القسم الأول: المنهج والدراسة والتحليل
الموسوعة الكونية.. مثال تطبيقي للجماعة العلمية
في الأيام الأولى لالتحاقي بالأكاديميا[1]، حاولت مرارا أن أستشير الهيئة الإدارية، حول "البرنامج"، و"المشروع"، و"الصلاحيات"، و"الأهداف"... غير أني في كلِّ مرَّة أجد منهم التيسير، والدفع نحو "ذاتية كاملةٍ"، مع تناغم في الحوار الولود، والتشاور البنَّاء؛ ولم أذكر يوما أني سمعتُ اعتراضا، أو احتجاجا، أو لوما؛ فما كان مني إلا أن شمَّرت على ساعد الجدِّ، وعملتُ بشوق واندفاع ورغبة، متمثلا بيتا للشاعر، من عيون الحكمة:
وقيدت نفسي في ذراك محبَّة
ومن وجد الإحسان قيد تقيَّدا
ثم عرضتُ على فريق الخبراء، ثلاثة مشاريع، هي:
"الموسوعة الكونية للمفاهيم والمصطلحات"، في فكر الأستاذ فتح الله كولن.
"تفسير الرشد": مؤسَّس على الرؤية الكونية للأستاذ فتح الله.
"مجانين أريد": وهي قصص من واقع "الخدمة"، مصوغة على نموذج الرشد.
بعد جلسات للحوار العلميِّ، والغوص في أعماق نتاج الأستاذ، بالخصوص ما كان منه باللغة التركية، مما لم يتسنَّ لي الاطلاع عليه... بعد تلكم الجلسات استقرَّ الرأي في الشروع بالموسوعة الكونية، ذلك أنَّ "المفهوم والمصطلح" هما مادة الفكر، ومفتاح النموذج...
أمَّا قصص "مجانين أريد!" فقد أنجِز قسمٌ منها، وتُرك الباقي للمناسبات؛ وأمَّا "تفسير الرشد"، فقد أجِّل إلى حين؛ لأهميته، ولصعوبة إنجازه قبل ترجمة نتاج الأستاذ كلية، وبخاصَّة ما كان في القرآن الكريم، مثل "تفسير سورة الفاتحة"، و"إقليم القرآن الذهبي".
توكَّلت على الله، وشرعتُ في "الموسوعة الكونية"... وسجَّلت هذه المراحل والخطوات، لتكون عنوانا منهجيا، ومثالا لما تم إنجازه، ولما ينتظر بحول الله تعالى.
الفكرة والتنفيذ
شاء الله تعالى أن توضع أسس هذا العمل القاموسيِّ المعجميٍّ المركَّز، ويُختار له عنوانًا: "الموسوعة الكونية لمفاهيم الأستاذ فتح الله كولن"، مؤسَّس على "الرؤية الكونية" للأستاذ ومشروع "الخدمة"، أو ما عُبّرنا عنه من قبل بـ"البراديم كولن"؛ والمشروع مؤطَّر وموجَّه ضمن مؤسَّسة "الأكاديميا" للبحث العلميِّ، بمبادرة فردية ابتداءً؛ لكن بتعاونٍ وعمل جماعيٍّ، بعد ذلك؛ ولقد مرَّ بمراحل حتى بدت بواكيره الأولى، وتم فيه ما يلي:
بناء مخطَّط وتصوُّر أوَّليٍّ، وعرضُه على "فريق الأكاديميا" للمناقشة.
الشروع في جمع المادة من مصدرين أساسيين، من تأليف الأستاذ قلميًّا، مما ليس من محاضراته الشفوية المنزَّلة على الورق، وهما "ونحن نقيم صرح الروح"، و"ترانيم روح وأشجان قلب".
إعداد قائمة بالمفاهيم الأساسيَّة، من خلال المصدريْن، بلغ حجمها حوالي "ألفي مفهوم"، منها ثلاثمائة مفهوم مع التعريف المستفيض، والباقي دون الاستفاضة في التعريف.
تبيُّن ضخامة حجم المادَّة، وغزارة الإنتاج الاصطلاحي والمفهومي لدى الأستاذ بالخصوص، وتم الاتفاق على تقليص المشروع في مرحلة أولى، تليه مراحل، بحول الله تعالى.
معالجة مآل المشروع وعلاقته بإشكالية الترجمة، والاختلاف البيِّن بين المترجمين، والحجم الضئيل للمصادر المترجمة إلى العربية، مقارنة بالمؤلَّفات المطبوعة من تأليف الأستاذ، وهي نسبة تقرُب مِن واحد على سبعة.
صياغة نموذجين إلى آخر مرحلة (أي مرحلة التصميم) هما "الأفق" و"الزمن"، للنظر في الصورة النهائية مصغَّرةً، ولفتح باب المناقشة والملاحظة. ثم اقتراح "قالبين": أحدهما أقرب إلى الموسوعات اليسيرة التداول، والآخر أقرب إلى الموسوعات الكبرى المتخصِّصة؛ واستقرَّ الرأي على الأوَّل.
التوصُّل إلى فكرة أساسية هي: "الزمر المصطلحية"؛ وقد سمّاها "طوني بِنيت" وآخرون "العناقيد"، غير أنَّ الباحث اهتدى إليها مع الأساتذة في "الأكاديميا"، قبل مطالعة عمل "بنيت"، ثم إنَّ ثمة اختلافا بين الدلالتين، فهُما ليستا متطابقتين تمام التطابق.
الاتفاق على إعداد عدد من "الزمر"، يندرج تحتها عددٌ من المصطلحات والمفاهيم؛ حتى نخرج من مشكلة تباين الترجمات، ومثال ذلك: (metafizik)؛ فببينما يترجمها البعض بـ"الميتافيزيقا"، يترجمها آخرون بـ"الماورائية"، وآخرون بـ"الغيب"، ويوجد حتى من ترجمها بـ"الوحي"... فالزمرة الواحدة تجمع كلَّ هذه الترجمات، وتضعها تحت خانة واحدة، ومن ثم يمكننا المقارنة، والمعالجة، والتدقيق...
الشروع في جمع المادة وتصنيفها، والمقارنة بينها، وتحليلها، للمرحلة الأولى.
قراءة في "مفاتيح اصطلاحية جديدة" على ضوء "الموسوعة الكونية"
عند الاطلاع على نماذج معجمية، للمصطلحات والمفاهيم، سواءً الورقية منها أم الرقمية، بغيةَ الاستفادة منها في بناء التصوُّر المنهجيِّ والفني للموسوعة الكونية، تحصَّلتُ على نسخة من عمل علميٍّ، وجدتُ فيه ما ينبغي التوقُّف عنده، والاستفادة منه؛ فرأيت من اللائق عرضَه، ليكون لفريق العمل مرجعا، ثم ليفيد القارئ والباحث تبعًا. مع التأكيد أنَّ العديد مما ورد فيه قد بثَّ فيه فريق البحث، وإنما موافقته وملاءمته تزيدنا تأكيدا ووثوقية، كما أنَّ الكثير من النقاط تختلف بين المشروعين، طبعًا. فالمسألة تكمن في الاستفادة الانتقائية التوليدية، لا في عملية "نسخ-لصق" الفوتوغرافية المتلقية.
الوصف
القاموس المذكور عنوانه: "مفاتيح اصطلاحية جديدة، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع"؛ تأليف "طوني بِنيت، ولورانس غروسبيرغ، وميغان موريس" (.Tony Bennett,Lawrence Gross berg, Meaghan Morris)، ترجمه إلى العربية "سعيد الغانمي"، صدر ضمن أعمال "المنظمة العربية للترجمة"، سبتمبر 2010م[2].
أمَّا أصل الكتاب فهو بالإنجليزية، صدرَ عام 2005م، ضمن إصدارات "أكسفورد"، بعنوان: "New keywords: a revised vocabulary of culture and society"؛ وقد شارك في التأليف وجمعِ المادة العلمية حوالي 61 عالما وباحثا من مختلف التخصُّصات، ومن العديد من جامعات العالم؛ إضافةً إلى المحرِّرين الرئيسيين الثلاثة؛ وأصل القاموس عملٌ جادٌّ أنجزه "رايموند وليامز" (Raymond Williams)؛ في السبعينيات، نشر عام 1976م، ثم أعيد نشره منقَّحا عام 1983م؛ فهذا المشروع الذي بين أيدينا - أي عمل بنيت وآخرين- هو إتمام له، وتنقيح، وتحديث؛ دون تغيير العنوان؛ ولقد أضافوا فقط صفة "جديدة / New".
استغرق القاموس في مرحلته الثانية "الجديدة" خمس سنواتٍ كاملة، بمشاركة فعالة لجميع الذين ذُكِرت أسماؤهم في قائمة المؤلِّفين الثلاثة، وفي قائمة المساعدين في جمع المادة والتأليف. ومع ذلك يقرِّر المؤلفون أنه "ربما ما كان في الإمكان إنتاجه على الإطلاق لولا الأنترنت".
وفي مشروع "الموسوعة الكونية"، يسجَّل حضور الإعلام الآلي بقوَّة كذلك، فلقد وضعت مؤسَّسة "الأكاديميا" بين يدي الباحث جميع كتب الأستاذ فتح الله بصيغتي "word" و"pdf"، باللغة العربية؛ ثم إنَّ "موقع الأستاذ"، وموقع مجلة "حراء"، كانا دعما للبحث، وللاطلاع على المادة التي يبحث فيها؛ ويكفي أن نقرِّر كذلك، أنه "لولا هذه المادة الرقمية، لما أمكن بتاتا محاولة الاقتراب من هذا المشروع الضخم".
علما أنَّ مادة ونتاج الأستاذ فتح الله باللغة التركية نظِّمت في وسائل تقنية إعلامية أكثر تطورا، من ذلك "برنامج معلوماتيٌّ خاصٌّ"، يحوي جميع ما ألِّف ونشر من تراثه، مع البحث السريع والدقيق، وهذا البرنامج عادة ما يُستعمل في "المطالعات الجماعية"[3]، وفي التدقيق في أي مصطلح أو معنى، بسرعة فائقة. مع التأكيد على ضرورة العمل لتوفير مثله باللغة العربية، عند اكتمال الترجمة، بحول الله تعالى.
المصطلحات والمفاهيم
عرَّف المفتاح 142 مصطلحا، وهو ما سمي بـ"اللفظ المفتاح" وهو ترجمة لـ"keywords"، وضمن هذه المصطلحات كمٌّ هائل من المفاهيم "concepts"، المتطوِّرة عبر تاريخ العلوم، والمتنقِّلة ما بين التخصُّصات، والمستعمَلة ممارسةً في الدوائر غير الرسمية...
ولقد اخترنا في "الموسوعة الكونية" أن نعتمد طريقة "الزمر المصطلحية" -وهي بمثابة "جذورٍ مفتاحية"- تندرج ضمنها "مصطلحاتٌ من نفس الزمرة"، وهذه المصطلحات "ألفاظ مفتاحية" مترادفة أو شارحة أو لصيقة بعضها ببعض؛ وتحت كلِّ مصطلح نقرأ "المفاهيم"، وهي صيغ موسَّعة، تحمل صورة لغوية ومعنى دلاليا كاملاً، بمجرد قراءته يمنحنا تصورا كونيًّا ملهِمًا ودالاًّ على خلفيته المعرفية؛ كما يفتح أمامنا مساحة للخيال الجاد والعقل المولِّد، فننطلق في بناء تصوراتنا الحضارية الكونية، بحيوية وحرية وتسامح.
مثال ذلك، في هذا الجدول:
الزمرة |
المصطلح |
المفهوم |
بعث |
بعث، انبعاث، نهضة، تجديد، تغيير، إحياء، إصلاح... |
إحياء منظومات الدين كلها استجواب التغييرات والتحولات الإصلاح الجاد في الملكات العقلية والروحية والفكرية انبعاث على مشارف الألفية الثالثة البعث الجديد بعد الموت بعث ما بعد البعث عقم التجديد |
العنوان
استعارة "المفتاح" في مشروع وليامز، والتي استعملت في "العنوان"، وحافَظ عليها "بِنيت وآخرون" في مشروعهم الجديد، هذه الاستعارة قديمة جدًّا؛ أمَّا أوَّل من استعارها للدلالة على المصطلحات فهو "الخوارزمي"، في كتابه "مفاتيح العلوم"، وهو مسردٌ لعدد كبير من المصطلحات في مختلف العلوم. وتابعه "السكاكي" في كتابه "مفتاح العلوم". ويسجَّل بعنايةٍ أنَّ المرحوم "فريد الأنصاري" أنجز عملا اصطلاحيا هاما، حمل عنوان: "مفاتح النور" يعالج مفاهيم "رسائل النور" لبديع الزمان النورسي؛ وبالتالي استعار دلالة "المفتاح".
أمَّا في مشروعنا فقد اخترنا للعنوان لفظا آخر هو "الموسوعة"، ولا شكَّ أنَّ بينه وبين "القاموس"، و"المعجم"، و"المسرد"، و"المفتاح" تداخلا كبيرا، وبين بعضها عموم وخصوص، ولقد مرَّ العنوان بمراحل، ونضج مع الوقت، فكان في البداية "معجما"، ثم تطوَّر إلى "قاموس"، وأخيرا، وبعد ظهور نوع المادة، وحجمها، وأهميتها، استقرَّ الرأي على "الموسوعة"، ويكفي أن نذكر أنَّ الموسوعة تعدُّ: "محاولةً لتوثيق، وجمع المعرفة الإنسانية. وهي تحتوي على مقالات أو مواضيع في مجالات متعدِّدة، أو في مجال واحد إذا كانت الموسوعة متخصِّصة".
والملاحظ أنَّ طبيعة مشروعنا لا تتلاءم مع "الدقَّة المصطلحية"، ومع "الشروط الصارمة" التي تُطلب في المعاجم والقواميس المتخصِّصة؛ بل إنَّ مثل هذه الدقَّة، وهذا الانضباط، لا يلائم المادة التي بين أيدينا، فهي في كثير من الأحيان لا تنحصر في فنٍّ معيَّن، ولا ضمن علمٍ مخصَّص، بل هي متجاوزة كلَّ التجاوز، عابرة للمجالات، وفي هذا يقول الأستاذ فتح الله: "هذه معانٍ عميقةٌ، ذات محتويات مهمَّة بالنسبة إلينا، بحيث لا نستطيع سماع هذا من أكبر فيلسوف، أو أيِّ حكيم، يبحث عن حقيقة الأشياء وراء الأستار"[4]. والأستاذ ينبّه في مصادر أخرى، وبخاصة في "التلال الزمردية" أنَّ هذا العمق وهذه السعة مردُّهما إلى "مصدرية الوحي"، و"السنّة"، و"التراث الإسلامي عبر العصور"...
والحقُّ أنَّ "ويليامز" نفسُه، رغم توظيفه لمصطلح "مفاتيح" كان يتوخَّى البعد العموديَّ المتعمِّق، فهو يقصد من عمله المعنون بـ"مفاتيح إصطلاحية" ألاَّ يقتصر على مجرَّد مسردٍ للمصطلحات في معجم؛ كان يريد أن يجعل المصطلح "كيانا ثقافيا وتاريخيا يَصنع ويُصنع، ويكوِّن ويكوَّن، مفتاحا يُغلق المفاهيم، ويفتح الحقول المعرفية على بعضها مشرعة الأبواب".
ومِن طبيعة الموسوعة أن تكون -كذلك- غيرَ حياديةٍ، وإنما تحمل خصائص انتمائها، وعملُنا هذا من هذا القبيل، ومن هذا النفَس. ولقد ذكر المترجم للمفاتيح، الأستاذ "سعيد الغانمي" أنَّ "نظام التسمية ليس حياديًّا، بل هو يحمل دائما وجهة نظر مولِّدة"، ومن ثم كان للموسوعة خصوصيتها، وتكتسب من هنا حيويتها ونماءها المتواصل. فليست المعاني سكونية بل هي في حركية دائمة دائبة.
