركها، ولاستحال عليك الصدق في فعلك هذا؛ فهل هو تراثي أم حداثي؟ وهل هو عقليٌّ أم نصيٌّ؟ وهل هو فيلسوف أم عالم اجتماع، أم مفسِّر أم مؤرِّخ...؟ أم هو عالم إنسانيٌّ أم عالم طبيعيٌّ؟ أم هو عالم مقتصر على دوائره القريبة؟ أم هو عالمي النزعة والاهتمام والأثر؟
لو وسمته بالتراثية -مثلا- لوجدت الرجل متحكما في الوسائل المنهجية، وفي الأفكار الأكثر حداثة، تحكُّما يجعلك تعدل عن رأيك؛ ولو وصمته بالحداثة، لألفيته عالما بأصول التراث ومصادره، قادرا على استنباط أعمق الأفكار والمواقف منها، بلا عقدة ولا ادعاء.
ولو قلت إنه عقلي، لقرأت له احترامه الشديد للوحي، وقدرته على الالتزام بالنص في نصاعته؛ أمَّا إذا قلت عنه إنه نصي نقلي، فسترى أنَّ العقل عنده فاعل فعال، وأنَّه سببه إلى الفهم والإدراك والوعي.
وهو ليس فيلسوفا مصنفا ضمن المدارس الفلسفية الكلاسيكية، ولا هو عالم اجتماع، له نظريات في علم الاجتماع، ولا هو مفسر للقرآن الكريم، مشتغل به، ولا هو مؤرخ، أو فيلسوف للتاريخ؛ بل لو صنفته ضمن العلماء في العلوم الإنسانية لظلمته؛ لأن في فكره الكيمياء والفيزياء والرياضيات... ومن باب أولى لا تجد أن تدرجه مع العلماء الطبيعيين أو الرياضيين أو الفلكيين.
وفي تقديري إنَّ أبرز خاصية من خصائص مشكلة المعرفة عند ابن نبي أنها ارتقت إلى مستوى "البناء الشمولي"، و"النظرية الكاملة المحكمة"، وأنها خارج التصنيفات المعرفية المألوفة؛ فلا هو مثالي، ولا هو مادي؛ ولا هو عقلي، ولا هو حسي؛ والصفة الوحيدة التي تستوعبه هي أنه "عالم مسلم إنساني"؛ وهذا بالذات عنوان الخصوصية التي تميز الرجل عن غيره، وتجعله يفوق من سواه في هذا المضمار.
2- الرؤية الكونية ورؤية العالم عند مالك بن نبي
إنَّ "الرؤية الكونية" أو "رؤية العالم" تقع في قلب مشكلة المعرفة، ذلك أنها الطريقة التي يحدد بها العقل فهمه "للخواء" ولـ"اللامعنى" ولـ"الاغتراب في الحياة"؛ وهو المنهج الذي يرسم به الإنسان علاقته بالمعرفة وبالوجود.
يقول إنصاف حمد: "وبسبب من الاختلاف الواضح في المنهج لدى كل من المذهبين [العقلي والتجريبي]، فإنه من الطبيعي أن يكون لكل منهما نظرة مختلفة حول ماهية الإنسان، وإجابات مختلفة حول الأسئلة المطروحة على صعيد نظرية المعرفة مثل مشكلة أصل المعرفة، ودور كل من الذات العارفة والموضوع المعروف في عملية المعرفة، ومشكلة حدود المعرفة، ومعيار الحقيقة واليقين"[13].
وقد عالج مالك بن نبي هذه القضية بإسهاب، وإن لم يوظِّف المصطلحات المعروفة حاليا، مثل "الرؤية الكونية" و"رؤية العالم"، وذلك في كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، تحت عنوان "الإجابتان عن الفراغ الكوني"، ويوظف ابن نبي قصتين هما: قصَّة "روبنسون كروزو"، و"حي بن يقظان" ليظهر طبيعة الجواب عن سؤال الكون المختلفة بين الاثنين، فبينما ينحو الأول نحو الأشياء، وهذا ما يذكرنا في مشكلة المعرفة بالمادية وبالمذهب التجريبي الحسي، ينحو ابن طفيل في قصته إلى الجواب بطريقة عقلية تصاعدية من "المادة" إلى "الروح"، منها إلى "خلود الروح" وأخيرا إلى فكرة "الخالق"؛ وهو ما يذكرنا بالمذهب الشمولي الإسلامي الكوني.
3- العوالم الثلاثة عوضا عن مصادر المعرفة
تقدَّم أنَّ نظرية المعرفة تبحث في المصادر التي يستقي منها الإنسان معارفه، وأنَّ الفلاسفة انقسموا إلى "مذهب تجريبي حسيٍّ" و"مذهب عقليٍّ" وثالث "نقديٍّ" يحاول أن يجمع بين الحس والعقل؛ ولقد استطاع مالك بن نبي أن يتجاوز بذكاء هذا التقسيم العقيم، بل إنه تجاوز حتى نظرية "الانتزاع" التي تنسب إلى الفكر الفلسفي الإسلامي؛ واعتمد في ذلك على مناهج "الأبستمولوجية"، بخاصة ما عرف عند "جون بياجيه"، من النظر إلى مراحل نمو الطفل، حسب مباحث علم النفس والتربية، ثم تعميم ذلك على مراحل نمو البشرية، وكأنها في ذلك كائن بشري يمر بنفس المراحل التي يمر بها الإنسان.
من هنا نسب ابن نبي إلى الطفل في مرحلته الأولى "عالم الحس"، وعبر عن ذلك بـ"عالم الأشياء"؛ ثم نسب إليه في مرحلة ثانية نوعا من التجرد عن الحس وبداية الارتباط بالعقل، وهو ما عبر عنه "بعالم الأشخاص"، وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة، مرحلة النضج، وفيها يرتبط الطفل بعالم الأفكار، إذ يبدأ من هذه "اللحظة في "تكوين راوبط شخصية مع مفاهيم تجريدية".
ونحن نتساءل: هل هذه المفاهيم التجريدية مختلفة عن مدركات العقل، سواء في التصور أم التصديق؟
لا شك أنَّ الجواب سيكون بالنفي، وبهذا تتعدَّد مصادر المعرفة لدى البشرية، وتنمو من مرحلة "الأشياء" إلى "الأشخاص"، وأخيرا "الأفكار"؛ ولكنها قد تتقهقر وتنزل من عالم إلى ما دونه، تماما مثلما الحال للشيخ الذي يهرم، ويفقد المراحل واحدة تلو أخرى، على النحو الآتي:
1- عالم الأفكار، بفقده كلَّ قدرة خلاقة.
2- عالم الأشخاص، نتيجة اللامبالاة أو النفور.
3- عالم الأشياء، نتيجة الضعف وعدم الإقبال".
وفكرة "العوالم الثلاثة" في تقديري هي بؤرة نظرية مالك بن نبي في "المعرفة" بل، هي محور نظريته في "الوجود"؛ وهي التي ميزته عن غيره من الفلاسفة التقليديين من جهة، والمقلِّدين من جهة ثانية. وعليها يبني الكثير من الاستنتاجات الحضارية العملية الاجتماعية.
والجدير بالذكر أنَّ أحمد داوود أوغلو، في كتابه "البراديم البديل"، ذكر أنَّ مشكلة الغرب هي مشكلة "نظرية المعرفة"، فعلى أساسها يبني صرحه المعرفي بكلِّ خصائصه؛ أمَّا الفكر الإسلامي، فمحوره ليس هو نظرية المعرفة، وإنما "نظرية الوجود"؛ ومن ثم، حتى في تناولنا لنظرية المعرفة ننتقل طواعية وضرورة إلى نظرية الوجود، ونعالج إشكالاته، ونبرهن على مستوياته. وهذا الذي لوحظ عند ابن نبي بامتياز، ودلَّ على أصالته بجدارة.