والمقرَّر أنَّ المصطلحات ليست خاوية مجرَّدة، باردة محايِدة، ولا هي مرتبطةٌ فقط بالمعاني العمومية أو القاموسية أو اللغوية، لكنها بالضرورة ترتبط "بطرق رؤية العالم" أي "الرؤية الكونية"، مع تحيُّزها الذي لا يمكن الانفكاكُ عنه؛ ولهذا كان قاموس "وليامز" إنجليزيا، لا لغةً ومعنًى فقط، لكنه إنجليزي في رؤيته الكونية كذلك؛ وجاء القاموس الجديد "لطوني بنيت" وآخرين عالميًّا -في حدِّ قولهم- غير أنهم انتهوا إلى قاموس "غربيٍّ أنجلوفوني" في لغته، ودلالاته، ورؤيته الكونية. ولم يتمكَّنوا من تحقيق هدفهم الكوني، لأسباب تاريخية ومعرفية ونفسية، حلَّلها وشخَّصها "أوزفلد شبنجلر" في كتابه "أفول الغرب" أو "تدهور الحضارة الغربية".
وثمة مبرِّر آخر لاختيار "الموسوعة" عنوانا ومنهجا، وهو التأثُّر الصريح بموسوعة المرحوم عبد الوهاب المسيري، المعنونة بـ"موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"؛ وبخاصَّة كونُها مؤسَّسة على "النماذج الإدراكية والتفسيرية"، وعلى "الرؤية الكونية"؛ وهو أمرٌ بالغُ الأهمية في مشروعنا هذا؛ إذ نؤكِّد، ونعلن من العنوان، أنَّ "الموسوعة الكونية" مؤسَّسة على "الرؤية الكونية للبراديم كولن: فكر الأستاذ، وحركية الخدمة"، وليست مقتصرة على لغته، وعلى ألفاظه، وعلى قوالبه، التي يعتقد -خطأ- أنها قد تكون "موضوعية، علمية، اصطلاحية، مشتركة"... ولقد ولَّى عهد "الوضعية والوضعانية"، و"الفوتوغرافية المتلقية"، و"اللغة المصمتة"؛ حتى لدى أكثر الدوائر العلمية الغربية تعصُّبا.
ولقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الخصوصية، وعن هذا البعد الكونيِّ للألفاظ، بمصطلح "السلطان"، فقال -عز وجل-: (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)(النَّجْم:23). فالبعد الكونيُّ الإلحاديُّ، واضحٌ في الأسماء والمسمَّيات، التي يصنعها المشركون وآباؤهم، أمَّا البعد الكونيُّ التوحيديُّ، فهو بيِّن في "الرؤية الكونية الإيمانية"، أي في منظومة: "السلطان، واليقين، والهدى".
الحقل الدلالي
الحقُّ أنَّ المترجم للمفاتيح الاصطلاحية، الدكتور الغانمي، قد أفادنا إفادة كبرى، إذ عرض بعض ما أشكل عليه، وهو نفسه ما أشكل على مترجمي تراث الأستاذ فتح الله، وإن لم تُجمع -بعدُ- هذه الملاحظات من قِبلهم، في وثيقة مرجعية، فيما أعلم.
يقول الغانمي: "في حالتي، بصفتي مترجما لموسوعة مصطلحات ثقافية، كانت المشكلة الأكبر تتمثل فيما يسميه اللغويون بـ"الحقل الدلالي". والحقل الدلالي هو مجموعة المعاني المختلفة الأساسية والثانوية التي تحملها المفردة. ولا شكَّ أنَّ المترجم ينصرف اختياره إلى مفردة تتطابق مفهوميا مع "المعنى الأساسي"، لكنها قد تختلف كثيرا في "المعاني الثانوية". وقدَّم الغانمي مثالين أحدهما كلمة "Culture"، والثاني كلمة "Home".
وأجد السبب الذي دفعني إلى اعتماد "الزمر" هو هذا الاختلاف الشديد في "الحقل الدلالي"، ولئن كان المترجم في حال "المفاتيح" واحدًا، فالمترجمون في حالة فتح الله كولن متعدِّدون، لكلِّ واحد منهم اختياراته، وخبراته، ونظرته للمشروع... وكلُّ هذا يؤثِّر إيجابا -في نظري- على الموسوعة؛ لكن، شريطة أن يتمَّ ضبطه، والتنبُّه له، والإشارة إليه، وبيان خصائصه... بل، قد تكون الموسوعة الكونية، مستقبَلا، سندا للمترجمين، ومرجعا لهم، لا "لتوحيد الحقول الدلالية"، فهذا مطلب لا نتوخَّاه، لكن للاتفاق على أسس الاختلاف فيها، وعلى صياغة المختلَف والمؤتلَف، وبيان المتفَق والمفترَق، صياغة منهجية عملية، ولعلَّ هذا من أبرز أهداف المشروع أساسا.
ويذكر أنَّ المترجمين لتراث الأستاذ -إلى اليوم- هم الأساتذة: أورخان محمد علي (رحمه الله)، وإحسان قاسم صالحي، وعوني عمر لطفي أوغلو. هؤلاء الثلاثة ترجموا كتب الأستاذ كلِّها، ثم تلاهم، بعض الأساتذة... في ترجمة "ألوان وظلال"، و"مقالات الأستاذ" من كتبه التي لم تترجم بعد؛ وبخاصَّة "الجيل والعصر".
ولا أملك في هذا العرض تسجيل ملاحظاتٍ على كلِّ ترجمة، ولا نقدَ بعضها، تاركا ذلك لمتخصِّصين في الترجمة، وفي اللغتين التركية والعربية بالضرورة؛ داعيا إلى عقد "دروة علمية نقدية" لمعالجة هذه المهمَّة الخطيرة والهامَّة، معالجةً منهجية معرفية، لغوية أدبية، تكون معلمًا فكريا في تراث الأمَّة الإسلامية اليومَ.
التخصص وتجاوز الاختصاص
لو حاولنا أن نصنِّف المادَّة التي أنتجها فتح الله، وبالتالي المادة التي تحويها الموسوعة تبعا، فإننا لا نزيد على أنها ضمن "العلوم الإنسانية"، ثم نجد داخلها: التاريخ، والتفسير، والحديث، والفكر، والحضارة، والاجتماع، ونظرية المعرفة، والفلسفة، والتصوف... بل، كلُّ ما من شأنه أن يعبِّر عن "الرؤية الكونية" للأستاذ، في العلاقة بثلاثية الوجود: "الله، والإنسان، والكون"؛ ومن ثم أحيانًا نطالع حتى فقرات علمية فزيائية ورياضية ذات عمق كبير.
ولذا، نفضِّل أن لا نصنِّف الموسوعة في خانة بعينها، وأن تترك إلى انفتاحها الموسوعيِّ العام، ولقد عبَّر عن مثل هذا مؤلِّفو "المفاتيح"، وذكروا أنه: صنِّفت المادة إلى "مقالات مكرَّسة لمواد مختلفة" وكذلك سار المترجم في ترجمته، ولذا قد يجد القارئ نوعا من "اللانسياب" بين مقال ومقال، وقد يلحظ اختلافات عميقة بين مؤلف ومؤلف، ومصطلح ومصطلح.
ثم ذكروا أنَّ "هذه المفاتيح تصنَّف في حقل "الدراسات الثقافية" وبعبارة أدق: "الدراسات العابرة للثقافة" (Cross-Cultural Studies)، وهو تخصُّص حديث،[5] دخل الجامعة مع بداية الألفية الثالثة؛ وبهذا يكون المصطلح الواحد، ومن خلاله المفاهيم الدفاقة، وأخيرا القاموس كله... كلُّ ذلك، يكون من طبيعة "بينية" أو "متعدِّد المناهج" "يوجد فيما بين الحقول، ويندسُّ ما بين الاختصاصات".
"والموسوعة الكونية" كشفت للباحث مدى سعة اطلاع الأستاذ فتح الله على مختلف العلوم، وأظهرت له تلك القدرة العجيبة على التنقل من علم إلى علم، ومن فنٍّ إلى فنٍّ، بسلاسةٍ، قد لا يحسُّ بها القارئ غير المتأمِّل؛ وهو مع ذلك لا يقضي على التخصُّص، ولا يجده منقصة أو عيبا، وقد بين موقفه هذا في قوله: "ولا ينبغي أن يظنَّ بهذا الكلام أننا لا ندعو إلى التخصُّص أو التفرُّع"[6]. فالخير في أن يتخصَّص امرؤ في فرعٍ من الفروع، ثم يرتقي إلى ذروة عرش الكمال فيه، ويسعى إلى نيل أرقى المنى في تلك الساحة... لكن مع العناية بمعنى الكلِّ ومحتواه وحاله، بل بمقصده وغايته، في أثناء سعيه وجدِّه. ولا بدَّ أن يتحقَّق هذا، سواء بالشعور التضامنيِّ المشترك، أو بسائق العلم والحسِّ، أو بعمل منسَّق متكامل، أو بالدَّهاء العقليِّ. فلا شبهة ولا شكَّ في حاجتنا الماسَّة إلى هذا النظر الكلِّي والشموليِّ، والتقييم العموميِّ والموضوعيِّ"[7].
الانفتاح والتسامح
لقد أحسن المترجم "للمفاتيح" حين استقى من هذا القاموس، ومن هذا العلم الجديد، دلالة "الانفتاح والتسامح بقبول الآخر، والنظر إلى المصطلحات والثقافات لا بوصفها أرضا "للصدام"، أو منطلقا "للصراع"، بل بوصفها وجهات نظر متغيرة، تمتاز بالمرونة والحراك، وإمكان الانتقال من موقع إلى موقع بديل". ومن هنا يمكن لمثل هذه الأعمال الموسوعية البينية -بالخصوص- أن "تفضح الآليات القهرية للاستبداد الثقافي في مفاهيم عسكرية أكثر مما هي ثقافية من نوع "الصدام الحضاري"، أو أي مقولة أخرى تنضح بالمركزية العرقية". ومن ثم امتازت المصطلحات في هذا المشروع بخاصية "المرونة والحيادية والتسامح".
وإذا كان التسامح سمةً نظرية منهجية "للمفاتيح"، فهي صفة غالبة صابغة لفكر الأستاذ ولحركية "الخدمة"، ولعلَّه إذا ذكر التسامح اليومَ في العالم الإسلامي، ذكِر معه الأستاذ؛ ولذلك شواهد كثيرة، ليس المقام مقام سردها؛ وفي سياقنا نسجِّل أنَّ القارئ مثلا لـ"التّلال الزمردية"، يجد أنَّ فتح الله ولج عالَم التصوف، لا بأسلوب مغلق منغلق، لكن بروح منفتحة مفتوحة؛ فولِد من رحمه "تصوف-حركيٌّ"، و"حركة-متصوِّفة"، لا فصل بين هذا وذاك.
ومن ثم جاءت مفاهيم الأستاذ متسامحة، بعيدة عن التشدُّد، فهو يمقت التعصُّب، والإقصاء، والتعريض بالآخر، والتنقيص من أيِّ جهة كانت، حتى وإن صنِّفت في خانة ألدِّ المتعصِّبين ضدَّه؛ فتعصُّب الفكر تفضحُه المصطلحات والمفاهيم والكلمات، كما أنَّ تسامح الروح يطفو على مرآة اللسان، ويظهر أثره ناصعا في الكلمات، والمصطلحات، والمفاهيم... وفي الموسوعة بالضرورة.
ومن مظاهر "التسامح" في فكر فتح الله أنه يعتمد التعريض، ويأبى فضح الخصم، فهو لا يذكر اسمه بتاتا، ولا يقرِّب صفاته للناس؛ وإنما يعتمد "التلبيس" بمفهومه الإيجابي -حسب تعبير "جمال ترك" (أحد أبرز تلامذة الأستاذ)-؛ فأنت تسمعه وهو يحدِّثك عن شيء أو شخص، وهو يقصد شيئا آخر، أو شخصا معيَّنا، ولكنَّك لن تعرفه، بل المقصد عنده هو "الصفات" لا "الأعيان"، والهدف عنده معالجة المرض لا القضاء على المريض.
العمل الجماعي
كان قاموس "وليامز" عملا فرديا، أمَّا قاموس "بنيت وآخرين" فكان عملا جماعيا؛ ولا بدَّ أن يتَّسم كلٌّ منهما بمميِّزات وسلبياتٍ، تمليها طبيعة العمل والعامل؛ ويهمُّنا أن نورد ملاحظات على العمل الجماعي، كما ذكرها أصحابها.
أولاها: أنه في إطار عمل جماعيٍّ "يستعصي فرضُ تصميم معياريٍّ موحَّد"، ولذا أعطي المحرِّرون قواعد عامَّة، ثم "ترِك الخيار للمؤلِّفين إلى حدٍّ كبير لمتابعة ميولهم في تقرير ما يعنيه هذا، وكيفية التعامل مع كلِّ المصادر والمصطلحات التابعة".
ثانيا: استحالة الموازنة بين "النبذة المدرسية لمعاني المصطلح" و"الخصوصية المعرفية لكلِّ مؤلف"؛ فكان الإجراء أن "طلِب من المسهمين أن يتناولوا المفاهيم بطرق من شأنها أن تعكس منظوراتهم، وليس استهداف كتابة موادَّ صحيحة، ذات طابع معياريٍّ كليا، بأسلوب قاموسيٍّ مدرسيٍّ". وهذا الاتجاه تسنده "النماذج الإدراكية والتفسيرية" التي تحلُّ محلَّ الذاتية والموضوعية، في العلوم الإنسانية بالخصوص؛ فالمطلوب هو تحقيق الأكثر تفسيرية، لا الانتهاء إلى "الموضوعيِّ الصحيح المطلق". وقد وظَّف المؤلِّفون مصطلح "الانحيازات الثقافية" لتبرير هذا الاختيار، وهو ملائم وقريب من مصطلح "التحيُّز" الذي طوَّره المسيري، في عمله الموسوعي "فقه التحيز"، واعتمدناه في "الموسوعة الكونية".
وثالث الملاحظات على العمل الجماعي، هو طريقة الانتهاء إلى الصواب، والاتفاق عليه، ورد في المقدِّمة: "ومحرِّروا هذا الكتاب الثلاثة، الذين يعملون انطلاقا من خلفيات اختصاصية مختلفة، ومؤثرات سياسية مختلفة، ومواقع لغوية ووطنية مختلفة، خاضوا في مناقشات طويلة ومنازعات مفعمة بالعنفوان، أحيانا كانت تحلُّ بالقوَّة العمياء لاثنين مقابل واحد".
ولقد تراوح مشروع "الموسوعة الكونية" بين كونه "عملا فرديا" في التأليف، والضبط، وصياغة المادة، وعرضها... وكونه "عملا جماعيا" في صوغ الاختيارات الكبرى، وفي التشاور حين يشكل أمرٌ ما، وفي التوجيه لأفضل أسلوب ومنهج ممكن، وفي المطالعة المتواصلة لما يؤلَّف، ثم التوجيه وفق سعة المادة، وغياب النص المترجم، وعدم المعرفة الكاملة بالمترجَم له...
وهنا، في بحر الموسوعة الكونية، حاولنا أن نجمع بين إيجابيات العمل الفرديِّ والعمل الجماعيِّ، ونحذر من الوقوع في سلبياتهما معا، ولكن لا نعرف هل وفِّقنا في ذلك أم لا؟!
حسبنا أن نجتهد ونحاول، والله هو الهادي لسواء السبيل...
الحوار والمناقشة والتوليد
لقد أثار مشروع "المفاتيح" "مناقشات عامة"؛ لكنها لا تدور بالضرورة في ميادين أكاديمية محدَّدة، وإن كانت لا تستبعدها أحيانا. فقد كان "الإحساس بالأهمية العامَّة"، المتداخلة بين التخصُّصات، والثقافات، واللغات... هي الموجِّه الأوَّل. فجاءت بعض المصطلحات -بسبب هذا- "كلمات قوية وصعبة ومقنعة".
يقول "طوني بنيت": "ليست مشكلات حدود الزمان والتكنولوجيا، ولا حتى التمويل والوسائل، بالمشكلات الحقيقية، رغم حظِّها من الأهمية؛ وإنما أكثر المشكلات حضورا وتأثيرا هي مشكلات المعنى، وتتمثل أساسا في العلاقات الفعلية بين المؤلفين... ومستوى العمومية في النقاش الذي يفترضه تحقيق المشروع". ويمكن تلخيصها في "العلاقات"، وفي "مستوى العمومية".
ثم يواصل "بنيت" تدليله قائلا: "ولذا ليس من الضروري أن يتناغم جميع المحرِّرين مع الفريق، أو يتقبَّلوا اختيارات المشروع، ولقد أحدثت نقطة تجاوز الاختصاص والمدرسية، نحو حقول متجاوزة للثقافات، بأسلوب مفتوح، ومعترف بالتحيزات... أحدثت هذه المشكلة بلبلة في الفريق، حتى إنه "انسحب بعض المساهمين حين أدرك ما أردناه، وقد شكرناهم لإطلاق أيدينا في وقت مبكر لدعوة آخرين سواهم". ولقد عرفت "موسوعة المسيري" كذلك، مثل هذا الانسحاب، بسبب الاختلاف بين "العقل الوضعي" و"العقل التوليدي".
وفي "الموسوعة الكونية" تبرز مشكلات المعنى جلية، وليست ثمة أيُّ مشكلة أخرى، سواء أكانت تقنية أم إدارية أم نفسية... بل جميع الظروف متوفِّرة، والحمد لله، وتبقى مشكلة "اختيار" المعنى الأنسب، والترجمة الأفضل، وإضافة صيغة إلى أخرى، وإدراك أنَّ هذا المفهوم له امتدادات كثيرة في تراث الأستاذ... تبقى هذه هي المشكلات الأساسية في عملنا، لطالما عانينا في تخطيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ولذا، كثيرا ما أعلنتُ لفريق العمل، أنه "كبَّلتني اللغة"، ولكَم رجوت لو أني أتقن التركية، إذن لتحرَّرتُ؛ ولقد قالها أحد الباحثين يومًا: "آه، ليتك كنت عارفا بالتركية، لسبحت في فكر الأستاذ بلا حدود".
ومع أني لم أتمكَّن من السباحة، غير أني لن ألوذ بحول الله إلى الانسحاب!
متى ينتهي العمل؟
ينبغي التنويه إلى أنَّ "الإحساس بعمل غير منتهٍ، وغير مكتمل، لا بدَّ أن يستأنفه الآخرون، هو جزء حيوي من تراث وليامز"، كذا "الإحساس بدخول عالم جديد وغريب"، أي أنه وجد الجيل الجديد "لا يتكلَّمون اللغة نفسها"، وهذا يفسِّر ما احتدَّ في الثقافة المعاصرة مما سمي "صدمات ثقافية"، و"حروب الثقافة"، ولم تكن هذه الصدامات والحروب مقتصرة على القرية والمدينة، ولا على الشركة والصفِّ الدراسيِّ، بل تجاوزته إلى "أقسام المعرفة، والحقل العلميِّ"... غير أنه ما ميَّز جهد "وليامز" استثماره لهذه المواجهات، واستيحاؤه الدلالات العميقة للمعجم، من خضمِّ تلكم الصراعات؛ ليأتي عملا ديناميكيا لا استاتيكيا، حركيا لا سكونيا. وعلى هذا الخط سار أتباعه من بعده.
وكون العمل "لا نهاية له" سمة أصيلة في "الموسوعة الكونية"، لأسباب كثيرة منها:
أنَّ الأستاذ لا يزال ينتج، ويطوِّر معارفه ومناهجه وأساليبه، كلَّ يوم وكلَّ أسبوع... فالمدد متواصل غير منقطع.
كون الترجمة -كما ذكِر- بلغت نسبةً صغيرة من نتاج الأستاذ، إذ كلَّما ترجِم مصدر كان مرحلة جديدة للموسوعة، فلا نهاية إذن... بل حتى ولو ترجمت جميع مصادره، فإنَّ "نوع الترجمة" والحاجة الماسَّة أحيانا لإعادة ترجمة ما تُرجم، بناء على السياق الجديد، وعلى المستجدَّات، وعلى التمكُّن، وعلى تطوُّر الدلالات... هذه النزعة تبقي الموسوعة مفتوحة على مصراعيها.
العلاقة الوطيدة بين خلفية المترجِم المعرفية، وعلاقته بالأستاذ والخدمة من جهة، وباللغتين العربية والتركية من جهة ثانية. فترجمة مثل هذه الأعمال الفكرية لا تتمُّ لفظيا فقط، بل تتجاوز ذلك إلى البعد، والعمق، والخلفية الدلالية، والسياق، وحيثيات النصِّ، ومجريات الواقع...إلخ.
كون ما نشر من تراث الأستاذ باللغة التركية، لا يمثِّل إلى جزءً مما أنتج الأستاذ، وبخاصَّة في "مجالس الصحبة"، و"المحاضرات"، و"الدروس"، و"اللقاءات الخاصَّة"؛ فمع أنَّ عددا كبيرا من الباحثين منكبٌّ على تفريغ تراث الأستاذ إلى الورقيِّ، ومراجعته، وضبطه، وإخراجه في كتب ومصادر متميزة... إلا أنَّ سرعة وغزارة الإنتاج فاقت إيقاعهم بأشواط.
ومن ثم، يستحيل أن نسأل: متى تنتهي الموسوعة الكونية؟! ولكن، ليكن السؤال: متى سيصدر الجزء الأول منها.. بحول الله؟!
"الزمن والوقت" ابتداء
بعد اقتراح جملة من المصطلحات المفتاحية، مما له علاقة مباشرة بـ"الرؤية الكونية"، نذكر بالخصوص "العلم والمعرفة"، و"الزمن والوقت"، و"الفكر والحركية"، و"الإنسان"، و"البعث والتغيير"... خلُصنا في حوارات مكثفة إلى أنَّ أيَّ مصطلح من هذه المصطلحات المفتاحية، سيفتح النوافذ على فكر الأستاذ، وسيعطي تصورا شموليا للمداخل الأخرى، بل إنها ستكون عنوانا "للرؤية الكونية" لدى الأستاذ فتح الله كولن؛ ومادة خصبة للدراسة والتحليل، والنقد والمقارنة.
هنا، وعند الاختيار، استفاق لديَّ اهتمام قديم جديد، وهو حقل "الدراسات الزمنية"، من خلال رسالة الماجستير "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وأطروحة الدكتوراه "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي"؛ فتحيَّزت إلى "الزمن والوقت"، وبخاصَّة أني وجدته -منذ مطالعاتي المسحية الأولى- يحمل مميزات وأبعادا خاصة عند الأستاذ.
فتوكَّلت على الله، واستعرضت مؤلَّفات الأستاذ، مما ترجِم، وبعضَ ما لم يُترجم، بمساعدةٍ من الفريق؛ واستخرجتُ منها المادَّة الأوليَّة للمفاهيم؛ ثم صنَّفتها حسب وحدتها، وصغتُ منها عددًا من الزمر، مثل: زمرة "الأزل والأبد"، وزمرة "الماضي والحاضر والمستقبل"... فعرضتها عرضًا موسوعيًّا، مع تحرِّي الدقَّة، والوضوح، وذيلت كلَّ زمرة بجملة من التعريفات المستفيضة، مستنبطا منها الرشحات، والحركية بين الفكر والفعل، ونماذج من "الخدمة"، والصور الذهنية...
وقد عمدتُ إلى قراءة المادة عدَّة مرات، ثم كتابة مقال تحليليٍّ، معرفيٍّ، يكون بمثابة المقدِّمة للزمرة، ويظهر أبعاد تلك الزمرة في فكر الأستاذ فتح الله كولن.
استغرق مني العمل وقتا ليس بالقليل، وتفرُّغا خالصًا ليس باليسير، وهو لا يزال طور المراجعة والمناقشة والإضافة والتشذيب؛ لعلَّه سيأخذ وقتا أطول، إلى أن يستوي مشروعًا كاملا، قد يفيد مثالا وقالَبا منهجيا، وقد يكون مصدرا للتدريب والتكوين في "مجالس الصحبة"، وقد يكون منطلقا للنقَّاد والدارسين، ليصوغوا منه مادة فكرية معرفية غنية ثرية، بحول الله تعالى.
القابلية للتغيير
بهذه الفقرة الجميلة جدا، والدالة بعمق، ختم مؤلِّفو "المفاتيح" مقدمتهم، وهي مشحونة بالمعاني والأبعاد المعرفية، مما جاء فيها: "ليست هذه مراجعة حيادية للمعاني، بل هي استكشاف لمعجم في منطقة حاسمة من النقاش الاجتماعي والثقافي، أورثت لنا في إطار ظروف تاريخية واجتماعية دقيقة، ولا بدَّ من جعلها على الفور موضوعا شعوريا ونقديا للتغير وكذلك للاستمرارية، إذا أراد ملايين الناس الذين تكون فاعلة بينهم أن يروها فاعلة: ليست تقليدا ينبغي تعلُّمه، ولا إجماعا لا بدَّ من القبول به، ولا شبكة من المعاني تحظى بالمرجعية الطبيعية؛ لأنها لغتُنا، بل كتشكيل وإعادة تشكيل، في أحوال فعلية، ومن وجهات نظر مهمَّة ومختلفة بعمق: معجم نستعملُه، ونجد فيه طرقنا، ونغيره حيث نجد أن من الضروري أن نغيره، ونحن نمضي في صنع لغتنا وتاريخنا".
أمَّا نحن، من خلال "الموسوعة الكونية"، ومن خلال غيرها من البحوث والدراسات، فنمضي في "بناء صرح الروح" لدينا، وفي "بناء حضارتنا"؛ إذ ليست الموسوعة عملا فكريا "أكاديميا" رسميا؛ ولا مشروعا منهجيًّا محضًا، وإنما هي خطوة متأنية، في استكشاف "البراديم كولن"، لا بغية حفظه، أو الاستشهاد به، أو حتى الافتخار بما أنجزه وحقَّقه؛ وإنما بغرض تمثُّله، ونشر ما فيه من دواء وترياق عبر الآفاق، لتتلقَّفه أمَّتُنا في مرحلة عصيَّة تمرُّ بها؛ ولا يزال السؤال الصغير الكبير، ولن تزال الأزمة المعرفية الحضارية، في الموسوعة، اليوم وغدًا، هي: كيف نحوِّل الفكر إلى فعل، وكيف نصل العلم بالعمل؟! من خلال البراديم كولن، أي من خلال فكر الأستاذ، وتمثله في الواقع لدى "الخدمة"، ومن سار على دربها؟!
الزمن والوقت في فكر الأستاذ فتح لله كولن.. دراسة وتحليل[8]
"الزمن" في منظور الأستاذ فتح الله كولن[9]
يتشكَّل "الزمن" في منظومة فتح الله كولن تشكُّلا شموليا، متجاوِزا، لا يحدُّه تخصُّص واحدٌ ولا علمٌ واحد، ولا يتوقَّف على ثقافةٍ فريدة ولا حضارة محدودة؛ فهو يقفز من "الأزل" إلى "الأبد"، و"يتجاوز الزمن" ليرسِم ملاحم "خارج الزمن"، ثم إنه مع ذلك يلامس خطَّ الواقع، ويصنع الحدث والتغيير؛ في سمفونية بديعة، لطالما رسم حروفها بروحه وعقله ومهجته، وأسعد بها الملايين عبر العالم، لا يبغي من أحد جزاءً ولا شكورًا.
فالذي "يتجاوز الزمن"، ويتَّصل بسبب بما "فوق الزمان"، هو الله -عز وجل- الذي "لا يمكن حصره بزمان أو مكان"، فهو -جل جلاله- خالقهما والقاهر فوقهما، ومُجري "نهر الزمن"، وهو الباسط -جل جلاله- لـ"سفوح المكان"، بقدرته اللامتناهية، التي لا يحدُّها حدٌّ، ولا يقيِّدها قيد؛ وهو -سبحانه وتعالى- إذا أراد شيئا أن يقول له (كُنْ)، (فَيَكُونُ).. ونتيجة لذلك يكون كلام الله -جل جلاله-، (أي القرآنُ الكريم، وما سبقه من كتبٍ منزَّلة على أنبيائه البررة -قبل أن تحرَّف-) تكون كلُّها متجاوزة على كلِّ قيد، ولا يستثنى من ذلك قيد الزمان.
ومن ثم فإنَّ "روح القرآن لا يحدُّه زمان ولا يبلَى"، بل إنَّ الزمن يبلى، ويبلِي كلَّ مخلوق، لكنَّ ذات الزمن "كلَّما شاخ وتقدَّم في العمر ونضج وتكامل وقرب من أشراط الساعة ومن آخر الزمان كلَّما لمعت حقائق القرآن كالنجوم اللامعة في كبد السماء". ولا يملك الباحث عن الحقيقة، الصادقُ، الصدوقُ، إلاَّ أن يقرِّر أنَّ "القرآن معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كلَّ الأزمنة والأمكنة".
وإننا عندما نمعن النظر في "العناصر التي يستعملها القرآن نراها غير مختصَّة بزمن معلوم أو مكان معلوم"، وعندما نتتبع الحوادث التي يرويها نجدها "تتكرَّر على مرِّ الزمن"، ومن حكمة الله -سبحانه وتعالى- أنَّ القرآن لا يعلو فوق الزمن لمفرده، مثلما يفعل البشر الأنانيون؛ وإنما كلُّ من ارتبط به من الخلائق لحقتْه أبديته الغامسة جذورها في بحرِ الخلود: فرُوحُ القدس جبريلُ -عليه السلام-، والرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ من فارت روحه بنور من الله -جل جلاله-، يحملُه كلام الله -جل جلاله- الدائم، بين ثنايا سفينة الزمن، فيسكب اللانهاية على وجوده؛ ليكتسب صفة الدوام والتجاوز والتعالي...
وإنَّ "القرآن ليخترق بنا آماد الزمان والمكان حتى لنكاد نشعر بأمواج الأبدية وهي تضرب شواطئَ أرواحنا" فتفيض الأرواح معانٍ لا تستوعبها السماوات ولا الأرضون، وإنما فقط يستوعبها قلب المؤمن، بأمرٍ من الله -جل جلاله-، الذي أودعها في فلك من أفلاك الأزلية والأبدية، بخاصية (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)الكهف:109).
ولا نبالغ إذ نقول: إنَّ "الحقيقة الأحمدية" في فكر فتح الله هي السرُّ والمفتاح للفهم والعلم والعمل، ولقد أولاها فتحُ الله عناية فائقةً، فمَن وعاها -في عرفه ومذهبه- وعَى الحقيقةَ كلَّها، ومن تنكَّر لها غمره الباطل برمَّته؛ وإنَّ "البشارة بالرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-" لم تُلقَ على مسامع بني البشر ابتداءً، لكنها تمت "في مستوى الكون والزمان" قبل أن يُخلق الإنسان.. والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس رسولا للعالمين، بمعنى الجنِّ والإنس فقط، كما يذهب إلى ذلك البعض؛ وإنما هو رسولٌ لكلِّ الخلائق من الأزل إلى الأبد، بلا استثناء.
وأمَّا في سلَّم البشرية، وتاريخ النبوات، ومنطق التشريع "فقد أرسل كلُّ نبي لفترة من الزمن ولمكان معيَّن، بينما أرسل -صلى الله عليه وسلم- للناس كافة حتى قيام الساعة". ورسولنا العزيز -صلى الله عليه وسلم- "هو الذي أعطى الزهو والفخر للزمان والمكان"، وهو "سيد الزمان والمكان، وشارح معنى الوجود، ومعنى الكون والكائنات بصوته الجهوري"؛ ولذا فإنَّ "صدى أقواله المباركة التي نطق بها قبل عصور، يتجاوز المكان والزمان ويصل إلينا"، وإنا لنسمعه اللحظةَ غضًّا طريًّا، واضحًا ناصعًا؛ لا تشوِّش عليه ذبذبات ولا دمدمات، ولذا قال -عز وجل-: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)(الْحُجُرَات:2) حقيقةً، لا مجازًا.
ومثل هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقط، هو مَن يستطيع أن يحسَّ «استدارة الزمان كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض» (متفق عليه)، وهو فقط من يمكنه أن يقوم "برحلة وراء الزمان والمكان، ويرى من معجزات ربه -عز وجل-، وآياته الباهرة"، وهو فقط من يستقدم المستقبل، ويصفُ ما فيه مثل "وصفه لراحةِ يديه"، فيقول عن امرأة أبي طلحة، وعن بلال بن رباح رضي الله عنهم أجمعين: «أريتُ الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال»(متفق عليه)؛ وهو -صلى الله عليه وسلم- -عليه شآبيب الرحمة- إنما رأى وسمع ذلك لا خيالا، ولا افتراضا، ولكنَّها الحقيقة حين تتجاوز الزمان، ويستوي عندها الماضي والحاضر والمستقبل، فيصير "شريط الزمن" "نقطةَ زمن واحدة"، "ليس لها قبلُ ولا بعدُ"، ولا سابق ولا لاحق. ولا يدرك هذا المقامَ -يقينا وعيانا- إلاَّ من اصطفاه ربُّ الزمان والمكان، واجتباه ربُّ اليقين والعيان.
ولقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن «تقارب الزمان والمكان، وعن تسارعهما»(رواه البخاري)؛ "وهكذا فبوساطة كلمتين سحريتين وهما: تقارب الزمان" يشير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ما سيحدُث من "تغيُّر في مفهوم الزمن عندنا"، ونحن اليوم نرى أماراتِ ذلك، ونستنتج فيزيائيا المظاهرَ العلمية لذلك. وقد يعترض معترض بآية (قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الأَعْرَاف:188)؛ فنقول إنَّ الآية حجَّة على المعترض لا له، ذلك أنَّ حقيقة (إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ) تمتدُّ إلى علم الغيب، ولا تقتصر على امتلاك النفع والضرِّ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب ابتداءً، ولا يستطيع ذلك بذاته، ولكنَّ الله تعالى يريه الغيبَ متى شاء، ويخفيه عنه إذا أراد، فهو -صلى الله عليه وسلم- نذيرٌ عن الله للناس، ترجمانٌ عن المطلق للنسبي، سلام من الباقي إلى الفاني.
ومِن آثار هذا التجاوز لسلطان الزمان والمكان في حقِّ القرآن، وفي حقِّ المرسَل بالقرآن، تكون "أحكام الله -جل جلاله- الشرعية" متجاوزةً، وكذا أصولُ العقائد والأخلاق، فهي لا تبلى، ولا يطالها التغيُّر والتبدُّل، ولا تتناقض، ولا تخضع للأفكار والبدوات، ولا للفلسفات والسياسات؛ ومَن سَجَنها بين قضبان الاجتهاد البشريِّ قتلَها، وشوَّه محيَّاها، وحُقَّ لنا أن نصنِّفه في قائمة الفراعنة والمجرمين الذين بسطوا الكون ظلما، وإبادةً، وتقتيلا؛ والحال أنَّه لا يجمُل بنا أن نحاكم قاتلَ روحٍ واحدة، ونصفِّق لجاحد المعنى، والخلود، والتجاوز، والأبدية... ألا ما أشدَّ قذارة "ظالم الزمن والمعنى". ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبُّوا الدهر فإنَّ الله -عز وجل- قال: "أنا الدهرُ، الأيام والليالي لي، أجدِّدها وأبليها"...»(متفق عليه).
والزمن في فكر فتح الله يتناغم مع جمالية الكون، فيكون أحيانا "شلاَّلا" هادرا، وأحيانا أخرى "فانوسًا"، وأحيانا "كائنًا يهرُم ويشيخ" ويموت، وقبل ذلك يولد ويكبر ويقوى... وقد يتحوَّل إلى نسيج "ينسج الجهلُ عليه خيوطَه" وأوهامَه وأحزانَه. ثم يتحوَّل إلى "سفينة أو طائرة أو آلة نقل من أيِّ شكل كانت" ينطلق، ويتسارع، ويتوقَّف، ويقر في محطته...
أمَّا عن علاقة الناس بالزمن، فهي من الجمال والجلال بمكان، فمنهم من "ينحت الزمن لحسابه"، ومنهم من "ينحته الزمنُ طوال عمره"، وإذا ارتقى هذا الإنسان إلى مقام الصحابة "نظَّم الأزمنة التي يجب التضحية فيها بالمال والنفس تنظيما جيدا"، وقد يُبتلى المرء فيحتاج إلى "الصبر" فيما "يحتاج إلى زمان ووقت"، ولا يستعجل ولا يقلق، لكنه مع ذلك لا يسوِّف ولا ييأس، فمثل هذا "الصبر" هو من "نوع صبر الطائر الحضون". وقد يكون "الزمن" قيدا، وسببا للمعضلات، فهنا يصف فتحُ الله دواءً وترياقا عنوانه: "التحرُّر من قيود الزمان لحلِّ تلكم المعضلات".
ومن الناس "من يقطع شريحة الزمن، دون أن يقع في قبضة القبض"، فيسمو سموًّا لامُتناهيًا، إذ إنَّ الذي يحيا بحياة القلب، لا بالمادة الفانية فقط، ولا بالحسابات القصيرة اليومية لا غير... مثل هذا الإنسان يصير "كيانا فوق الزمان". ومثل هؤلاء يتَّخذون "الرضا مصعدا، يستقلُّونه نحو هدفهم، بسرعة تفوق الزمان نفسه"، فيحقِّقون هذا الهدف بلا حاجز ماديٍّ، ولا فاصل زمنيٍّ، ولا سببٍ مباشر. فسببُهم ممتدٌّ بسبب إلى ربِّ الأسباب، مباشرة، بلا واسطة.
وليس لنا من فضل -في هذا المقال- إلاَّ أن وصَفْنا سبائك الذهب التي أفرغها فتح الله من فكره النير، وقد استقاها من النبع الصافي "القرآن الكريم"، وأخذ أبجديتها من المعلِّم الأكبر "محمد -صلى الله عليه وسلم-"، وقبل ذلك وبعده أودعها راضيا مرضيا "قدرَ الله تعالى"، وتمثَّلها من أسمائه العليا وصفاته الحسنى؛ ثم حمل الهمَّ، وتحمَّل المسؤولية، واحترق، وتألم، وبكى... حتى أنزل تلكم المعاني على خطِّ الزمان والمكان، وزيَّن بها جيد العصر والمصر، وسوَّاها عرُوسًا لكلِّ صاحب قلبٍ حيٍّ، فانتشت الدنيا، وامتدَّ أريجها، وأورقت الأفلاك، وعمَّ الربيع كلَّ قفر...
ومع تسارع الزمن وانقضائه لم ننل بعدُ بغيتنا، ولكننا نملك بفضل الله -عز وجل- شفاعة من "سيد الزمان والمكان -صلى الله عليه وسلم-"، فنغتنم الفرصة، ولا نضيِّع الوقت، لنقولها صريحة: "السياحة يا رسول الله". ثم إننا نملك بحول الله عينَ الله التي لا تنام، ونعلنها مدوية «لي مع الله وقت».
فنُّ "الوقت" في أدبيات الأستاذ فتح الله كولن[10]
ثمة فرق شاسع بين مصطلحي "الزمن" و"الوقت" في أدبيات فتح الله كولن؛ إذ بينما يميل الأوَّل إلى التجريد والتجاوز، ويرتبط بالفيزياء والكوسمولوجيا والماوراء، ويتشكَّل على صورٍ شتَّى؛ نجد الثاني (أي "الوقت") يُستعمل للتعبير عمَّا يلامس الواقعَ، والراهن، وهو أقرب إلى حال الإنسان مفردًا، وحاله مجتمَعًا. ولقد صُنِّفت دلالات "الوقت"، في تراث الأستاذ، إلى جملة من الأبعاد المختلفة، منها: المناسَبة، والعصر، والاستغراق، والملازمة، والسرَف... وغيرها كثير.
فمن صيغ المناسبة، نقرأ: "الوقت الملائمُ"، مثال ذلك في حقِّ الله -عز وجل- أنه "سبحانه ينتقم من الظالم في الوقت الملائم"، وعن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- نقرأ "كلَّما حان الوقت الملائم ظهرت الحادثة التي تنبَّأ -صلى الله عليه وسلم- بها". وكذا يَسعمل صيغة مرادفة وهي "الوقت المناسب"، فيقول: "عندما يحين الوقت المناسب يكلِّف الله -عز وجل- الشخص المصطفى بمهمَّة الرسالة"، ويذكر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه "كان يختار الوقت المناسب للدخول في صدام مع العدوِّ"، ولا يستثنى سعي المؤمنين الحثيث اليومَ للتمكين لدين الله تعالى، لكن بشرط الثبات على الخط، ولذلك "إذا سرنا على هذا الخط فستكون ثقافتنا الرصينة... جزءًا لا يُستغنى عنه من الثقافة العالمية حينما يأتي الوقت المناسب".
أمَّا صيغ التعبير عن العصر، فمنها: "الوقت الحاضر"،وهو كثير الاستعمال، ويعني به "عصرنا"، و"واقعنا"، وكلَّ ما يمتُّ بصلة إلى "حالنا" نحن المسلمين، أو إلى "حال" العالم أجمع؛ فمثال ذلك أنَّ "أثمن هدية في الوقت الحاضر هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وأنَّ "إنساننا في الوقت الحاضر أحوج ما يكون إلى المحبة والشفقة والكلام الطيب...". وعن الواقع النكِد للبشرية، بسبب إعراضها عن الخالق، يقول فتح الله: "البشرية محقَّة في الوقت الحاضر، إذا ما تخوَّفت وقلقت... من كلِّ إنسان يمثِّل الإلحاد". وهذه نماذج للعديد من الدلالات العميقة التي تعرض خريطةً للنظر إلى الواقع المعاصر عند فتح الله، وتبيِّن مدى تشاؤمه المشروع في ظروف، ومدى تفاؤله الغالب في حالات، وهي مع ذلك تقنعنا أنَّ الرجل مجدِّد يحمل "مشروعا، وبرنامجا" للوقت الحاضر، وهو يسعى لعرضه بكلِّ أشكاله وتلوُّناته، ويحزن إذا ما صُكَّت الآذان، وعميت البصائر؛ ثم يهشُّ هشًّا حين يجد الأذن الصاغية، والقلب النير، والعقل الذكي.
ومن صيغ الاستغراق الوقتيِّ، نقرأ: "كلَّ وقت"، و"أيَّ وقت من الأوقات"... فبالتركيبة الأولى يلوِّن فتح الله بريشته البديعة معالم رجلِ الفكر، ومن أبرز ألوان حقيقته أنه "يقارن في كلِّ وقت بين ضياء العقل ونور القلب، كفرسي رهان في المضمار"، ولا يميل أبدا للواحد على حساب الآخر، وهذا بعينه دليل على شمولية الفكر والفعل في منظور فتح الله.[11] ثم في التركيبة الثانية، يرسم لوحةً أخرى لتشكيلة الملَّة، ويعلنها حربا ضروسا على الفُرقة، والتشرنق، والادعاء، وإقصاء الآخر، فيقول: "لا يمكن في أيِّ وقت من الأوقات أن يكون الدين ملكَ فئةٍ معيَّنة، حيث هو ملك جميع من ينتسب إليه". وعن الأمل الذي هو إكسير الحياة، وطاقة الحركة، يؤكِّد فتح الله أنَّه لا يُفتقد في أيِّ وقت من الأوقات، ولا ينبغي له أن يفتقد في أيِّ حين من الأحيان، حتى في أحلك الليالي ظلمة، وأسوء العصور ظلما، فيقول، وهو يصف حال "أياصوفيا"، بل حال الدعوة والخدمة في نظرتها لأياصوفيا: "ولا شك أنَّ أياصوفيا ستأخذ نصيبها من هذه الخضرة التي بدأت تنتشر في كلِّ مكان، فهذا شيء طبيعي. ولم نفقد نحن هذا الأمل في أي وقت من الأوقات طوال أيام البعد والهجران التي عاشتها وتعيشها أياصوفيا".
وتأتي صيغة الملازَمة، بمترادفات هي "في الوقت نفسه"، "في وقت واحد"، "في الوقت عينه"؛ وهو، بهذا الاستعمال المتكرِّر والمستفيض، يسعى للربط بين ما ألِف الناس أن يفصِلوا فيه، وما اعتاد الواقع أن يشتته، مثل العلاقة بين: العقل والقلب، والماضي والحاضر والمستقبل، والشدَّة والرخاء، والتدبير باتخاذ الأسباب والدعاء، والاعتناء بالدنيا والآخرة في آن واحد، واللذة والشقاء... وما إلى ذلك من ثنائيات، أو ثلاثيات، أو أكثر من ذلك، في عدِّ عناصر ظاهرة معينة، وهذا دليل آخر على "روح الشمولية والكلية" في فكر فتح الله؛ وللتمثيل لهذه الصيغة نقرأ "علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء"، وعن علاقة "العبد العاصي بربّه التوَّاب" يقول فتح الله "نحن نقرُّ ونعترف بتقصيرنا ونواقصنا، ولكننا في الوقت نفسه نأمل من الرحمة الواسعة أن تغفر لنا".
وتطالعنا دلالة السرَف والتبذير في الوقت بأمثلة كثيرة، وبدلالات عديدة، منها: أنَّ "الذين يرون الجهاد جدالاً ونقاشًا هنا وهناك، إن لم يراقبوا أعمالهم ويقوِّموها بموازين الجهاد الذي ينادون به، فإنهم لا يعملون إلاّ لقتل الوقت وخداع أنفسهم"، ومنها كون "التجمُّعات القائمة على أساس من أحاسيس ومشاعر فوَّارة ليست إلاّ تموُّجات وحركات وقتيَّة سرعان ما تزول"، وأنَّ "ما يحرز من نجاح وقتي هو إخفاق ضمني، لأنه بلا غد".
ولو تتبعنا علاقة المؤمن بالوقت، لبهرنا تنظيمه إياه على إيقاع الصلاة، دون أن يضيِّع منه ثانية أو أقلَّ من ذلك أو أكثر، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة، ثم في الصحابة الكرام من بعده، ثم يأتي كلُّ الناجحين في تاريخ البشرية، أيَّ نوع من أنواع النجاح كان، جميع هؤلاء لا يمكن أن يكونوا ممن يسمح بتضييع الوقت لنفسه ولا للآخرين، ومِن باب أولى المؤمنُ الذي "حياته منظَّمة بكاملها، لا يمرُّ عليه آنٍ إلاَّ وهو منوَّر، لا يعرف الإسراف في الوقت، وليس له قضاء الوقت في المقاهي".
هذه ومضة من فنِّ "الوقت" في تراث فتح الله، ويا حبذا لو درست ظلال هذه الدلالات في واقع الخدمة، وعولجت علاقة الخدمة بالوقت، وحالها مع المواعيد، والتخطيط، والنظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وتقدير معنى الوقت في المشاريع وفي الحركات والسكنات، واغتنامُ أوقات التجليات النورانية المنسابة مِن الخالق إلى العبد، من مثل "أوقات السحر"، و"أوقات رمضان"، و"أوقات الشدَّة"، و"أوقات العيد والأضاحي"... وغيرها، مما ينبغي اتخاذُه "مصعدا" للرقي إلى معالي الرضا، واليقين، والقبول، ومن خلاله طرْق باب الجنان، والترنم في فيافيها وتلالها، والتغني بأغنية الخلود والأبدية والسرمدية...
أَلاَ مَا أَسْعَدَ ذَلِكُم "الوَقْت"!
"الماضي والحاضر والمستقبل" نحو أسس لفقه الزمن[12]
"ألفُ لعنة على من يتلاعب بعقيدة وتاريخ هذه الأمَّة!
وألف لعنة على أعداء ماضي هذه الأمَّة!
وألف لعنة على من خرب فكر وثقافة هذه الأمَّة!
وألف لعنة على المتشائمين الذين يرون مستقبلنا مظلمًا ويوهموننا بذلك!.."[13]
لا نبالغ إذا قلنا إنَّ هذه الجمل النارية، وإنَّ هذه العبارات البركانية؛ تعبِّر أحسن تعبير عن منظور الأستاذ ونموذجه حول "شريط الزمان"، ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فبالرغم من رقَّة فتح الله المعهودة، وبالرغم من ليونة قلبه، وغزارة دمعه، وتسامح منهجه، وسعة أفقه؛ إلاَّ أنَّ للزمن قداسةً وقدرًا لا حدَّ لهما، وإنَّ مَن شوَّه محيَّاه فقد (حَمَلَ ظُلْمًا)، وإنَّ الظالم لملعونٌ من فوق سبع سموات بدلالة (أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(هُود:18)، فأنى لفتح الله أن لا يلعنه؟!