4- الفاعلية، بديلا عن النزعة البراغماتية
لم يهتم مالك بن نبي في كامل مؤلفاته بالسؤال التقليدي في نظرية المعرفة، وهو: هل المعيار الحقيقي للعلم "هو الوضوح والبداهة، أم النجاح والمنفعة"؟؛ وبالتالي لم يحشر فكره في ثنائية "العقلانية" و"البراغماتية"؛ لكنه عالج بصورة مختلفة، ذات السؤال، فوفِّق أيما توفيق، يقول في "وجهة العالم الإسلامي": إنَّ من أبرز المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي العجزُ عن التفكير وعن العمل، وهو في المجال النفسي يدل على انعدام الرباط المنطقي (الجدلي) بين الفكر ونتيجته المادية، فالفكرة والعمل الذي تقتضيه لا يتمثلان ككل لا يتجزأ".
وقد عالج هذه المشكلة تحت عنوان "المنطق العملي"؛ ثم فرَّق بين الكفاءة والفعالية، وفصَل القول في العلاقة بين الفكر والفعل، وبين العلم والعمل؛ وقد استفدنا من ذلك كله في صياغة "منظومة الرشد"، التي تعنى بنقاط ثلاث، هي:
1- ذاتية اتباع الأسباب
2- حركية الفكر والفعل
3- سداد المسلك.
واضح أنَّ العمود الثاني هو محور ما نحن بصدده، وهو يقع في صلب نظرية المعرفة كلِّها، ذلك أنَّ الحاجة ماسة إلى فاعلية بلا براغماتية، أو إلى الجانب الإيجابي من البراغماتية، بعيدا عن جانبها السلبي؛ ولعلَّ مصطلح "النافعية" يكون الأنسب لذلك، وهو مسبوك من دعاء للرسول الكريم عليه السلام، يقول فيه: «اللهمَّ إني أسألك علما نافعا»، فإذا كانت النفعية تخص الثمرة المادية القريبة، فإنَّ النافعية تعالج الثمرات القريبة والبعيدة، يقول تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف:110)، ويقول: (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)(محمد:35).
5- عجز العلم عن تأسيس المجتمع
مما يندرج ضمن طبيعة المعرفة السؤال عن حدِّ العلم: فهل العلم قادر وحده على إسعاد العباد، وعلى تأسيس المجتمعات وقيادة الحضارات؟ أم أنَّ للعلم مجاله الخاص به، فهو ليس من طبيعة الغايات والنهايات والقيم المطلقة؟
يجيب مالك بن نبي على هذه الإشكالية بقاعدة صاغها بعد تحليل مستفيض، اختار له عنوانا معبرا: "القيمة الخلقية"، فقال: إنَّ "الدين هو وحده الذي يستطيع أن يؤسِّس مجتمعنا، والعلم لا يستطيع تأسيس مجتمع"، وبعبارة مفسِّرة يقرِّر أنَّ الانسجام بين أفراد مجتمع ما، الذي هو أساس قيام المجتمع "لا يمكن أن يقدمه العلم، ولكن تقدمِّه الأخلاق"[14].
وإلى هنا، نكون قد أشرنا، مجرَّد إشارة، إلى "الخصوصية الإسلامية لنظرية المعرفة، عند مالك بن نبي"، ولقد افتتحت الشهية أمامنا، لبحوث طويلة النفس، تخرجنا من قفص الوصف الرتيب، والترجمة السردية، والعرض المعلوماتيِّ؛ إلى فضاء التحليل، والنقد، والتركيب، والإبداع؛ وهي جميعها خصائص منهجية لطالما دافع عنها ابن نبي بلا هوادة، ووفق فيها أيما توفيق.
بين مالك بن نبي وفتح الله كولن:
مقارنة مختلِفة، باعتماد الأحجية العلمية منهجا
في لقاء علميٍّ مع مدير وكالة جيهان، الأستاذ عبد الحميد بيليجي؛[15] وبعد حوار ثريٍّ، ومعلومات ضافيةٍ، سخا بها الأستاذ مشكورًا ومأجورًا، سألني عن اهتمامي بمالك بن نبي؛ ولا شك أنَّ توافُق البلد أوحى له بالسؤال، فلمَّا أعلمته بعلاقتي الوطيدةِ بفكره منذ أمد؛ قال: "هل في الإمكان أن نُجري مقارنة بين فكر الأستاذ فتح الله والأستاذ ابن نبي؟"
كان الجواب، بالطبع، إيجابا.
ثم سألني عن أبرز نقاط الافتراق والالتقاء بين الرجلين، فأجبتُه عن الأولى، وأجَّلت الثانية؛ وقلت:
أولا: الوعاء الحضاري، أي الامتداد المكانيُّ والثقافيُّ والسياسيُّ والفكريُّ... هو مختلِف تمام الاختلاف بين الرجلين؛ أي إنَّ التربة ليست واحدة، وكذا المؤثرات الثقافية والفنية والجغرافية.
ثانيا: النسيج الحضاري، أي الامتداد التاريخيُّ للرجلين، هو مختلِف كذلك؛ ويمكن رسم خطَّين أقرب ما يكونان إلى الخطوط المتوازية، بين خطِّ الزمن لمالك بن نبي وخطِّ الزمن لفتح الله كولن.
ومن يومها، وأنا أطوِّر نظريتَيْ "الوعاء الحضاري"، و"النسيج الحضاري"[16]؛ ولقد كتبت فيهما العديد من المقالات، وحاضرت فيهما في العديد من الملتقيات، ولا أزال.
واليوم، بعد عزم الإخوة في "حراء" على بعث "جماعة علمية"[17]، ولو تجوُّزا، تكون جسرا بين "البراديم كولن ومشروع الخدمة" من جهة، والنخبة المثقفة في العالم العربي من جهة ثانية... بعد هذا العزم الأكيد، رأيتُ من المناسِب أن أعود إلى "فكرة المقارنة بين ابن نبي وكُولَن"؛ لكن مع ملاحظتين جوهريتين:
الملاحَظة الأولى: إنني ابتداءً، ومن الناحية المنهجية، أرفض البحوث المقارنة بين كذا وكذا، ذلك أنها غالبا ما تكون "انتقائية" ومحسومَة النتائج مسبقا، فالباحث ينتقي نقاطَ المقارنة، ويحوم حولها، ثم يختزل أحكامًا معيَّنة؛ ولباحثٍ آخر أن ينتقي نقاطا أخرى، ويصلَ من خلالها إلى أحكام أخرى، قد تكون مختلفة كليًّا. فالمقارنة، إذن، بهذا المعنى، وبهذا المنهج التقليديِّ، قاصرة عاجزة عن إبلاغ المراد.
أمَّا الملاحظة الثانية، فهي أنني، ومن الناحية المنهجية كذلك، لا أميل إلى دراسات الأثر، وأقف إلى صفِّ المسيري في هذا الاختيار،[18] ذلك أنَّ أثر كذا في كذا، وأثر فلان على علاَّن، هي أحكام كبيرة جدًّا، ومختزِلة لظاهرة إنسانية مركَّبة من أسبابٍ معقَّدة، إلى ظاهرة متفرَّدة في سببٍ واحد مباشر؛ ومثل هذه البحوث لا تلد، وهي من نوع المصادرة على المطلوب في كثير من الأحيان؛ وليس دائما طبعًا.