وإن كان الفقه الإسلاميُّ قد عالج شتى أنواع الظلم، وبيَّن أحكامها، وشرح شروطها وشطورها، فأغنى البشرية بقيمة مضافة لا مثيل لها؛ إلاَّ أنَّ الزمن -لأسباب كثيرة- بقي خارج دائرة الحكم الشرعيِّ التطبيقيِّ نسبيًّا، وبخاصة فيما أُنتج من فقه أوان تخلُّف المسلمين؛ فلم تدوَّن مصادر وكتب، ولم تؤسَّس تخصُّصات وعلوم، تحت مسمَّى "فقه الزمن"[14]؛ مع أنَّ المصادر الأساسية: مِن كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنَّة نبيه المجتبى، وسيرة حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وتراث الأمَّة المنير... كلُّ ذلك يطفح بالنصوص، والمقاصد، والأحكام، والدلالات؛ التي تنتظر مَن يسبكها سبكا، فيبدع منها علمًا وفنًّا.. ولعلَّ فتح الله، من خلال ما تتبعتُ من مادة "الزمن"، ثم "الوقت"، ثم "الماضي والحاضر والمستقبل"، لعلَّه قد انبرى لوضع أسسٍ لهذا الفقه، وآية ذلك هذه اللعنات، التي لا تكفي واحدةٌ منها، بل هي "ألف لعنة... وألف لعنة... وألف لعنة"... ومعلوم أنَّ اللعن أثرٌ لحكم شرعيٍّ، وأنَّه ليس في القول هيِّنا، وأنَّ فتح الله قد أعلنه فقهًا وفهمًا... فهل ينبري مَن يواصل البحث عن معالم هذا الإنجاز الفقهيِّ الحضاريِّ، دراسةً وتأصيلاً، لدى فتح الله كولن -ابتداءً-، ثم بعد ذلك لدى عباقرة الأمَّة الأفذاذ، من المجدِّدين والمجتهدين؟!
لا يزال فتح الله يردِّدها متحسِّرا، متألِّما، متوعِّدا، مستنهِضا: "ألف لعنة... ألف لعنة... ألف لعنة..." حتى قال مَن حوله: "ليتَه سكت!"[15]. ولن يزال فتح الله يكرِّرها إلى أن يلقى الله، وهو الذي دوَّى بها عرصات المساجد، وسكبَها على قلوب الملايين، دروسًا ومقالاتٍ، نصائح وإرشاداتٍ؛ ثم ردَّد صداها -على إثره- الخافقان، وبلغت بحول الله عنان السماء. ذلك أنَّ "الزمن" مِن تجليات ربِّ العزَّة، الذي أقسم به ما لم يقسم بغيره، ونهى عن سبِّه، وشدَّد الوعيد على ذلك، فقال: «لا تسبُّوا الدهر»[16]؛ وهو -عز وجل- "العليم -ذي العلم المطلق- بالماضي والحاضر والمستقبل، وهو يرى الزمن بأبعاده الثلاثة كزَمَن واحد؛ بل ليس هناك ما يسمَّى بالماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إليه"؛ فكلُّ شيء سوى الله خاضعٌ للزمن، إلاَّ ما شاء الله تعالى، مما قال فيه سبحانه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)(القَصَص:68). ومن ذلك نذكر القرآنَ الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام، وعلى رأسهم سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكذا الملائكة الأخيار، والقيم والأخلاق، والخير والبرُّ، والشهداء الأبرار، والربّانيون الصالحون...
أمَّا القرآن الكريم -بغضِّ النظر عن الجدل الكلاميِّ حول كونه حادثا أم قديما- "فهو شيءٌ خارقٌ، بما يحتوي من أخبار الغيب للماضي وللمستقبل، لذا لا يمكن أن يُعدَّ من كلام البشر. فهو قد نزل من الملأ الأعلى، أي من نقطة ترى الماضي والحاضر والمستقبل"، وأمَّا ما بلغنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكون "موضوعات أحكامه، رحيبةً، وَسِعَت الماضي والحاضر والمستقبل، ومحتوياتُها متنوِّعة، تتعدَّى عقول البشر"، والنبيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- -بفضل الله تعالى- منَّةً منه وتشريفًا "أخبرنا، ومنذ عدَّة قرون، بما سيحدث مستقبلا، وكلَّما جاء زمن ذلك الخبر ظهر بشكل يوافق كلامه في كلِّ شيء، ويصدِّقه حتى في تفاصيله الدقيقة" فقد كُشفت له حجب الزمن، وسافر ما وراء الزمان والمكان، وانتقل إلى الماضي عبر الإسراء فصلَّى بالنبيين؛ ورحل إلى المستقبل عبر المعراج، فشاهد الجنَّة وأحوالها، والنار وأهوالها، عيانًا، لا حلمًا ولا تخيُّلاً؛ ثم أخبرنا بذلك، وهو الصادق المصدوق.
ولا يملك الباحث أن يخفيَ إعجابَه من لفتة في تفسير سرِّ "غزوة أحدٍ" التي انهزم فيها المسلمون ظاهرا، ثم حاول العديدُ من المؤرِّخين الغوص في فهم الحكمة من هذه الهزيمة المؤلمة، وقد انبرى فتح الله فأعطى لنا تفسيرا، نقله وحلله، من "كليات رسائل النور" لبديع الزمان النورسي؛ وهو من الروعة بمكان، يقول فيه: "كانت معركة أُحد معركة بين صحابة الحاضر وصحابة المستقبل، أي كانت معركة بين رجال أسلموا وأصبحوا صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبين رجال سيصبحون في المستقبل من الصحابة، وسيلعبون أدوارًا مهمّة في الفتوحات الإسلامية في المستقبل، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة وابن هشام. فلكي يتحوّل هؤلاء الذين ما كانت فطرتهم وطبيعتهم تتحمل الهزيمة إلى الإسلام دون أن تجرح كرامتهم كان لا بد من وقوع انكسار مؤقت في معركة أُحد. أجل، لقد غلب صحابة المستقبل صحابة اليوم".
أمَّا إذا حاولنا فهمَ شريط الزمن -الماضي والحاضر والمستقبل- في علاقته الحتمية بعامَّة الناس، فهُم خاضعون ابتداءً لسلطان الزمان والمكان، لا ينفصلون عنهما، فلكلِّ إنسان: ماض، وحاضرٌ، ومستقبل. غير أنَّ "الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، ووصلوا إلى مرتبة حياة القلب والروح، يستطيعون عيش الماضي والمستقبل معًا وفي الوقت نفسه"، و"الإنسان الذي يحيا بحياة القلب، يصبح كيانًا فوق الزمن، ويستطيع دقَّ أبواب الماضي والمستقبل، ويراهما وجهين لعمْلة واحدة يمكن فتحهما". غير أنَّ "الضِّحال فكرًا، والسطحيين رأيًا، كأنهم أطفال يقلِّدون كلَّ ما يرون ويسمعون... وليس لأمثال هؤلاء ماضٍ ولا مستقبل".
وإذا ما أردنا البحث عن دلالات "الماضي"، من خلال ما بين أيدينا من مادة علمية مكتوبة بالعربية -وهو نزر يسير مما أنتجه الأستاذُ- فسنجدها تشمُل الكثيرَ من المعاني العميقة، منها: التاريخ، والعقيدة، والذات، والوطن، والأرض، والجذور، والمرجعيات، والمنطلقات، والأجداد، والتراث...
أمَّا "الحاضر"، فيعني: الواقعَ، والحال المعاصرة، والجيل، والفكر، والحركة، والإنجاز، والمشاريع، والوجدان، والمقدَّرات...
ويأتي "المستقبل" بمعان ثرَّة ثرية، ودلالات واسعة شاملة، منها: الأمل، والقدَر، والنصرة، وأمارات صدق الإسلام، والتحرُّر من الماديات، والنور، وصدقُ الوعد، والتجاوز، والتخطيط، والجزاء، والمعينية...الخ.
المهم في كلِّ ما مرَّ هو أن نوقِّر "ماضينا"، ونفتخر به، وننطلق منه؛ وأن نعيَ "حاضرنا"، ونعمل فيه بجدٍّ، ولا نضيِّع لحظة منه؛ ثم نخطِّط "لمستقبلنا"، ونحافظ على داعي الأمل فينا وفي الأجيال النورانية من بعدنا: مؤمنين موقنين، غير متردِّدين ولا شاكِّين؛ والقاعدة المحكمة التي تضبط العلاقة بين الأزمنة الثلاثة، في فكر فتح الله، هي: "أنْ لا نفدي قِيَمَ ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا بعضَها لبعض"؛ "فأيُّ سعادة يمكن أن تضاهيَ سعادة تأمُّل لوحة الماضي بكلِّ عظمته، مع المنظر الأخَّاذ للمستقبل في إطار واحد؟!" فلا انفصام، ولا شطط، ولا ظلم، ولا تفلُّت عن "الإطار الواحد".
و"المستقبل" -بحول الله تعالى- هو للنور، وللقرآن، وللدين، وللإسلام، وللخير، وللوجدان؛ وللصفات الإيمانية، بغضِّ النظر عن الأقوام التي ستكون حاملةً لها، يقول فتح الله: "أنا أرى بأنه في المستقبل القريب ستشاهد الإنسانية بنظرات ملؤها الإعجاب والتقدير، كيف أنَّ شلالات مختلف العلوم والفنون تتجه نحو القرآن وتصبُّ فيه"، ثم يقول: "إننا مفتونون بالمستقبل الذي سيولد من رحم الغيب، ولكننا في هذا المستقبل لن نجد سوى نوره -صلى الله عليه وسلم-... فإذا انطفأ هذا النور فستصبح الحياة ظلمة أبدية". والحاصل من كلِّ ذلك هو أنَّ "الإسلام صوتُ كتابِ الكائنات ونَفَسُه وتفسيرُه وإيضاحه، وهو كذلك رسْمُ ماضي الكائنات وحاضرِها ومستقبلِها"...
لكنَّ هذه البشارات لا يجوز أن تُخلِدنا إلى الراحة والكسل، في الفكر والفعل؛ وإنما الواجب علينا هو التوثب والتوتر، معرفيًّا وحركيًّا؛ والاستماع والإجابة، بروح الجهاد والمجاهدة، لطلب لطالما ردَّده فتح الله، ولا يزال، ولن يزال: "أرجوكم أن تتفكَّروا... كيف نسير إلى المستقبل في ثقة واطمئنان؟".
"كوَّة في نسيج الزمن"[17]
الأمس، واليوم، والغد... شريط زمنيٌّ ذو إيحاءات لامتناهية؛ بمجرَّد إلحاق أحدها بسياق معيَّن تتولَّد معانٍ مفتوحة على فضاء الزمان والمكان، بيد أنَّها لا تغاير الرؤية الكونية للإنسان؛ فالإنسان هو مَن يدركها، وهو مَن يُلبسها الدلالة، وهو مَن يشكِّلها على قدر مدارج فهمه، وعلى سعة مدارك وعيه.
ولئن كان البعض قد ألغى "الأمسَ"، فدعا جهارا إلى ركوب بحر "اليوم"، باسم الوجوديَّة أحيانا، أو تحت أيِّ شعار آخر أحايين أخرى؛
ولئن كان البعض الآخر قد سجن نفسه في "أمسٍ" هو في نظره "مقدَّسٌ"، فكلَّما تقادم الشيء -في منظوره- نال الحظوة والمكانة، وكان خيرا مما يليه؛
ولئن كان آخرون، لا ترقُب لهم عينًا إلاَّ في سماء "الغد"، فلا هُم يلتفتون أحيانا إلى مواطن أقدامهم، ولا هم ينظرون أحيانا إلى يومهم وما فيه، وإلى آنهم وما يحسن أن يشادَ في بحره...
لئن كان كلُّ أولئك كذلك، فإنَّ الربَّ العليم الحكيم -عز وجل-، وإنَّ القرآن البليغ الكريم، وإنَّ الفكر الإسلامي النقيَّ السليم، قد أولى كلَّ فترة زمنية حقَّها ومستحقَّها، وأعطى كلَّ مجال زمنيٍّ قيمةً وقدرا، بعدل تامٍّ، ووعي متجاوز متعال.
وفتحُ الله كولن، في علاقته بـ"الأمس" و"اليوم و"الغد"، يحرص على أن يبقي التوازن مطلقا، وأن لا يَحيد طرفة عين إلى أيٍّ منها، مهما كان المبرِّر والسبب والباعث؛ فهو في هذا يحاول أن يصدر من "نقطة اللازمن"، أو من "نقطة التحام الأزمنة كلِّها في زمن واحد"، لا بقدرة بشرية محدودة، لكن من منطلق ربّاني لامحدود؛ ذلك أنَّ مقتضى الأخلاق عنده يكمن في تمثُّل صفات الله -جل جلاله- مِن منطلق «تخلَّقوا بأخلاق الله».
فمن تمام التخلُّق بأخلاقه سبحانه ربطُ العلاقة مع الزمن بالمنهج الذي علَّمنا إياه؛ وهو -جل جلاله- "يخاطب الأمس واليوم معًا، ويعلم ويسمع الأمس كاليوم"، وكذا الغد في حقِّه -عز وجل- ليس مجهولا، ولكنَّه معلوم تماما مثل الأمس واليوم؛ ومن ثمَّ كان واجب المؤمن بمعيار الحقِّ والحقيقة أن يتجاوز "الآثار المباشرة للوقت"، فينتقل عبر "آلة الزمن" مسافةَ أربعة عشر قرنا،[18] ليجعل زمنه ملتحما بزمن خير البرية ونور البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم-، وينبّهنا الأستاذ إلى أنَّ للمرء أوقاتا "ينجذب فيها إلى عالم آخر فوق الزمان"، وكلُّ من يحظى بهذه الأوقات "يجمع يومه مع أمسه، وأمسَه مع عصر النور للحبيب -صلى الله عليه وسلم-".
وغنيٌّ عن البيان أنَّ من حشر نفسه في سجن شهواته وأهوائه، أو حتى في محدودية عقله، لم يقدر على السفر عبر الأزمان، ولا على تجاوز المسافات، ولم يتمكن من إدراك "أنَّ اليوم يشبه الأمس، والأمس يشبه أمس الأمس... الألوان هي المتغيرة فقط"؛ أمَّا سيد الزمان، ومدرِكُ المغزى، والمحلِّق في سماء القلب والعقل والوجدان "فالرؤية الواحدة -عنده- قد تحوي إشارات ومعلومات كثيرة عن الأمس واليوم والغد بحيث تملأ كتبًا". وقد ينطلق لسانه بالحكمة، فيردِّد على إثر بليغ العرب، سيِّدنا عليّ -رضي الله عنه- ابتهالَه: "يا من لا تصحبه الأوقات، ولا ترفِده الأدوات، سبق الأوقات كونُه، والعدمَ وجودُه، والابتداءَ أزلُه... يا من لا يشغله شأن، ولا يغيِّره زمان، ولا يحويه مكان، ولا يصفه لسان"...
غير أنَّنا لا نقرأ عند فتح الله تلك الروح الحلولية، التي تترفع عن الزمن لتتحللَّ عن واجباتها ومسؤولياتها الوقتية؛ وبالتالي تدَّعي نوعا من الملائكية أو الماورائية الزائفة؛ لا، بل ما نقرأه من مادَّة عن الأزمنة الثلاثة "الأمس، واليوم، والغد" يثقلُ كواهلنا بـ"ما يجب" "وما لا يجب"؛ "فمِن جهة العلَّية"، الواجبُ علينا أن نعي أنَّ "الأسباب المنثورة اليوم كالبذور على سفوح التاريخ، هي عوامل تُعَيّن نتائج الغد، المتَّسمة ببُعْد الحكمة وصبغة العدالة". فإن نحن ربطنا بين هذا وذاك، وبذرنا اليوم خيرَ الغد، فإنَّ الزمن سيبتسم لنا، وإلاَّ وقعنا فريسةً بين مخالب النحس والنحوس، ولم ندرِ كيف نفسِّر ذلك، كما هو الحال عند الكثير من حالاتنا اليومَ، تلك الأحوال التي زُرعت بذورها البارحة.. ويؤكِّد فتح الله في هذا الشأن أنَّ "الاستقامة رصيدٌ، إن فقدته قام من عرف ذلك بسحب كلِّ ما كان قد أكسبه لك حتى ذلك اليوم".
وإذ نلج عالم التكليف والمسؤولية، يدهشنا فتحُ الله وهو يرهق نفسه ويحمِّلها ما لا تحتمل، وبعدَ ذلك يلتفت إلى أقرب الناس إليه، فيحمِّلهم أمانة الأمس واليوم والغد، ليكونوا حماةً لها، ولا يتوانوا في ذلك طرفة عين. ومما يقوله في هذا السياق، وهو نزر يسيرٌ مما يرد في محاضراته وخطبه ومقالاته، مما قد لا تعبِّر عنه الكلمات، وإنما تكشفه العبرات والخطرات... يقول: "إنَّ الأساس عند أبطال الخدمة هو الاستغناءُ، وعدم مدّ أيديهم إلى الناس، أو انتظار شيء منهم. فهذا الأمر صفة من الصفات المهمَّة لهؤلاء الذين يريدون التهيئة للغد المرتقب"، ثم يضيف: "نأمل ألا يحصر المؤمنون الذين يؤدُّون اليوم خدماتهم للإسلام في موضوع العبادة والطاعة، وأن يُغنوا قلوبهم بها فقط؛ بل أن يكونوا في الوقت نفسه مستعدِّين للتضحية بفيوضاتهم المادية والمعنوية، مِن أجل السعادة الدنيوية والأخروية للآخَرين، ويضحّوا بلذّة العَيش الرغيد (أي بيومهم) من أجل إسعاد الآخرين وإنقاذ حياتهم الأخروية (أي الغد)".
ويعِنُّ لي أنَّ فتح الله، وهو يحلِّق في فلك الفضاء النبوي النوراني الممثِّل للأمس أحسن تمثيل... ثم إنَّ فتح الله وهو يعود إلى فضاء اليوم بكلِّ آلامه وآماله، وبجميع أفراده وتجمعاته... ثم إنه وهو يتطلَّع إلى الغد، القريب منه والبعيد، تخطيطا وتنظيرا وقياسا... يعنُّ لي أنَّ الأستاذَ وهو ينتقل بسرعة بين ثنايا هذا الشريط الزمني اللامتناهي، يحمِّل نفسه، ويحمِّل مَن حوله، أثقالا وأعباء تنوء عنها أكتاف الجبال والأرضين والسماوات؛ ولذا تجده يحترق بحرِّ العشق والوجد، ويدعو مَن حوله إلى تجاوز المسافات والأزمنة، والارتباط بالحقيقة الكلية؛ فهو -لذلك- قد أعلن العداء على "التدابير اليومية القصيرة الباع"، وعلى "سياسات المناورات اليومية، التي لا غاية لها ولا أفق فيها، وهي ليست إلا هدرا للزمن"، وعلى "الاشتغال بالمسائل اليومية الطفيفة على حساب فكر الملة"، وعلى "المآرب اليومية للذين لا همَّ لهم إلاَّ تحقيقها".. لأجل ذلك كلِّه، يحاول فتح الله أن يفتح كوَّة في نسيج الزمن[19]، ويلجَ منها إلى البعدِ الأخرويِّ؛ لا لكي يبقى هنالك في برج عاجيٍّ، لكن ليعود ويحمِل معهه نسماتِ المعنى والبعد والحقيقة، ومن تلك الفرص النادرة نقرأ قوله: "بالنسائم السحرية التي تهبّ علينا من حولنا، وتحتضن كياننا وتلفُّه، نبتعد عن المشاغل اليومية وندخل في جوِّ الآخرة". ونطالع قولَه:"يشعر الإنسان في المعبد باليوم وبالأمس... بالأمس وبالأبَد معًا، وبشكل متداخل..."، ويذيبنا قولُه:"مَن وهب نفسه لدعوته، وعاش في حبِّ الحقيقة، والهيام بالحقِّ؛ فإنَّه يحظى باللاَّمحدود في هذا العمر المحدود".
ولا شكَّ أنَّ "علم البرمجة اليومية" أو "الزمنية"، أو ما يسمِّيه البعض "علم إدارة الوقت"، حاضرٌ بكلِّ فنِّياته في مادَّتنا هذه. وأهمُّ ما يعالج في هذا الفن هو "أصول البرمجة الزمنية"، أي منطلقاتها العقدية، والفكرية، والثقافية، والحضارية؛ ذلك أنَّ "للبرمجة الزمنية أصولا وجذورا دينية وثقافية وحضارية، وليست عادات شكلية أو تصرفات ظاهرية فحسب"[20]؛ ولقد أولى فتح الله هذه الأصول عناية فائقة، من ذلك، مثلا: حديثه عن الإخلاص وأثره على البرنامج الزمني، الذي جاء فيه: "عندما تؤدَّى الواجبات اليومية والأسبوعية والشهرية بإخلاص، فإنَّ الفضائل المترتبة على هذه الواجبات والثواب لا تنحصر ضمن زمن الأداء، بل ستحتضن كلَّ دقائق وثواني الحياة وتشملها بتأثيرها"، أمَّا التوحيد وعلاقته بالبرنامج اليومي للمسلم، فيدعو فتح الله إلى التدرُّج في هذه العملية المعقّدة، ويقول: "هناك تدرُّج في عملية ربط الأذهان والقلوب، وربط الحياة اليومية بالتوحيد".
ثم يتعرَّض فتح الله إلى "التخطيط والبرمجة باعتبارِنا أمَّة"، إذ "لا بدَّ لنا اليوم أن نعرف البرامج والخطط التي نسير بها إلى المستقبل، والمراحل التي نريد التنقل عَبرها في مسيرنا". ثم يعرج إلى "التخطيط اليوميِّ"، من نافذة الوطن وأبناء الوطن، فيقول: "هذا الوطن، وهذه الأرض... تعيش اليوم مع كثير من أبنائها الأوفياء حماس العبور من الماضي إلى الآتي... ترى إحدى يديهم ورجليهم منشغلة بالعمل اليومي، وأخراها منشغلة في تجهيز الخطط والبرامج للمستقبل"؛ ومِن أبرز مواصفات مهندس القلب والروح، أن "يهيمن على تصرفاته وأعماله التفكيرُ في الأيام القادمة، في خططه وبرامجه، بقدر التفكير في ضرورات الحاضر". وكذا "الإحساسُ باضطراب وآلام هذه المسؤوليات في القلب، وإشعارها عن نفسها في الروح خفقانا مجنونا بعد خفقانٍ؛ هو جزء من جدول أعماله اليومية (رجل القلب)، يتبارى ليحوز على الموقع الأوَّل في السبق".
وتتكاثف مسؤولية ربط الأمس باليوم، واليومِ بالغد، إذا كان المرء في مقام القيادة والمسؤولية، "فعلى القائد أن يحدس أحداث اليوم وموضوعاته من اليوم السابق، وأن يحدس أمور المستقبل منذ اليوم، ويضع خططه على أساس هذه الرؤية البعيدة؛ لكي لا تعرقل خطة اليوم الحالي التنفيذ في المستقبل؛ وإلاَّ تضاربت أعمال اليوم وأعمال المستقبل، وعملت إحداهما ضدَّ الأخرى". ويجعل فتح الله مِن العلاقة بين القائد "وبرنامجه الزمني" وسيلةً لمعرفة مدى صدقه، وبالتالي مدى إمكانية اتباعه أو الإعراض عن دعوته، فيقول: "إذا أردتم الانتماء إلى أحدهم (القادة المرشِدين)، فانظروا أولاً إلى حياته اليومية، فإن كانت تتسم بالتواضع والاستغناء، ولا تكذّب أعمالُه أقوالَه، فاتبِعوه وانتموا إليه" وهذه إشارة لطيفة إلى التناغم بين الفكر والفعل، بين المعلن قولا والمعلن إداءً وواقعا.
وليست البرمجةُ الزمنية وليدةَ اليوم، ولا هي في تاريخ الأمَّة بدعا من الفكر، إنما -كما ينبهنا فتح الله- "كان السلف الصالحون يدوّنون أعمالهم اليومية وأطوارهم أو يحفظونها في ذاكرتهم، كما سجّلها صاحب "الفتوحات المكية"..".
ومما اشتهر في علم البرمجة الزمنية كتاب لِـ"إليك ماكينزي" عن "مضيِّعات الوقت"، ولا شكَّ أنَّ الدارس لهذا المصدر القيم يلاحظ أنَّ النزعة الكمية والتقنية، التي تتسم بها الثقافة الغربية المعاصرة، هي الغالبة وهي المهيمنة، أمَّا البعدُ الإيمانيُّ الروحيُّ الوجدانيُّ، فهو غائب كلَّ الغياب عن هذا الفن، ولقد ذكر فتح الله جملة من المضيِّعات، هي من قبيل البعد الكيفي، منها "إذا بقينا على تخبُّطنا الذي عرفناه أمس واليومَ في التزوُّد والتغذِّي من مصادرِ ثقافةِ الآخرين، وانغرزْنا في التقليد، كلَّما فكَّرنا في الإنشاء، فلن تنجو الأمة من ذلة التبعية."، ومنها قوله: "مع هذه المثبطات كلِّها كان المجتمع يصنع كلَّ يوم أحلامًا جديدة، ويُسَرِّي عن نفسه بالأماني، ثم يرجع خاوي الوفاض مما أمِل في كلِّ يوم جديد ببرنامج جديد!".
لقد اشتهر كتاب لـ"بول فندلي" بعنوان "من يجرأ على الكلام"، وكتاب آخر هو عبارة عن رواية مثيرة بعنوان "أجرأ" (Jose)، ولعلِّي أستعير من العنوانين قولي: "أجرأ على السؤال"، لكن بأدب واستحياء وعناية:
ما هو البرنامج اليوميُّ للأستاذ؟
وما هي سمات علاقته الفعلية بالأمس، واليوم، والغد؛ بعدما أدركنا بعضًا من ملامح هذه العلاقة فكرا ونظرا وتحليلا؟
ثم، ما هو المطلوب من جيل الأمل، وشباب الخدمة، في برنامجهم اليوميِّ، تخطيطا وتنظيرا وتنفيذا؟
وما هي الآليات، والوسائل، والأمثلة، والنماذج؟
بل، ما مكانة "البرمجة اليومية" في البرامج التربوية والتدريبية والتأهيلية لمشروع الخدمة؟
والجواب على هذه الأسئلة العميقة يفتح لنا آفاقا للتمثُّل، ولنقل التجربة، بغية تكييف ما ينبغي تكييفُه، ونقل ما يحسن نقله بلا تعديل... لعلَّ الله ييسر سبل مثل هذا العمل العلمي الفكري الحضاري الملحاح، والله ولي التوفيق.
وظلمة الليل تغريني، فأنطلق[21]
الليل -في عرف الواصلين- عنوان الفناء، والنهار -في قاموس العارفين- مرادفٌ للبقاء؛ "ولا جرم إن لم يكن الفناء فلا بقاء. فالطريق الموصل إلى البقاء يمرُّ عبر الفناء، والنهار يعقب الليل، والربيع يعقب الشتاء؛ فمن ليس له ليل ولا شتاء إذن لا ربيع له ولا نهار". ومِن ثم كان الجهاد "أسمى غايات المؤمن" رغم أنه قد يعني "الموت والهلاك والانتهاء"؛ ذلك أنَّ الحياة حياتان: "حياة الروح، وحياة الجسد"؛ وبتعبير آخر: "ثمة حياة الهمَّة، وحياة الشهوة"؛ فمن حرص على الروح والهمَّة أفنى ذاته راضيا مرضيا، في ليلٍ من المرابطة والتفكير والخشوع... وأذهب فحمَ ليله فداءً لأعمال البرِّ والتقوى؛ أمَّا من حرص على حياة الجسد، وتكالب على حياة الشهوة، فتجده كما يصفه ربُّ الجلال: (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)(البَقَرَة:96)، أيِّ حياةٍ، حتى ولو كانت حياة الكلاب والذباب.
وإنا لنعجب من مادة "الليل والنهار" فيما استخلصناه من تراث الأستاذ فتح الله كولن، فالليل في فكر الأستاذ حاضرٌ مهيمن، مشعٌّ نيِّر، محبوبٌ عامر؛ أمَّا النهار، فهو لاحقٌ وتابع، وهو نتيجة وثمرة؛ الليل حامل والنهار محمول؛ يقول فتح الله: "أحلك وقت للظلام هو في الوقت نفسه بشائر أنوار الفجر. والليل يحمل جنين نور النهار، ويحمل بردُ الشتاء وثلجُه جنين الربيع". ويصفه أبلغ وصف في موطن آخر، ويقول: "أمَّا الليل فهو أوانٌ لأنواع لا يستوعبها العقل والإدراكُ من ألوان جمال الخلوة. وكلُّ وقت من هذه الأوقات يمرُّ بطعم وبلذَّة مختلفة، ثم يذهب ويغيب".
إنَّ للّيل "سرٌّ خاصٌّ" لا يحسُّه من يغُطُّون في فرشهم أبدَ المدَّة، ولا يعرف معناه مَن وصفهم الواصف بقوله: "نوام الضحى، سُمَّار الليالي"؛ أمَّا العاشق "فيشمُّ في كلِّ شيءٍ عطرَ حبيبه. في النسيم الهابِّ، وفي المطر الهاطل، وفي الجدول المنساب، وفي صوت الغابة، وفي غبش الصبح، وفي ظلمة الليل. وعندما يرى جماله المنعكس حواليه يجتاحه الوجد..."؛ بل إنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- "كان يقطع المسافات المادية والمعنوية في الليل"، ولذا يحسُن بالذي يروم قطع المسافات أن "يقطعها ليلا.. ففي الليل تبتلُّ سجَّادته بالدموع عندما يخرُّ للسجود.. هنا يستطيع روحه أن يرتفع ويقطع المسافات".. كذا "الذي تعوَّدت جدران بيوته على سماع تأوُّهاته يستطيع التسلُّق إلى آفاق تقصُر دونها المسافات.. أمثالُ هؤلاء يقطعون هذه المسافات في الليل.. والذين قطعوا هذه المسافات قطعوها ليلا. أمَّا الذين ناموا في الليالي فقد بقوا في وسط الطريق".
انظر مثلا إلى صحابة رسول الله -رضي الله عنهم- تجدْهم أخدان ليلٍ، أبطال نهار، فترى الواحد منهم "إحدى عينيه عينُ الرهبان، والأخرى عين الفرسان؛ ففي الليل كانوا رهبانًا يذرفون الدموع في عبادتهم وسجودهم، وفي النهار كانوا فرسانًا يصولون ويجولون ويهاجمون الأعداء كالأسود"؛ وبعبارة أخرى "كان أناسيّ خير القرون -عصر النبوة- كالأُسْد في الوغى، ولكن ما إن يُرخي الليلُ سدوله حتى تراهم كالرُّهبان المتبتّلين يقيمون الليل كلَّه، في عبادة وذكرٍ وتسبيح إلى الفجر، وكأنهم كانوا فارغين في النهار". لا عجب أن يكونوا كذلك، وقد وعوا توجيه معلِّمهم وسيدهم وإمامهم، وهو يروي حديثا عن الربِّ الكريم، ويقول فيه: «عجِب ربُّنا -عز وجل- من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حِبّه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي» بخ... بخ، أولئك الخيِّرون، وألئك الفائزون!.
بهذا النفَس النبوي، وبنفحات أصحاب النبي، قاس فتحُ الله أداء "أصحابه"، وتشوَّف إلى "أبطال الخدمة ورثةِ الأرض"؛ فأصدر أمره بقوله: "يا أيها الخليل المتدثِّر في الليل بِردائه... إنَّ مهمَّةً شاقَّة مثل مهمَّة النبوة في انتظارك... قُم واعبُد ربك... فأنت في حاجة إلى أن تُشحَن من قِبل ربك؛ لأنَّ بانتظارك وظائف كبيرة عليك أن تنجزها". وما كان "الأخلة والأصحاب" ليعصوا أوامر القائد، ولا كان بمقدور الواحد منهم أن يتلكَّأ طرفة عينٍ، وهو يعلم علم اليقين أنَّ فتح الله لا يأمر بشيءٍ إلاَّ إذا ألزم نفسه به، وهو في هذا يقول: "إذا أردتَ أن تشرح لأحدهم معنى مخافة الله والبكاء من خشيته، فعليك أولاً أن تقوم في الليل وتبلل سجادتك بالدموع".