ولذا، فإنني، في هذا البحث، سأعتمد "الأحجية"[19] منطلَقا لفهم الظاهرة المقارنة بين فكر الرجلين، وسأعتمد الاستثارة والاستشكال أساسًا، محاوِلا بذلك تفادي المنهج الكلاسيكي في المقارنة والتأثير؛ ولا يعدو عملي أن يكون مجرَّد مدخل ومقدِّمة لما قد يتحوَّل إلى جهد أكثر تنظيمًا وعمقًا.
ولا شكَّ أنَّ العلم باعتباره أحجية (Enigme scientifique، Scientific puzzle)، أو مركَّبا من عدد من الأحاجي[20][21]، هو من أبرز مظاهر "بنية الثورات العلمية"، عند "توماس كوهن"، في كتابه الذي خصَّص فيه فصلا بعنوان "العلم العادي، علم حلِّ الأحجيات"[22].
ثم إنَّ علوم الفيزياء، والفلك، والكوسمولوجيا بالخصوص، تطوَّرت، ليس بالصرامة التي يعتقدها البعض، وإنما بالعمليات العقلية، وبالألغاز، والأحجيات؛ وهذا بالذات ما يميِّز فكر أنشتاين[23] مِن غيره، وهذا الذي طوَّر الفيزياء الكمومية، وبخاصَّة "مبدأ الريبة"، الذي شارك في حلِّ أحاجيه: بور، وهايزنبرغ، وغيرهما.[24] ولم تكن أحجية "قطة شرودينجر"[25] خارج هذا الإطار.
أمَّا في العلوم الإنسانية، والدراسات الحضارية، فقلَّ ما يُستعمل هذا النسق من التحليل؛ إلاَّ أنَّ كلاًّ من "هوستن سميث، ومراد هوفمان"، قد فتحا لي الباب واسعا باعتمادهما على ما يشبه الأحجيات، في تحليل أعقد قضايا الحضارة؛ أمَّا الأوَّل ففي كتابه "لماذا الدين ضرورة حتمية؟"[26]، وأمَّا الثاني ففي كتابه "الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود"[27].
وفي عملي هذا لن أتوانَى عن اعتماد هذا الأسلوب، وهذا المنهج، فإن أصِب فبتوفيق من الله، وإن أخطئ، فذلك لسوء تقديرٍ مني. وحسبي أنَّ الله تعالى علَّمنا في محكم تنزيله كيف نتبنى الأحجية، والصورة الذهنية المفترَضة، وسيلةً وسببا للإقناع؛ قال جلَّ من قائل: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)(الحج:15)، وحسبي بعد ذلك أنَّ الرسول عليه السلام اعتمد الأحجية في الكثير من الأحاديث، منها أحجية السفينة[28]، ومنها أحجية الثلاثة الذين سدَّت عليهم حجرة باب الغار[29]... وغيرها من الأحاجي في سنَّة المصطفى عليه السلام كثير.[30]
الأحاجي
الأحجية الأولى: ابن نبي التركي، وكولن الجزائري!
لو أننا غيَّرنا "الوعاء الحضاري" و"النسيج الحضاري" للعالمين ابن نبي، وفتح الله كولن؛ أي، لو أننا نقلنا كولن إلى الجزائر، في الظروف التي عاشها مالك بن نبي؛ ونقلنا مالك بن نبي إلى تركيا، وعاش الظروف التي عاشها كولن... فكيف يتصرَّف الاثنان؟
وبأخصر عبارة: هل يمكننا أن نتصوَّر ابن نبي تركيًّا أوروبيًّا، سليلاً للعثمانيين؟ وهل يمكن تخيُّل فتح الله جزائريًّا مغربيا عربيًّا، سليلاً للموحِّدين؟ وما هي الفروق التي نخرج بها، بين ما هو كائن، وما هو مفترَض على سبيل الأحجية، بتبديل الأدوار بين العالمين؟ وهل سيتصرَّف ابن نبي تماما مثلما تصرَّف كولن، أم سيكون له سلوك وفكرٌ آخر؟
وكذا الأمر، بالنسبة لكولن الجزائريِّ؛ هل سيؤسِّس مشروع "الخدمة" في الجزائر؟ وهل ستكون الاستجابة مماثلة لما لقيه في تركيا؟
لا أستعجل الجواب، ولكنني أسأل، وأعيد: هل سيكتب كولن مقالا بعنوان "تفاهات جزائرية"[31]، لو أنه عاش ظروف الجزائر غداة الاستقلال؟
وهل سيخطُّ ابن نبي كتابا بعنوان "القدر في ضوء الكتاب والسنة"، ردًّا على المتلاعبين بمفهوم القدر، والمشكِّكين في العدل الإلهي، وأصحاب "اللوثاث والضلالات المشوَّشة"[32]؛ من ذوي الثقافة الحداثية في تركيا آنذاك؟
لا أعرف، ولكنني أحيانا، وأنا أطالع للرجلين أجدهما أقربَ ما يكونان فكرًا وفهمًا؛ وأحيانا أخرى، لا أجد وجهًا للشبه، بين ما يكتبه كولن وما يكتبه ابن نبي؟
فهل يكفي أن نقول: الفرق فقط يكمن في الوعاء الحضاري، وفي النسيج الحضاري؟ أم أنه يظهر كذلك في طبيعة الرجلين، وفي نوعية التكوين... وفي ظروف وأسباب أخرى؛ لا نقدر لها إحصاءا، ولا تقديرا؟
الأحجية الثانية: القابلية للاستعمار، وحوار الحضارات
إنَّ مالك بن نبي ذاق الأمرَّين جرَّاء الاستعمار الفرنسيِّ، ثم على يد أذياله قبل الاستقلال وبعده؛ فكتب عن "الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة"[33]، وطوَّر نظرية "القابلية للاستعمار"، حتى صارت علَما عليه، وماركة مميِّزة لفكره.. أمَّا كُولَن من جهةٍ أخرى، فلم يكن تحت وطأة استعمار خارجيٍّ، بل عانى من انحرافٍ وانجرافٍ داخليٍّ، كاد يؤدِّي بالبلاد إلى المهاوي والمهالك؛ فتصرَّف بأسلوب مغاير؛ إذ كتب عن الحوار، وأسَّس مشاريع في الحوار،[34] يقول الأستاذ محمد أنس أركنه: إننا "نرى أنَّ فتح الله كولن لم يكتف بفتح المؤسَّسات التعليمية والمدارس، بل نراه يتحدَّث عن أهمِّ مشروع اجتماعي وثقافي للمجتمعات الإنسانية المعاصرة، وهو إنشاء حوار بين الحضارات"[35]؛ ولقد ألَّف العديدُ من الكتَّاب أعمالا حول هذه النقطة بالذات، منهم "جون اسبيزوتو، وإحسان إيلماز" في كتابهما "الإسلام وبناء السلم، مبادرات حركة كولن"[36]... وغيرها كثير.
ترى لو أنَّ ابن نبي لم يكن ضمن البلاد المستعمَرة، هل سيهتدي إلى نظرية "القابلية للاستعمار"؟ وهل سيدعو إلى "حوار الحضارات"، كما فعل كُولَن؛ رغم وطأة الاستعمار الظالم على بلده وعلى سائر البلاد العربية؟!
ثم، هل كان الاثنان متناغمين مع الظروف التي مرَّت بهما؟ أم إنَّ أحدهما أو كليهما لديه انحراف ولو يسيرٌ عن الزاوية المطلوبة؟ وكيف نقيس هذا الانحراف لو وُجد؟ ثم كيف ننفيه إن لم يوجد؟
وهل في الإمكان تصوُّر عالِم يجمع بين الشخصيتين في آن واحد؟ فيكتبُ عن ظاهرة الاستعمار، ويصوغ أسس الحوار، في نفس الآن؟ أم إنَّ قدرة المثقَّف والعالم[37]، لا يمكنها مهما بلغت من الكمال أن تتجاوز المؤثرات الزمانية والمكانية، والحالة النفسية والاجتماعية، وبالتالي فالعالِم ابن انتمائه، وهو بلغة المسيري "متحيّز" شاء أم أبى؟
الأحجية الثالثة: أسفل البحر المتوسِّط، وأعلاه!
يحمل مالك بن نبي همَّ البلاد الإسلامية الواقعة أسفلَ البحر الأبيض المتوسِّط، ولذا نجده يكتب عن "فكرة الأفرو أسيوية، في ضوء مؤتمر باندونغ"[38]، ويكتب "تأمُّلات"[39]، وكذا "بين الرشاد والتيه"[40]، و"في مهبِّ المعركة"[41]... وغيرها من الدراسات التي تتناول في الأساس إشكالات حضارية، تمسُّ بالخصوص البلادَ المستعمَرة في مواجهتها مع البلاد المستعمِرة؛ مع التنبُّه إلى أنَّ الأسباب الذاتيةَ هي الفيصلُ، وأنَّ الأسباب الخارجية ثانويةٌ وتابعة لا غير.
أمَّا كولن، فيحمل هموم تركيا ما بعدَ العثمانيين أساسًا،[42] ثم مِن خلالها كلَّ البلاد التي تلتصق بتركيا، بخاصَّة "البلقان"، وبلدان "أوراسيا"؛ ولا أدلَّ على ذلك من منتدى "أوراسيا" في "وقف الصحفيين والكتاب".
ثم إنَّ كولن، وبخاصَّة بعد زيارته المشهورة إلى بلاد الغرب، سنة 1997م، وخطابِه الشهير الذي بكى فيه لتخاذلِنا عن تبليغ دين الله للعالمين، ثم بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1999م راح بعد كلِّ ذلك يوجِّه البوصلَة نحو الغرب، وهذا ما يفسِّر انتشار مشاريع "الخدمة" في أمريكا، وكندا، وأستراليا، وأوروبا... بخلاف الدول العربية، التي لا تزال تتعامل باحتشام مع هذه المشاريع.
ولا أقول هنا، إنَّ ابن نبي لا يحمل همَّ العالم الغربيِّ والشماليِّ، ولا عن كولن إنه لا يحمل همَّ البلاد الواقعة في خطِّ "طنجة جكرتا"، وبالخصوص البلاد العربية؛ ولكنَّ الحديثَ طبعا عن الأولوية، وعن الأسبقية، وعن نقطة الارتكاز في الفكر، والتركيز في الحركية.
ومن الغريب أنَّ سهم الانتقال بين ابن نبي وكولن كان في اتجاه معاكس، إذ بينما انتقل الأوَّل -فكريا- مِن الشمال إلى الجنوب، أي من فرنسا وألمانيا إلى الجزائر، ومنها إلى مصر وسورية؛ نجدُ أنَّ الثاني انتقل من الجنوب إلى الشمال، أي من تركيا إلى أمريكا؛ فهل لهذا الانتقال الأثرُ الكبير على مسار فكرهما؟
أيُّ الفكرين أصلحُ للعالم العربيِّ اليومَ؛ وبخاصَّة في عهد الثورات على الداخل، بعدما عرف العالم العربيُّ الثورات على المستعمر الخارجي؟
هل هو فكر مالك بن نبي، الذي ساند "الاطِّراد الثوري"، وكتب في فقه الثورة، وعن "الأخلاق والثورة"، وعن "التقلبات في عصر جديد"؛ وهو الذي قال: "إنَّ الثورة قد تتغير إلى "لا ثورة"، بل قد تصبح "ضدَّ الثورة"، بطريقة واضحة خفية"، وقال: "إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدِّمات ومسلَّمات الثورة، فسوف لا نفقد "عِقالا" فقط،[43] بل نفقد الروح الثورية ذاتها"[44]؟
أم إنَّ فكر كولن هو الأجدر بالتبني، وهو الذي رفض جملة وتفصيلا كلَّ هدم لا ينتهي بالبناء،[45] وتحدَّث عن الأمواج الغائرة العميقة، في مقابل الأمواج الطافحة العقيمة،[46] ووجَّه مصطلح الثورة توجيها مختلفا، فقال: "ارْفَعْ شعار الثورة ضدَّ كلِّ مألوف، واهتِف كما هتف الرومي "هلمَّ إليَّ يا إنسان!"، ثم ادفِن نفسك في غياهب النسيان... نادِ كما نادى بديع الزمان "وا إنسانيتاه!"، ثم امضِ ولا تفكِّر بسعادتك الشخصية... أجل، اِنْسَ رغد الحياة، انْس البيت والولد، واسلك درب أهل السموِّ الواصِلين لتكونَ من الناجين"... إلى أن يقول: "مجانينَ أريد، حفنةً من المجانين... يثورون على كل المعايير المألوفة، يتجاوزون كلَّ المقاييس المعروفة"[47]؟.
تُرى، هل يمكن أن نجمع بين الفكرتين والمشروعين؟ وهل هما من قبيل الأفكار المتكاملة المتعاضِدة، والمشاريع المتناغمة المتناسقة؟ أم إنهما متناقضان متعارضان؟ أم إنَّ فيهما شيئًا من هذا، وشيئًا من ذاك؟ فما هو هذا الشيء، وكيف يمكن فهمه وتمثله؟
أنا، هنا، لا أكتبُ للمفكر والمثقَّف والباحث والمحلِّل فقط؛ ولكن أضع في ذهني صورةَ شابٍّ عربيٍّ، في مراحله الأولى من الجامعة، وهو يكاد لا يتلمَّس الحقيقة، ولا يُبين في التعبير عنها؛ فهو لهذا يبحث عن "سداد المسلك" بلغة نموذج الرشد[48]، فهل الحلُّ والجواب في موضوع الثورات يكمن فيما ورد عند مالك بن نبي، أم فيما جاء عند فتح الله كولن، أم هو مزيج بين هذا وذاك؟
وأنا، هنا، كذلك، لا أفترضُ، ولكنَّها واقعةُ حال، فثمَّة طلبة علم من الجزائر تشرَّبوا فكرَ الأستاذين، وعايشوا بعقولهم وقلوبهم الفتن التي تعصف على بلاد الإسلام. فهم بالتالي قلقون معرفيا، مستشكلون منهجيا، مستعدُّون نفسيا، متوقِّدون فكريا، ينتظرون التوجيه والإرشاد، ورسم خطِّ السير بحكمة وحنكة وذكاء.
الأحجية الرابعة: تبادُل الزيارة بين ابن نبي وكولن!
في صباح ربيعيٍّ هادئ، زار مالك بن نبي فتح الله كولن، وهو في الطابق الخامس، بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن طالع جلَّ كتبه المنشورة باللغتين العربية والفرنسية؛ ثم إنَّ "الأستاذَ"، تيسَّرت له السبلُ، وقد طالع مالك بن نبي منذ أمدٍ، أي في السبعينيات من القرن الماضي، فعاود الكرَّة هذه المرَّة، وطالع ما وقع بين يديه من مؤلَّفات مالك بن نبي، وبعدها زاره إلى الجزائر، وطرَق عليه بابه.