وعن الدليل الناصح الناصع على اتباع الجند أوامر الرائد، وعلى اقتفاء المقودين آثار القائد، ما حققه الشباب المهاجرون من فتوحات قلبية إيمانية لا حصر لها؛ وإنا لنقرأ لفتح الله وصفًا عزيزا، يعرِض فيه ملحمة "المهاجرين إلى أواسط آسيا وإلى مختلف أصقاع العالم"، من "جيل الأبطال"، فيقول عنهم: "هذا ما يعمله أصدقاؤنا الآن. فهم يعملون ليل نهار، وقد تركوا منازلهم وهاجروا إلى أواسط آسيا أو إلى مناطق أخرى في العالم، غير آبهين بالضيق المادي، وحاضرين حتى للتضحية بالفيوضات المعنوية... أظن أنَّ أصدقاءنا هؤلاء قد عدُّوا ما يقومون به -والذي يبدو للغير أنه في غاية الصعوبة- جزءًا لا يتجزَّأ من حياتهم، لِذا تراهم مشغولين به ليل نهار، في قيامهم وقعودهم.. في حركاتهم وفي سكناتهم".
ومن أغرب ما نطالع عن الليل في فكر فتح الله، تلكم الرواية التي وردت في المصادر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- والحوار الذي دار بينه وبين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولليل فيه نصيب وأيُّ نصيب، مما جاء فيها:
"بعدَ مضيِّ عدة أيام مرض ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي كان من أوائل المسلمين، والذي كان من أبرز طلاب مدرسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاجأه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- -الذي لازم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى معه إلى القبلتين وشهد معه معظم المشاهد- عائدا وقال له:
- ما تشتكي؟
- ذنوبي.
- فما تشتهي؟
- رحمة ربي.
- ألا آمر لك بطبيب؟
- الطبيب أمرضني.
- ألا آمر لك بعطائك؟ (وكان قد تركه سنتين)
- لا حاجة لي فيه..
- يكون لبناتك من بعدك؟!.
- أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أَمَرتُ بناتي أن يقرأن كلَّ ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قرأ الواقعة كلَّ ليلة لم تصبه فاقة أبدًا»، وتوفي ابن مسعود -رضي الله عنه-..
ترى، مَن مِن الناس اليوم يحمل بين جنبيه قلبا خفَّاقا باليقين، كقلب ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهو الذي حوى من العلم ما لم يحوه غيره، وروى من الحديث الكثير، ولازم رسولنا الكريم ثلاثا وعشرين عاما؟!
والغريب أنَّ الأستاذ فتح الله يروي لنا حالةً تصيب الأمهات والآباء في "جوف الليل"، ليوظِّفها في استنفار الناس إلى "الحبِّ، والعطف، والحنان"، على شاكلة الأمِّ الرؤوم، فيقول: "عندما يبدأ الطفل بالبكاء في الليل، قد يضطرُّ الأب إلى ترك غرفة النوم إلى غرفة أخرى. ولكنَّ الأمَّ تُسرع إلى غرفة الطفل، وقد تبقى معه حتى الصباح، لأنها تحمل حنانًا لا يوصف نحو طفلها".
وليست تلكم الرواية، ولا هاتيكم الحالة، لمجرَّد التسلية وصفِّ المعلومات، لكن ليعتبر كلُّ من عمرُه "ليل ونهار"، أنَّ "الزمن" له قدر وقيمة، وأنَّ سعادته وشقاءه متعلقان بمدى استثماره له. والحكمةُ تقضي أن نستوعب أنه "لا تبقى نقطة سوداء في حياة مَن وهب نفسه في سبيل الله، فلَيله كنَهاره. نعم إنَّ كلَّ ثانية من عمره بمثابة سنين من العبادة، كيف لا وهو في طريق الخير..."؟!
لحن الوجود[22]
الوجودُ مجتمعًا يترنَّم بأشجى الألحان، والكونُ متِّحدا يضُوع بأعذب النغمات؛ ليس في الوجود ولا في الكون قدرَ "مفحص قطاة" إلاَّ و"أوركيسترا التسبيح" تُعزف بأرقِّ النبرات، وتنشَد بأحلى الكلمات.
- لكن، ما لنا لا نسمع ولا نحسُّ، وما دهانا لا نتملَّى ولا ننتشي؟!
يجيبنا الحكيم أنَّ:
- "الذين يستطيعون الاستماع إلى الوجود من خلال منافذِ قلوبهم، تنقلب الأيام والليالي المباركَة لديهم إلى شاعرٍ يتكلَّم بلغة ما وراء هذا العالم، وإلى ملحِّن لألحان موسيقى مِن عالم آخر، فيهمسان في قلوبنا أعذب الكلمات والألحان".
- إذن، يا سيدي، هذه النفحاتُ ليست الآذان بقادرةٍ على التقاطها؛ وإنما هي من "ذبذبذات" القلوب المرهفة، الضارعة، الحية، الصاحية؟!
- نعم، بمثل هذه المقامات العليَّة تتحوَّل أجزاء اليوم إلى "ألسنة للمباني"، وإلى "مصادر للمعاني"، فتلهج للجليل، وتأوي إليها كلَّ جميل؛ فنكتشف حينها أنَّ "الصباح كأنه سعادة الخطوة الأولى في دخول الجنة"، وأنَّ "الظهر لحظةُ الفرحة لرؤية الحبيب والتملِّي بحسنه"، وأنَّ "المغرب أوانُ سعادة المشي لوصال الحبيب عند إقبال الظلام".
- وما بال الليل يا سيدي؟
يجيبني فتح الله، العبراتُ منهُ تسابق العِبارات، ودمع العين ينافح الكلمات:
- "أمَّا الليل، فهو أوان لأنواع لا يستوعبها العقل والإدراك من ألوان جمال الخلوة".
وخلاصة المعنى، أنَّ كلَّ جزء من أجزاء اليوم، وأنَّ كلَّ وقت من هذه الأوقات، "يمرُّ بطعم وبلذَّة مختلفةٍ، ثم يذهب ويغيب"، وأنَّ رياحين هذه الأزمان، وعصارة تلكم البدوات "تَهبُ لأرواحنا أقداح الفرح والحزن، وتلفُّنا بسحرِ الخلوة، وتفتح مغاليق ألسنتنا لنبثَّ لواعجنا".
ليس ثمة ليل ولا نهار، ولا مشرق ولا مغرب؛ وإنما هنالك "نور وظلام"، "خير وشر"، "حقٌّ وباطل"؛ ولذا كان "أحلكُ وقت للظلام، هو في الوقت نفسه بشائر أنوار الفجر"، وبسبب ذلك لا تزال "الأنوار تغدق على الروح من الجهات الأربع، وينبثق الفجر على أضواء تترى في آفاق الوجود. وتسطع المغارب سطوع المشارق".
ويمضي فتح الله ينسج بخيوط من حرير سجَّاد الزمن، فيتفنَّن في انتقاء الألوان، ويبدع في ترصيع الأشكال؛ كأنَّه نحَّات أو خطَّاط من "النفَس العثماني"، يصبُّ المعاني صبًّا، ويعبُّ البيان عبًّا، فتنتشي جذورُنا، وتجد لها مكانا في "سفوح الجنان"، وتكاد تظلل الآفاق جميعها "كشجرةٍ طوبى" غرسها ربُّنا بيديه، وحفظها أمانة "لسيد الزمان وإمام المكان"، حتى يَطعم منها يوم اللقاء، ثم يُطعم الخلق على إثره.
وقد نال "السَّحَر" حظا وافرًا في أدب الأستاذ "فهو الوقت الذي تهبُّ فيه على المؤمن نسائم التجلِّي، وفيه يتهيأ لولوج عالم المعاني"، "أمَّا نسيم السَّحَر... آه من نسيم السحر!.. إنه يهبّ كنفَس من اللانهاية" فتنسكب على قلوبنا، وتنبت في أعماق أرواحنا "عصارة الحقيقة الأبدية"؛ وإذا ما جاء وقت الترجيح والترشيح، فـ"الذين يُدعون للرحلة إلى ما وراء الأفق، يُختارون دائمًا من الذين يهيمون في أوقات السحر"، ويُنتقون "من بين المتجولين في وقت السحر".
أمَّا "الفجر"، فهو نهايةٌ وبداية؛ وهو علامةٌ وأمارة،وبيان ذلك أنَّ "حلكة الظلام تؤذن بقدوم الفجر"؛ وأنَّ "أحلك وقت للظلام، هو في الوقت نفسه بشائر أنوار الفجر". وأننا نصبو إلى زمن "تتحول فيه الأيام إلى الربيع، ويتبع الفجر فجرًا، فينتعش أملنا وانتظارنا"؛ وصورة تلكم الأيام أننا "نرى رفرفة خمائل القضية في كلِّ صوب وناحية بوفاء كوفاء الفجر"؛ وقد يعترض معترض أنَّ ما نراه ما هو إلا "خداع الفجر الكاذب"، لكننا نقول، مطمئنين واثقين: "إنَّ شهادة أصدق الشهود على شروق الشمس قريبًا هو الفجر الصادق في الأفق نفسه".
وما الصبح والشروق والضحى سوى مترادفاتٍ، تنضح بأدقِّ الدَّلالات وأبلغ الدِّلالات، ناصعة مشرقة لا غبار عليها؛ فالله -جل جلاله- يُظهر "رحمانيته بالشمس التي تبتسم وهي تشرق لنا كلَّ صباح"، فيحلو الذكر، وأحلاه ما جاء على لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم-،من مثل ترديده صباح مساء: «لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». ومن مثل "سيد الاستغفار" الذي لا يغادر لسان الحبيب صباح مساء.
و"الظهر" في لوحةِ فتح الله، هو زمن "التخلص من تعب النهار، ولحظة الفرحة لرؤية الحبيب والتملِّي بحسنه".. وأمَّا "العصر" وما بعد العصر، فالذروة فيه تتجلى يوم عرفة، إذ "الأدعية بعد فترة العصر (في عرفات) تكون أكثر عمقا، لأنها تبدو وكأنها قد تضمخت بعطر وجوٍّ مِن وداع حزين، وتشبه الأصواتُ والأنفاس أصوات الملائكة فيما وراء السماوات، حتى تصل إلى ذروة السعة والنقاء".
و"المغرب"، هو باب "الخلوة بالحبيب"، لمن صفتْ روحه، ولمن علت همَّته؛ أمَّا في فهم أولئك الأغرار، فهو أوان تصيُّد النفايات، والبحث عن الأوكار... وكما أنَّ للمادة في الأرض "مغربان ومشرقان"، كذلك للروح في الملأ الأعلى "مغربان ومشرقان"؛ فكلُّ لحظة وصلٍ هي مشرق، وكلُّ لحظة هجرٍ هي مغرب؛ ولا حظَّ للسواد والبياض، ولا للغروب والشروق، في قانون البقاء والصفاء، ولا في شرع اللامتناهي والماوراء.
لكن، للأسف، ثمة بشرٌ حَجَر، أو إن شئت فقل هنالك أناسٌ لهم قلوب (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(البَقَرَة:74)، فهؤلاء عندما "يستيقظون صباحًا يصفِّقون للفوضوية، وفي الظهر يقفون احترامًا للنظام الماركسي/اللينيني، وفي العصر يحييون "الوجودية"، وفي العشاء قد ينشدون نشيدًا هتلريًّا"؛ وما من أحد يأمن من الوقوع في هذه الهوة، ولذا علَّمنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هذا "الحَجْر الصحي، وهذه الحماية اللدُنّية" التي ندعو بها صباح مساء، متضرعين إلى الله تعالى: «يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبِي على دينِكَ».
الشعلة الإلهية تفجِّر ساعات العمر[23]
في عالَم "الإنسان" الضعيف، وضمن حدود "المخلوق" المحتاج، يستحيل أن نفصل "الفكر والحركية" عن خطِّ الزمن؛ فكلُّ فكر يكون ضمن وقت معيَّن ولا بدَّ؛ وكلُّ حركة تكون في نطاق زمني بيِّن ولا ريب؛ ولا تنفصم العلاقة السَّننية بين "الإنسان" و"الزمان" إلاَّ بأمرٍ من الملك الديان؛ ولا يكون ذلك إلاَّ في حالات استثنائية نادرة، من قبيل "المعجزات"، أو "خوارق العادات".
ولعلَّ الحوار العلميَّ الفلسفيَّ العقديَّ الذي جمع العالمين الكبيرن: ابن رشد والغزالي؛ في البحث عن علاقة "السبب بالمسبَّب" هل هي قهرية جبرية؟ أم هي إلفية اعتيادية؟ لعلَّ هذا الحوار هو وجهٌ آخر من أوجه البحث في العلاقة بين "الإنسان والزمن"؛ ذلك أنه يعالج الفعل الإنسانيَّ وعلاقته بالثمرة الواقعية.
ويؤكِّد فتح الله على هذه العلاقة تأكيدا بديعا، في الكثير من مقالاته وخطاباته، معتمدا أسلوب التصريف والتمثيل والتصوير؛ من ذلك قوله: "هناك شعلة إلهية تنير الطريق أمام العقل، وتفتح له آفاقًا جديدة، ففي ضوء هذه الشعلة يمكن قطع طريق سنَة في ظرف ساعة واحدة... هذه الشعلة هي الفكر".
ومن ثم فالورع يعرَّف بأنه "عدم الغفلة عن الله ولو طرفة عين"؛ ثم إنَّ التحرك أبدا في دائرةِ "لله، ولوجه الله، ولأجل الله"، يحوِّل "الثواني والدقائق والساعات والأيام في هذا العمر الفاني أجزاءً من زمانِ طريق البقاء، وتغدو وسائلَ للسعادة الأبدية". وفي مقام التمييز والاصطفاء، من مدخل (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)(القَصَص:68) نقرأ هذه المفاضلة العجيبة التي جاء فيها: "دقيقة واحدة من تأمُّل الجمال الإلهي يعادل آلاف السنوات من العيش السعيد في الجنة"؛ وباعتماد القياس نقول: إنَّ دقيقة واحدة -في الدنيا- من التفكُّر فيما أمرَ الله أن نتفكر فيه تفُوق آلاف السنين من أيِّ عمل آخر من أعمال العقول والقلوب والجوارح.
وفي سياق آخر، ينوِّه الأستاذ فتح الله بمن سماهم "ذوي الأرواح التي عزمت على السفر إلى الله تعالى"، فيذكِّر أنَّ أمثلَ صفاتهم وأظهرها أنه "لا يمكنهم أن يغفلوا ولو للحظة واحدة عن السفر، وعن تصوُّر السفر، والمعاني والغايات الجليلة التي تُستهدف في ذلك السفر". فهم بالتالي دائمو التفكير في المنطلقات والمآلات، متَّقدو الأفئدة والألباب؛ لا يعيشون سبهللا، ولا يَحيون كما اتفق.
ولا نجد إنسانا من لدن آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة، اغتنم -ويغتنم- ساعات عمره في التفكير والتفكُّر، وفي التأمُّل والتدبر، أفضلَ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو الذي عاش على الدوام وهو يحمل عاطفة الشوق والوجد لقيام الليل؛ ليتذوق حلاوة المثول بين يدي خالقه في تلك الساعات من الليل". ولقد كان -فداه أمي وأبي- "يضع جبهته على الأرض، ويبتهل لربه ساجدًا لساعات طويلة". وممَّا رُوِي عنه -صلى الله عليه وسلم-، أنه في قيام الليل، كان يتلو أواخر سورة آل عمران: (إِنَّ فيِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُوليِ الْأَلْبَابِ * اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فيِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(آل عمران:190-191)؛ فيبلل لحيته وثيابه، بل وحتى موضع سجوده بكاء وخشية.
وصحابة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جاؤوا على إثره، وتخرَّجوا في مدرسته، ولم يحيدوا عن خطه ولم ينحرفوا عن نهجه؛ فهذا الفاروق عمر -رضي الله عنه-، وهو الذي "أركع دولتين عظيمتين، هما الفرس والروم" "لم يتوقف لحظة عن مجاهدة نفسه..." وعن الفكر، والمحاسبة، والنظر...
ولم يتوان فتح الله طرفة عين عن حث أصحاب الهمم على التفكر، ونهْيِهم عن إضاعة الوقت فيما لا يفيد ولا يغني؛ ومن ذلك وصفه للأبطال في كلِّ عصر بأنهم "يقضون أعمارهم تحت زخّات الإلهام... فيتجرَّعون أذواق ولذائذ وحظوظ البقاء في الفناء، في كلِّ لحظة، وفي كلِّ مرة" وما أبطالُ اليوم إلاَّ السائرون في طريق الحقِّ، العاشقون لدعوة الحقِّ، الدائبون في خدمة الخلق.