ما هي أوَّل كلمةٍ تلفَّظ بها الواحد تجاه الآخر؟ وما هي الصفة التي وصف بها ابن نبي كولن، والصفةُ التي وصف بها كولن ابن نبي؟ ثم ما هي أبرز نقاط القوَّة التي اكتشفها كلُّ واحد منهما في فكر الآخر، وفي تمثُّلات فكره في الواقع؟ وما هي نقاط الضعف؟ ثم ما هو رأي ابن نبي في "الخدمة"، كما هي عليه الآن؟ وما هو أبرز نقدٍ ممكن أن يصدر من كليهما تجاه الآخر، فكرًا وحركيةً؟
ألن تكون القضية الفلسطينية محور اهتمامهما، فيعرضان وجهات النظر فيها؟ أليس في الإمكان أن يجتهدا في إنشاء اتحاد عالمي للعلماء؟ وكيف تكون مواصفات هذا الاتحاد؟ وأين يكون مقرُّه؟ وما هي مهمَّته؟ وما هو دور كلِّ واحد منهما فيه؟ ومَن -يا ترى- سيلتحق بهما؟
ألن يصف مالك بن نبي فتحَ الله بما يشبه هذا الوصف البليغ: "لم يكن الرجل [أي فتح الله] يتحدَّث عن ذات الله، كما صوَّرها علمُ الكلام، أي عن اللهِ العقليِّ، بل كان يتحدَّث عن الله الفعَّالِ لما يريد، المتجلِّي على عباده بالرحمة والقهر، تماما كما كان المسلمون الأوَّلون يستشعرون حضوره فيما بينهم، ونفحتَه الماديةَ في بدر وحنين. فالفكرة القرآنية تتجلَّي هنا [عند فتح الله] بأثرها المباشر على الضمير، وبتأثيرها في الأناسي والأشياء"[49].
ثم ألن يصف فتحُ الله بالمقابل صديقه وصنوَه مالكا، بهذه العبارات الرقيقة: "إنَّه [أي مالك بن نبي] في خطِّ الحياة الممتدِّ على مدى فصولها من الحسِّ إلى الفكر، ثم إلى الحياة العملية، يتنفَّس النظام دوما، بحسِّ البناء والإنشاء أبدا. إنه وليُّ الحقِّ اللدنيِّ، الذي يُعِدُّ "قادة أركان" الروح، ومهندسي العقل، وعمَّالَ الفكر... ينفُخ بلا كلل نفَسَ البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشِد أعوانه إلى سبل عمران الخرائب"؟[50].
ألا يكون وصف ابن نبي لكُولَن باختصار، أنه: المجدِّد بالإيمان والقرآن. ثم، ألا يكون وصف كولن لمالك بن نبي، باختصار، أنه: مهندس الفكر والحركية.
الأحجية الخامسة: نحو جماعة علمية افتراضية
ألا يمكننا -بعد جملة من المطالعات- أن نقرِّر حكما، يحتاج إلى إثبات أكثر، وليكن مجرَّد افتراض، قد يتحوَّل إلى نظرية متكاملة، ونقولَ في هذا الحكم: إنَّ كولن قد فصَّل فيما أجمل فيه ابن نبي، وإنَّ ابن نبي قد فصَّل فيما أجمل فيه كولن.[51]
وبالتالي، فإنَّ جمع فكرِ الواحد منهما إلى فكر الآخَر، لا شكَّ سيولِّد بناءً حضاريًّا مثاليًّا؛ وبخاصَّة إذا أضفنا إليهما بعضَ الأسماء المتميِّزة، مثل: إقبال، وبيجوفيتش، ومهاتير، والمسيري، وشريعاتي، وجيفري لانغ؛ وقلنا حينها: إنَّ هؤلاء يكوِّنون "جماعةً علميَّة"، بمعناها الاصطلاحي، حتى وإن لم يكتب لهم أن يعملوا على صعيدٍ واحد.
والمعلوم أنَّ "الجماعة العلمية" تؤسَّس على ضوء "أزمة معرفية"، وعلى خُطى "همٍّ حضاريٍّ مشترَك"، يعجز "النموذج والبراديم المهيمِن" عن الإجابة عنها، ثم تشتد هذه الأزمة، ويكبر هذا الهمُّ؛ فيشارك في الإجابة عليه أعضاء "الجماعة العلميَّة"، إلى أن يبزغ "البراديم البديل"، وينالَ المكانة والهيبة والقبول؛ ثم ما يلبث أن يتحوَّل إلى "نموذج مهيمِن" بعد حين... وهكذا؟
ولقد قصدت هذا المزج، بين هذه المعالم الفكرية في العالم الإسلامي، يوم كتبت مقالي: "الحفر بحثا عن المنظومة"، وانتهيت بعد عملية الحفر إلى تأسيس مرجعية متناغمة، تبدأ بابن نبي، وتنتهي بكولن.
هل في المقدور، ضمن علاقتنا نحن الباحثين المنتمين إلى مختلف "الأوعية الحضارية، والأنسجة الحضارية"، أن نطرح "صورة" لجماعة علمية تتكوَّن من الأعلام المذكورة أسماؤهم ابتداء، وتنتقل منهم إلى من سار على خطِّهم، ثم نحسِنُ بعد ذلك عرضَ هذه الصورة، والدفاعَ عنها، لا باعتبارها الأفضل والأمثل، ولكن باعتبارها محاولة من أنجح المحاولات؛ ونكون بذلك قد أسدينا معروفا لأمَّتنا، دون أن نغرق في "الشخصنَة"، ودون أن نسوِّق "للكاريزماتية"، و"الزعامة الفردية"؛ وهو أمرٌ يمجُّه الرجلان، محلَّ البحث والمقارنة، ولهما في ذلك نصوص كثيرة.
أمَّا مالك بن نبي، وهو الذي شقي دفاعًا عن فكره،[52] وتنعَّم العالم الإسلامي بنورياته ولا يزال، فيقول: "وهكذا ننتقل من وهمٍّ لنتخبَّط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضِّيها لندرك عجز الأشياء الوحيدة عن حلِّ المشكلات... إنما لا يجوز لنا أن يظلَّ سيرنا نحو الحضارة فوضويًّا يستغلُّه الرجل الواحد، أو يضلِّله الشيء الواحد، بل ليكن سيرنا علميًّا عقليًّا حتى نرى أنَّ الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفَّقة، ولا مظاهِر خلاَّبة، وليست الشيءَ الوحيد، بل هي جوهرٌ ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وأرواحها ومظاهرها، وقطبٌ يتجه نحوه تاريخ الإنسانية".
وأمَّا كولن، الذي تفانى وتفنَّن في نكران ذاته، فقد أبدع في هذا المضمار وكتب من جملة ما كتب مقالا بعنوان "نكران الذات والمدد الرباني"، مما جاء فيه: "ينبغي أن نقنع "أنفسنا" أنه ليس لنا يدٌ في حصول هذا الخير العميم. فالنجاح كل النجاح لطف من الله وفضل من لدنه وإحسان. فإذا آمنّا بذلك فقد جنّبنا أنفسَنا شوائبَ الشرك، وأنجيناها من الأوهام التي تظَل النفسُ تَضُخّها في دواخلنا لكي تضخّم أنانيتنا. بل يحسن أن نقول: "في الحقيقة، لو لم أُقحِمْ نفسي في هذا الأمر، لوجد له رجالا خيرا مني في إخلاصهم وصدق تمثيلهم، ولقطعتْ القافلةُ مسافات واسعةً أضعافَ ما قطعتْه حتى اليوم. وا أسفاه، فلولا كدورة نفسي لتجلّى المددُ الإلهي وفق صفائه المقدس على الخدمة الإيمانية. واحسرتاه، فقد ارتطمت تجلياته بفيروسات أنانيتي وتحطمت على ضعفي وسيئاتي. أجل بسببي أنا تعثرنا وتأخرنا عن المواقع التي قصدناها، وابتعدنا عن المراقي التي حلمنا بها". بل ينبغي تكرار هذا السؤال: يا نفس، كم إنسانا قتلتِ حتى اليوم!؟.. كم إنسانا كان يبحث عن الحقيقة فتعثّر بك وفقدها إلى الأبد!؟"[53].
إذن، الفكرة والمقترح مؤسَّسان ابتداء في فكرِ الرجلين؛ ويبقى لنا، نحن الخلف، أن نحسن التصرُّف، ونُحدث الآليات الفعَّالة لذلك، فنكونَ بذلك قد أجبنا على إحدى أعقد الأحجيات في إشكالية الحضارة اليوم.
خاتمة: لكَ أو لأخيك أو للذئب!
عقد هذا البحث مقارنةً أولية بين فكر العالمين المجدِّدين: مالك بن نبي وفتح الله كولن؛ وهي في الأساس تعمل على ترسيخ منطلقات لاستفادة العالم العربي من تجربة الخدمة، ومن فكر الأستاذ، بأسلوب سلس متقبَّل، دون أن يُحدث ضجة، أو أن يعرَض على سبيل الوصاية؛ إذ كلُّ هذه الأساليب منافية لروح البراديم كولن؛ تلك الروح المبنية ابتداء على "الشفقة"، وعلى "الرحمة"، وعلى "الحكمة"، وعلى "المرحلية"، من غير إغفال "التخطيط"، و"الحركية"، و"الفعل"، و"الفعالية"؛ ولكلِّ عنوان من هذه العناوين أصوله من القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والسيرة النبوية العطرة؛ ثم إنَّ لها أمثلة في التراث الإسلامي العريق، وفي تجربة البشرية بكلِّ مشاربها إلى يوم الناس هذا؛ ولقد كتب الأستاذ في كلِّ عنوان من تلكم العناوين مقالات، وألقى محاضرات، ونحت مفاهيم، وأبدع آليات؛ حتى صارت علامةً مسجَّلة أو "ماركة" على الخدمة، إذا ذكرت تُذكِّرت، وإذا غابت انتفت أن تكون هي هي.
ولذا أرى من المناسب أن أستنبط جملة من الأفكار، والقواعد، والقوانين، والخطوات العملية، والتطبيقات، والبرامج... لعلَّها تسهم، ولو بنزر يسير في إذابة بعض الجليد الوهميِّ بين شمال البحر الأبيض المتوسط المسلم، وجنوبه المسلم؛ بعيدًا عن العقد التاريخية المفتعَلة، والصور النمطية المفبرَكة، والأحكام القبلية الملغَّمة؛ وسنكتشف أخيرا أنَّ هذه التجربة هي تجربتنا، وأنها لنا، وأننا لها، وأنها من ذاتنا، ومن خصوصياتنا، لا يفرقنا عنها فارق.
ولقد قال أبو عبيد الله الزواوي لخير الدين بربروس، يوم عزَم على مغادرة الجزائر، بعدما ساهم في حمايتها من الإسبان، قال له: "الجزائر لك، أو لأخيك، أو للذئب"؛ مشيرا بذلك إلى الغارات الصليبية على شمال إفريقيا؛ واليوم كلُّ بلد من بلاد المسلمين هو مثل شاة هزيلة معرَّضة لأنياب الذئاب ومخالبها، إذا هي لم تلزم الجماعة، وإذا لم تعتصم بحبل الله جنبا إلى جنب مع البلاد الأخرى؛ ولقد صدق الله العظيم القائل: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(الأَنْفَال:46)، وصدق الرسول الكريم القائل: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»(رواه أبو داود).
وجملة النقاط المستنبطة هي:
1-إذا أجريت مقارنات بين فتح الله كولن وغيره من علماء ومفكري ومجددي العالم الإسلامي، لتكن في إطار الوعاء الحضاري، والنسيج الحضاري، أي باعتبار السياق؛ وإلاَّ كانت مبتورة ظالمة.
2-يرفض في المقارنة اعتماد المنهج المختزل الانتقائيِّ، وكذا منهج دراسات الأثر؛ بل الواجب هو البحث عن مناهج أكثر فعالية وحركية وعلمية.
3-يجب الاجتهاد، إلى إنشاء "جماعة علمية"، تكون جسرا بين "البراديم كولن ومشروع الخدمة" من جهة، والنخبة المثقفة في العالم العربي من جهة ثانية.
4-نقترح اعتماد منهج "الأحجية العلمية"، أو ما يشبهه، مما يدفع إلى استثارة السؤال، وتحريك الإشكال.
5-في المقارنة بين عالمين أو أكثر، نحاول أن نستبدل الأدوار بينهم، وننظر في الأسباب الداخلية والخارجية التي أسهمت في صقل مواهبهم، وفي بلورة مواقفهم؛ بهذا الأسلوب يمكننا فهمُ الغامض والمخفيِّ من أسباب الفكر والحركية.
6-نقترح إعداد بحثٍ أكاديمي بعنوان: "مالك بن نبي التركي، وفتح الله كولن الجزائري"، ولا شكَّ أنه سيكون مثيرًا ومفيدًا وفعَّالا.
7-بين نظرية القابلية للاستعمار، لمالك بن نبي؛ وحوار الحضارات، الذي أسسه فتح الله كولن؛ ما يشبه التعارض، أو على الأقل، الصعوبة في الجمع بينهما؛ فهل في الإمكان إجراء بحوث تقارن بين الفكرتين، وترجِّح أيهما أليق للمسلمين في هذا العصر، بالذات؟
8-بين فكر ابن بني، المؤسِّس لفقه الثورة؛، وفكر كولن، الداعي إلى ثورات من نوع جديد، نسأل: أيُّ الفكرين أصلح للعالم العربي اليومَ؛ وبخاصة في عهد الثورات على الداخل؟
9-من الحكمة أن نجتهد في عرض فكر فتح الله بصورة يفهمها الشاب المسلم ويستوعبها، وأن لا نبقى محلِّقين في سماء التنظير، مخاطبين المثقفين والعلماء فقط؛ من هنا تأتي الدعوة إلى أعمال وكتابات ومشاريع تيسيريةٍ توضيحية عميقة، بشتى اللغات والأساليب، تخاطب هؤلاء الشباب: القلقين معرفيا، المستشكلين منهجيا، المستعدّين نفسيا، المتوقِّدين فكريا، الذين ينتظرون التوجيه والإرشاد، ورسم خطِّ السير بحكمة وحنكة وذكاء.
10-إنَّ كولن قد فصَّل فيما أجمل فيه ابن نبي، وإنَّ ابن نبي قد فصَّل فيما أجمل فيه كولن: هذا حكم أولي، بل هو شبه أطروحة تولَّدت من التفاعل المستمرِّ مع الفكرين؛ ولذا أجده بحثا عميقا، يعِد بنتائج مفيدة وبديعة، لو كتب الله إنجازه.
11-عود على بدأ: المنتظر على ضوء هذه المقارنة المختلِفة، أن ننتهي برسم صورة لجماعةٍ علمية، ووضعِ أسس لعملها، وللخطوط العريضة التي تجمعها. وإلاَّ، فالعلم ما لم يكن اجتهادا لن يعدو أن يكون محض ادِّعاء، والأمَّةُ ما لم يَصُغ فكرَها، ويخططْ مسيرها ومصيرها، رجالٌ علماء مخلصون، هي عرضة لكلِّ الهزات والنكبات والويلات.
[1] مجلة حراء، العدد:27 (نوفمبر-ديسمبر 2011).
[2] فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص:55.
[3] نظرية المعرفة، عبد المهيمين، ص:32 (بتصرف).
[4] حديث الطريقة، ديكارت، ص:66.
[5] نظرية المعرفة، عبد المهيمين، ص:39-40.
[6] نظرية المعرفة، عبد المهيمين، ص:42.
[7] المعرفة والتجربة، إنصاف أحمد، ص:28.
[8] نظرية المعرفة، عبد المهيمين، ص:32.
[9] المعرفة والتجربة، إنصاف أحمد، ص:36.
[10] فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص:66.
[11] موقع الكلمة للأبحاث، kalem.net.
[12] موقع منتدى العراق، iraqimunteda.com.
[13] المعرفة والتجربة، إنصاف أحمد، ص:27.
[14] الحقيقة والمآل، مالك بن نبي، ص:81-82.
[15] كانت الزيارة في شهر جويلية 2010م؛ وقد كتبت مقالا بالمناسبة، نشرته ملحقا بكتاب "البراديم كولن"، بعنوان: "زمان وجيهان، حين يصير الإعلام نظيفا"، ص:194.
[16] انظر: *مقدمات في نظرية الوعاء الحضاري؛ موقع فييكوس، بتاريخ 5 يناير 2011. *الوعاء الحضاري والنسيج الحضاري؛ مخطوط، المؤلف. *دورنا التربوي، في ظل وعائنا الحضاري؛ محاضرة صوتية؛ معهد المناهج، الجامعة الصيفية، الطبعة الثالثة، موقع فييكوس، بتاريخ 26 جويلية 2011م.
[17] انظر: الجماعة العلمية ابتداء؛ مقال، موقع فييكوس؛ 18 يونيو 2011م. الجماعة العلم-عملية؛ محاضرة صوتية؛ معهد المناهج، الجامعة الصيفية، الطبعة الثالثة، موقع فييكوس، بتاريخ 27 جويلية 2011م
[18] يقول المسيري: "وإنكار مقدرة العقل التوليدية يتبدى بشكل واضح في ظاهرة مرضية أكاديمية أخرى، هي دراسة قضية التأثير والتأثر، وهي دراسة مريحة لا تتطلب اجتهادا وإبداعا" (رحلتي الفكرية؛ مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر، 2000م؛ ص:266).
[19] الأحجية في اللغة هي اللغز، والأحجية العلمية هي عملية ذهنية مركَّبة، قد تكون محضَ خيال، أو تكون من الواقع؛ تنتظر من القارئ ومن الطرف المتلقِّي إعمال عقله؛ بحيث تعتمد الاستشكال، وطرح الأسئلة، والتلغيز؛ وفائدتها أنها تتعامل مع العقل التوليديِّ، لا مع العقول الفوتوغرافية المتلقيَّة المصمَتة.
[20] تجمع الأحجية على "الأحاجي"، وعلى "الأحجيات"؛ وترد الصيغتان في مصادر اللغة، وفي البحوث العلمية؛ ويوجد كتاب في النحو بعنوان "منير الدياجي، في تفسير الأحاجي"، للإمام أبي الحسن علم الدين علي بن محمد السخاوي (ت 643هـ)؛ شرح فيه أحاجي أبي القاسم الزمخشري في النحو؛ تحقيق سلامة عبد القادر المراقي، لنيل درجة الدكتوراه، إشراف أحمد علم الدين رمضان الجندي؛ جامعة أم القرى، 1985م.
[21] ألَّف قطب الأيمة امحمد بن يوسف اطفيش (ت: 1332ه) رسالة بعنوان "لغز الماء"، وقد حصل بعد حله على وسام الشرف من قبل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني؛ فرأى علماء الأكاديمية الفرنسية للعلوم أنهم الأولى بمنح الوسام، فكرموه بوسام ثان؛ فقبل الوسام، وعلَّقه أسفل برنوسه؛ تعبيرا عن رفض الاستعمار واحترام العلم.
[22] بنية الثورات العملية؛ توماس س. كون؛ ترجمة حيدر حاج إسماعيل؛ المنظمة العربية للترجمة، بيروت؛ 1996م؛ ص:99 وما بعدها.
[23] ألبرت أنشتاين، قال ذات مرة : "الخيال أقوى من المعرفة"، كان يقدِّر جيِّدا مفهوم "التفكير مثل الطفل"؛ وقد سمح له هذا الموقف أن يفهم الكون بطرق عميقة. وقد استخدم خياله لإجراء "تجارب الفكر"، و"طرح الأحجيات"، التي ساعدته في رؤية العالم من منظور جديد.
[24] مبدأ الريبة: أنشتاين، هازينبرغ، بور والصراع من أجل العلم؛ ديفيد ليندلي؛ دار العين للنشر، القاهرة، 2009م. وانظر:جيمس جينز: الفلسفة والفيزياء؛ فصل خاص بالفيزياء الكمومية.
[25] البحث عن قطة شرودينجر؛ جون جريبين؛ ترجمة: فتح الله الشيخ، وأحمد السماحي؛ نشر مؤسستي كلمات، وكلمة؛ 2009م.
[26] لماذا الدين ضرورة حتمية؟ مصير الروح الإنسانية في عصر الإلحاد؛ دار الجسور الثقافية، الأردن، 2005م. وقد استعار المؤلف فكرة النفق، للتعبير عن أزمة العصر الراهن، وعبر عن العلموية بأرضية النفق، وعن التعليم العالي بالجدار الأيسر، وعن وسائل الإعلام بسقف النفق، وعن القانون بالجدار الأيمن؛ وعن نور الإيمان بالضوء والهواء في نهاية النفق
[27] الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود؛ مراد هوفمان؛ تعريب: عادل المعلم، يس إبراهيم. مكتبة الشروق، القاهرة 2001م. يشرح مراد هوفمان هذا الاختيار للخيال والأحجية منهجا للتحليل، فيقول: "ولتحقيق ذلك سأقوم بخلق شخصيتين من بنات أفكاري، لطالبين مسلمين، نمطيين، يعيشان في الغرب حاليا؛ وسأقوم بتوجيه الأسئلة إليهما عن هذا الغرب، حتى أصفه من خلال عيونهما، هذا في الفصل الأول. أما في الفصل الثاني، فسأقوم بهذه التجربة مع طالبين أوروبيين، هما بطبيعة الحال شخصيتان ابتكرتهما أنا في خيالي، فأسألهما عن انطباعاتهما عن العالم الإسلامي. وسأضيف إلى الشخصيتين المتخيلتين بعدا إضافيا من خيالي، فإحدى الشخصيتين اختارت هذا العالم وطنا لها، أما الأخرى فلا ترى داعيا لهجرة وطنها الأصلي. ومن خلال هذه التجربة، سنشاهد هذا العالم، العالم الإسلامي، من خلال عيون غريبة عنه. أمَّا النتجية فأعتقد أنها ستكون محيِّرة". (الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود؛ مراد هوفمان؛ ترجمة: عادل المعلم، وويس إبراهيم؛ دار الشروق، 2000م؛ ص:17-18).
[28] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم» (رواه البخاري، كتاب الشهادات؛ باب القرعة في المشكلات).
[29] قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلاَّ أن تدعو الله بصالح أعمالكم...» (الحديث، رواه البخاري؛ باب الإجارة).
[30] أود التنبيه كذلك إلى أنَّ الأحجية والصورة الذهنية المفترضة، تعتبران من أبرز المناهج التي اعتمدها بديع الزمان النورسي، في معالجة حقائق الإيمان والقرآن، في كامل "كليات رسائل النور"؛ وهو ما يسميه بـ"الحكاية التمثيلية". انظر مثلا: الكلمات؛ الكلمة الثالثة، والتي يقول في مستهلها: "إن كنت تريد أن تفهم كيف أنَّ العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وأنَّ الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقَّق؛ فانظر إلى هذه الحكاية التمثيلية، وأنصت إليها:..." (ص:12)
[31] في مهب المعركة، إرهاصات الثورة؛ مالك بن نبي؛ 1986م، ص:112.
[32] القدر في ضوء الكتاب والسنة، محمد فتح الله كولن، دار النيل، تركيا، 2006م، ص:6.
[33] الصراع الفكري في البلاد المستعمر، مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق، 1988م.
[34] انظر: البراديم كولن، فتح الله كولن ومشروع الخدمة، على ضوء نموذج الرشد؛ محمد باباعمي، دار النيل، تركيا 2011م؛ ص:189.
[35] فتح الله كولن، جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية؛ محمد أنس أركنه؛ دار النيل، تركيا، 2010م؛ ص:232.
[36] Islam and Peacebuilding: Gulen Movement’s Initiatives, Edited by: John Esposito, Ihsan Yilmaz. Blue Dome Presse, New York, 2010.
[37] يعتبر البحث في "حدود العلم وعجز العالم" من أبرز المواضيع إثارة في نظرية المعرفة؛ فإضافة إلى ما كتبه كارل بوبر في "منطق الكشف العلمي"، الذي نسف فيه ادعاء العلم الوضعي القدرة على تفسير كل شيء؛ نقرأ كتابا لعبد الوهاب الأفندي بعنوان "عن ستيفن هوكنغ وسجالات خلق الكون: حدود العلم ومحيط الجهل"؛ بل إنَّ موسوعة صدرت في بريطانيا بعنوان "موسوعة الجهل" تؤكد هذه الحقيقة؛ وانظر مقال: مقياس العلم؛ محمد باباعمي، مجلة كراسات تربوية، مصر، عدد:2.
[38] يعرض فيه المؤلف مشروعا لبلاد عدم الانحياز، على ضوء مؤتمر باندونغ؛ وقد لقي المؤلف جراء مشروعه عنتا كبيرا، وحصارا شديدا، على يد أذيال الاستعمار في البلاد المستعمَرة. (انظر: فكرة الأفريقية الآسيوية على ضوء مؤتمر باندونغ؛ ترجمة: عبد الصبور شاهين؛ دار الفكر، دمشق؛ 1986م).
[39] كتب المؤلف عن الصعوبات كعلامة نمو في العالم العربي، وعن خواطر في نهضتنا العربية، وغيرها؛ دار الفكر، دمشق؛ 1986م.
[40] صاغ فيه أسس علم "فهم الثورات"، وكذا "وعي الاستقلال" وحيثياته في الجزائر وغيرها من البلاد العربية، وأبدع فيه المؤلف أيما إبداع؛ دار الفكر، دمشق؛ 1986م.
[41] وضع فيه المؤلف "الاستعمارَ تحت المجهر"، وبين "وحل الاستعمار"، وكشف "أبواق وأقلام الاستعمار"، وصاغ مشروعا "لإصلاح التراب الجزائري"، ودعا إلى "مؤتمر جزائري لإصلاح العمل"، إلى أن انتهى بـ"الأفكار الميتة والأفكار القاتلة". دار الفكر، دمشق؛ 1986م.
[42] اقرأ مثلا مقال: "إنسان الفكر والحركية"؛ في كتاب "ونحن نقيم صرح الروح"؛ فستجد أنَّ الأسماء التي أسند إليها فكره كلها عثمانية وتركية، ويقول: "إنسان الفكر والحركية هو رجل الانطلاقة والحملة، الحركي المخطط، الذي يقوم ويقعد على خفقان شد العالم بالنظام مجددا" إلى أن يقول: "رجال في استقامة مديدة يشعون ضياء، منهم: أحمد حلمي فليبيه لي، ومصطفى صبري، وفريد قام، ومحمد حمدي يازر، وبديع الزمان سعيد النورسي، وسليمان أفندي، ومحمد عاكف، ونجيب فاضل" (ص:63-64). ولا شكَّ أنَّ الأستاذ هنا يراعي ظروف المستمعين، ومداركهم، والأهداف والرؤى والغايات، فهو يخاطب الناس بلسانهم، وبما يفهمون، وبما ينفعهم.
[43] إشارة إلى ما حدث للخليفة الراشد أبي بكر -رضي الله عنه-، يوم تمرَّد عليه أهل الردَّة من مذحج وبني حنيفة، وامتنعوا عن أداء الزكاة، فقال مقولته الشهيرة: «والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدُّونه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتُهم عليه» (رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-).
[44] بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص:14.
[45] يقول كُولَن: "الاعتراض على كلِّ شيء، ونقدُ كلِّ شيء حركةٌ تخريبية. والإنسانُ عندما لا يعجب بشيء، عليه أن يأتي وينجز الأحسنَ منه. فمِن النقد والهدم نحصل على خرائب، ومن البناء نحصل على عمار" (الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:90).
[46] نقل إلينا أحد تلاميذ الأستاذ هذا المعنى حرفيا عن الأستاذ فتح الله، بعد الثورات التي اجتاحت العالم العربي هذه السنة (2011م)
[47] مجلة حراء، المنشور، فتح الله كولن، ترجمة: نوزاد صواش، العدد:14، (يناير-مارس 2009م)؛ ص:64.
[48] يقوم نموذج الرشد على أعمدة ثلاثة، هي: ذاتية اتباع الأسباب، وحركية الفكر والفعل، وسداد المسلك. (انظر: البراديم كولن، ص:13-14 وما بعدهما)
[49] وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص:148.
[50] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:63.
[51] لهذا الحكم العشرات من الأمثلة، رصدتُ بعضها، والمقام لا يسمح بعرضها كاملة؛ لكن يكفي أن أذكر أنَّ مالك بن نبي يقرر أنَّ "نفس الفرد هي العنصر الجوهري في كل مشكلة اجتماعية" ثم يسأل: "كيف نغير هذه النفس؟".. ودعا إلى علم جديد لم يوجد له اسم بعد، هو "علم تجديد الصلة بالله" (وجهة العالم الإسلامي،ص:48). فمالك بن نبي أجمل في هذه النقطة الهامة جدا؛ ولقد فصَّل كولن أيما تفصيل فيها، في جميع مؤلفاته، وبخاصة "ونحن نقيم صرح الروح".
كما أنَّ كولن كثيرا ما أشار مجمِلا إلى الشرور التي تنقل من الغرب إلى الشرق، عبر الفلسفات والعلوم وعن فشل الأيديولوجيات؛ ومما قال في ذلك: "لم نعرف حتى اليوم أيديولوجية نجحت في جمع البشر في ظلها زمنا طويلاً، بل لم نعرف أيديولوجية اكتشفت كلَّ الضرورات اللازمة التي يتطلّبها جمع البشر تحت سقف واحد. ومع الادعاءات الباهرة، لم تستطع الدول الغربية التي هيمنت على قسم واسع من الأرض في التاريخ القريب أن تحقق الأمان والحبور الدائم للعالم، ولا الشعوب الاشتراكية والشيوعية في الشرق..." ( ونحن نبني حضارتنا (مقال: رسالة الإحياء)، فتح الله كولن، ص:36). ولقد فصل مالك بن نبي بوضوح في هذه القضية الهامة، في أغلب كتبه، بل هي محور إشكالية الحضارة عنده.
[52] لفهم طبيعة هذه المعاناة، ينظر مذكرات ابن نبي، باللغة الفرنسية، وبخاصة قسم "العفن"، Pourriture (1956م).
[53] نكران الذات والمدد الربّاني، فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد: 24 (ماي-يونيو 2011) ص:32-33.
- تم الإنشاء في