ثم إنه يوصي كلَّ واحد من هؤلاء بالبحث بلا كلل، والسؤال بلا ملل، والتفكر في كل وقت وآن، بلا تردد ولا توقف؛ فيقول لكلِّ واحد منهم: "ابحث دائمًا عن مناصب ومناقب جديدة لروحك التي ستدوم وتبقى إلى الأبد. ولا يغيبن عن بالك لحظة واحدة الاحتفاظ بهذه المناقب والفضائل وعدم فقدانها".
والأستاذ فتح الله يتحرَّى أوقات النفحات الربانية من مثل وقت الأذان، والسحر، وعرفات، والعيد... وغيرها؛ وهو يدعو إلى اهتبالها، والتملِّي من جمالها، والاستنارة بجلالها؛ بلا حدٍّ ولا قيد؛ فهي هبة السماء إلى الأرض، وعنوان الحبِّ الأبدي والشوق السرمدي. فنقرأ له قوله في هذا الشأن: "أسعد اللحظات عندي في الليل هي اللحظات التي أؤدّي فيها الصلاة"، ولا شك أنه في ذلك يقتدي بالرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويتمثل قوله: «أرحْنا بها يا بِلال»، وقوله: «وجُعلت قرَّة عيني في الصلاة». ولقد عُرف عن الأستاذ أنه لا يرى النوم الكثير في الليل، وإنما يوصي بالإقلال منه، ويستنهض الهمم لقيامه، وقطع المسافات في جوفه؛ وهو نفسه كان يفعل ذلك دائما وأبدا.
أمَّا عن "الأذان"؛ فنقرأ صورة فنّية جميلة جاء فيها: "الأذان، هو الصوت الحقيقيُّ والموسيقى الحقيقيَّة لهذا البلد، التي لا تصْمت في أيِّ ساعة من اليوم، والتي تعبِّر عن نفسها في كلِّ وقت بأبعاد مختلفة..." ويبسط هذا المعنى بقوله: "ألفنا في هذا البلد منذ الأمس إلى اليوم أن ننتظر ساعات العبادة، وأن نستمع إلى أصوات الأذان؛ كأنها صرير أبواب السماء". وهو ينقلنا إلى العالم العلويِّ، وإلى ربوع عالم الملائكة، من خلال لحظات الأذان السعيدة، ويجعلنا ننغمس فيها بكلِّ وجداننا، ولا نستمع إلى كلمات المؤذن مجرَّد استماع فج، فيقول مشوِّقا ومبشِّرا: "في معظم ساعات الأذان وأوقات العبادة نحس كأنَّ ألوان العالم الآخر، وأنفاس الملائكة -التي تسمو بأرواحنا وتطير بها- تملأ جوانحنا، فينقلب الوجود آنذاك إلى حال تنتشي فيها الأرواح، وينقلب الزمن إلى زمن سحريٍّ، يحمل لنا جمالا غامضا مليئا بالأسرار".
أمَّا "عرفات" فهي مظهر آخر من مظاهر الرحمانية والرحموتية، وهي عنوان آخر من عناوين القرب والشوق والعشق؛ مَن لم يجرِّبها ولم يعشها، ومن لم يحلم بها ولم يتشوق إليها، فهو مغبون محروم؛ ذلك أنَّ " الدقائق الحانية المليئة بالعشق والوجد والشِّعر (في عرفات) تبرق من منافذ ومن عيون أرواحنا على الدوام وتلتمع"...
والقارئ لتراث الأستاذ فتح الله يبهره ذلكم الاهتمام الشديد، والاحتفاء الفريد، بـ"العيد" وما حول العيد؛ ولذا نقرأ له الكثير من المقالات في هذا الشأن، منها: "عندما تنبض القلوب برقَّة"، و"الشهر الماثل بالمغفرة"، و"العيد السعيد"... وغيرُها كثير؛ ومما ورد في هذا الباب أنه "في ساعات العيد ودقائقه الزرقاء زرقة السماء، نستمتع -بجانب جميع اللذائذ الجسدية المشروعة- ونأخذ نصيبنا من موائد الفكر والمشاعر، ونستمع إلى تناغم أرواحنا". ولا بدَّ أن ينوَّه أنه "يعيش أصحاب القلوب المؤمنة الذين أدركوا العيد دقائقه وثوانيه النورانية التي تعدل السنوات، ويشعرون في جوِّ الفرح والحبور المحيط بهم أينما ذهبوا"...
ولا يفوت الأستاذَ أن يلفت الأنظار إلى الأطفال كيف يحيون هذه الساعات السعيدة من العيد، والأطفالُ دوما هم المظهر الأرقُّ، والمثال الأصدق؛ فيقول في ذلك: "ينتهز الأطفال ساعات العيد ودقائقه المفتوحة على الجميع، والمتميزة بالمسامحة، ليشاركوا بعواطفهم الجياشة وبأصواتهم التي تشبه زقزقة العصافير...".
وهكذا، تنال الساعةُ، والدقيقة، واللحظة، وطرفة العين... وغيرها من أجزاء الزمن، حظًّا وافرا من العناية والاهتمام، ومن التفنُّن والإبداع، في فكر الأستاذ وفعله؛ حتى إنها لتنزَّل إلى عالم الخدمة، أوامرَ لطيفة، ودعواتٍ حفيفة؛ تحوِّل تلكم الشرائح الذهبية إلى طاقة فعَّالة، وإلى وجود حضاري مثمر، وتُحيل الدنيا ميدانا خصيبا للمنافسة، والمسابقة، والحرص على فعل الخيرات، واجتراح المبرات، واغتنام النفحات.
ربِّ لا ترني الربيع![24]
العام والفصول الأربعة في فكر الأستاذ فتح الله بحر آخر من بحار المعنى؛ فهي تتجاوز مجرَّد الدلالة القاموسية الطبيعية البسيطة، بل وتتجاوز كذلك مجرَّد الدلالات البلاغية الأدبية المحفوظة؛ وهي لا تتقيَّد بمفهوم وبُعدٍ واحدٍ يتيم؛ ففي المقدور استنباط الكثير من المعاني المنحوتة نحتًا، مما يكاد يشكِّل قاموسا خاصًّا، متحرِّكا تحرُّكا سريعا، ومتلوِّنا تلونا بديعا؛ وهو في ذلك يَتبع غزارة السياق، والمآل، والغرض الخطاببي، وطبيعة المتلقى، وأفق الرسالة... الخ.
فعندما نطالع أنَّ "إيقاد الشوق لرؤية جمال الله -جل جلاله- في الآخرة، والتي تعدل دقيقةٌ واحدة منها آلاف الأعوام من حياة الجنَّة". فإنَّ العام هنا لا يساوي العام الأرضيَّ المألوف؛ وإنما هو وحدة قياس تتجاوز الوحدات الدنيوية المحدودة؛ لتعبِّر عن حقيقة علوية ماورائية مهيمنة؛ وهذا ما نستنبطه من قوله تعالى في وصف نعيم الجنة، في كلامه الحكيم:(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(مريم:62)؛ ومعلومٌ أنَّ البُكرة والعشي في نظامنا الكونيِّ مرتبطان بحركة الشمس؛ لكنَّ النظام الأخروي لا يتقيد بالشمس وبالفلك، وإنما المصطلح استعمل للتمثيل والتقريب؛ لا على حقيقته الطبيعية؛ ذلك أنَّ الإنسان لا يدرك الأمور إلاَّ بناء على قدرات حواسه، ومألوف مشاهداته.
ولو انتقلنا إلى "الربيع" في فكر الأستاذ؛ فأول سمة نسجلها هو أنه يتلوَّن تلوُّن أزهار هذا الفصل الجميل، في لوحاتٍ فنية بيانية ملهمة؛ ولعلَّ من المفيد إيراد جملة من الدلالات والألوان والمعاني الزاهية، من خلال مادة "الموسوعة الكونية"، وبالذات من "زمرة العام وأجزائه"، ومن هذه الدلالات نقرأ:
التفاؤل والأمل والانفراج: معبرا عنه بمصطلح "الربيع"، وفي هذا يقول فتح الله: "إبَّان تزحزح العالم كله نحو الربيع في هذه الأيام، يتفق الجميع على أنَّ المستقبل سيكون خيرًا، على الرغم من معوقاتٍ بسبب الوضع التاريخي...".
ثمرات الخدمة ونجاحات الحركية: وبهذا البعد ينصح الأستاذ شباب المسلمين، والعاملين في حقل الدعوة بقوله: "عليكم أن تقولوا "هذا موسم الربيع"، تقولون هذا دون أن تقصروا في البذل وفي العطاء"؛ حتى لا يتحوَّل هذا الإعلان إلى زهو وفرح، والله -عز وجل- لا يحب الزاهين، ولا الفرحين.
التمكين والاستخلاف لدين الله تعالى في الأرض: مما يميز الأستاذ فتح الله أنه مع إدراكه لصعوبة الواقع، وللعراقيل التي تواجه مستقبل الإسلام، إلاَّ أنه حافظ -ولا يزال يحافظ- دومًا على تفاؤله، ودفعِ الناس أبدا إلى التفكير الإيجابي البناء، وهو موقن أنَّ الغد مشرق، وأنَّ المستقبل لهذا الأمر، بحول الله تعالى؛ ولقد عبر عن هذا المعنى بقوله: "إنَّ الإنسانية بعد أن سبحت في مستنقع الكفر كلَّ هذه السنوات، تفتِّش الآن عن مخرج وعن منقذ لها، فلا تجد إلاَّ الدين..."، ثم يضع شرط تحقق هذا التمكين وذلكم الاستخلاف، فيقول: "إن أفلحنا في التزود بمثل هذه الذخائر المعنوية، فعندما يهتف الربيع ويحلُّ الموسم ستُهرع إلى الحياة تلك البذورُ المنثورة بنشوة العبادة في أرجاء الأرض كلِّها...".
الفيوضات العلوية التي تفوق الوصف الأرضي: في دعوة توحيدية صادقة يوجِّه الأستاذ إلى العمل الحثيث؛ لبلوغ عصرٍ سيكون بإذن الله أفضل من هذا العصر الذي نعيشه، وفتحِ أفقٍ يكون بحول الله أرحب من هذا الأفق الذي ندركه؛ فيومها إن شاء الله تعالى "ستنشر التلفزيونات والراديوات والصحف والمجلات في جو الفضاء الفيوضات والبركة والنور، ويرتشف الكوثر كلَّ قلب سائح في ربيع الجنة..." ومن لا يحلم بتلكم الفيوضات، وهو يتألم جراء وسائل للإعلام لا تنشر اليوم إلاَّ ما يشين ويدمي القلوب؟!
الأنس والملاذ بالله -عز وجل-: يعتمد الأستاذ الأمثال مصعدا متينا للفهم والإفهام؛ ونقرأ في هذا الشأن استعارة لعلها من التراث العثماني، يقارن فيها بين الخلوة عن الأغيار، والخلوة عن الإله الجبار -جل جلاله-؛ فيقول: "الخلوة دون الأغيار واجبة، لا دون المولى، فالفراء يُرتدى في أثناء الشتاء وليس إبان الربيع".
الفرج بعد الشدَّة: روي في الأثر، ونسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطأ، قولهم: "اشتدي أزمة تنفرجي"؛ ثم أنشد الشاعر على إثره:
اشتَدِّي أزمَةُ تَنفَرِجِي |
قَدْ آذَنَ لَيْلُكِ بِالْبَلَجِ |
ولا شكَّ المعنى لا يعارض كليات الشريعة؛ ولذا عبر عنه فتح الله بأدب جم، في قوله: "الطريق الموصل إلى البقاء يمرُّ من الفناء، والنهار يعقب الليل، والربيع يعقب الشتاء، ومن ليس لهم ليل ولا شتاء، في حياتهم إذن لا ربيع لهم ولا نهار"؛ ويبشر بانهزام الشتاء أمام الربيع، والشرِّ في معركته مع الخير؛ فيقول: "كما ينهزم برد الشتاء وقرّه أمام تفتح الربيع، وكما ينحسر الليل أمام ضوء الفجر، تنحسر الغيوم السوداء المحيطة "بأياصوفيا" بعد كلِّ هذا الزمن غيمة غيمة".
أوان البذر والعمل: قد يصبح الربيع عنوانا لفترة العمل والبذر، ودليلا على الجهد والمكابدة وأداء الواجب في وقته، وفي ذلك نقرأ "كما تنقل البذور الموجودة في المخزن وتبذر جميعها في الأرض في موسم الربيع، وعندما يحين الأوان تقوم الأرض بإرجاعها سنابل عديدة، كذلك يجب على الإنسان أن يتحول بكلِّ كيانه إلى بذرة تبذر في الأرض". وفتح الله في هذا يستعير من الأدبيات الصوفية هذه الدلالة، يقول عطاء الله السكندري، في الحكم العطائية: "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه".
حياة الروح والمعنى: لا يمكن أن نقفز على هذه الصورة المركبة، التي تشبِّه الإنسان، وقلب الإنسان، بالشجرة؛ وتشبه حياة الروح والمعنى، ومعاني الإسلام والإيمان والخير والبر بالربيع؛ وبهذا يكون تلقي الفيوضات حسب درجة اخضرار الشجرة، فإن كانت يابسة، وإن كان القلب ميتا، فلا أمل في التلقي والتفاعل والاستجابة؛ وبيان ذلك أنه "إن لم تكن الشجرة يابسة، فإنها تستطيع الشعور بالربيع"؛ أما إن كانت يابسة، فالإجمال هنا يكون أبلغ من التفصيل؛ حتى يسبح الخيال في الدلالات والمفاهيم دون قيد.
ثمرة العمل العاجلة: يسمو فتح الله حين الدعاء، وبالدعاء، ويستجمعه ملكاته كلها للدعاء، وفهو في هذا السبيل "فنان"، و"رسام"، و"فرس"، و"بطل"، و"مبدع"؛ لا يقتصر على صيغة بعينها، ولا يجمد في شكل بذاته؛ لكنه يدعو حسب مقتضيات الحاجة القلبية والوجدانية، وحسب الرشحات والفيوضات الإيمانية التي تغمر الداعي حين يخلص في دعائه؛ ومن أعجب الدعاء نطالع قوله: "ربِّ لا ترني الربيع!"؛ أي ربِّ لا ترني قطاف عملي عاجلا في الدنيا، وادخر ذلك للعقبى وللآجل في الآخرة؛ واجعل الناس تترنم وتسيح في ربوع هذا الخير، واكتب لي أجره عندك، يا ربِّ!. والحقُّ أنَّ هذا الدعاء، فيما نحسب، قد استجيب، ذلك أنَّ الملايين من البشر ينعمون بآثار فكر الأستاذ، ويستنيرون بنور احتراقه هما وهمة؛ أما هو، فيدخر ذلك ليوم النشور؛ ولقد عبر عن هذا في كلمة له، وهو يقول: "والله لم أعرف الفراش الوتير، في حياتي، إلا بضع مرات، تحسب على الأصابع".
ولا يقل "الخريف" مكانة وقدرا في فكر الأستاذ؛ إلاَّ أنه يحمل دلالات أخرى، يمكن أن نمثل لها بمثالين:
الأفكار الأرضية المحدودة، وكل عمل غير متعلق بالله: يعبر فتح الله عن السريع الزوال من الأفكار، بصور استعارها من الخريف، وهي "سرعة تساقط أوراق الشجر"؛ ويقول في ذلك: " لا تعجب من المسلم الغافل الذي يترك عوالم الشموس والخلود هذه، ليلهث وراء أفكار أرضية محدودة المحتوى وقصيرة العمر... محرومة من العمق والأصالة... تسقط كأوراق الخريف في أول هبة ريح..."؛ ويخاطب رسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم- قائلا: "إذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْيِيَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، ونصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك...". ثم يصف الشهرة والشهوة والطمع بهذا المعنى الموحي، ويتأوه قائلا: "آه... آه أيتها الشهرة القاتلة، وأيتها الشهوة الكافرة، وأيها الطمع الخالي من الشرف! كم من روح مرَّ من دياركم فذبل من الزيارة الأولى!! وكم من قلب سقط في دياركم مثل أوراق الخريف الصفراء!!"؛ ثم يشرِّح حقيقة بعض الناس، وبعض المشاريع، وبعض ما يملأ الدنيا صخبا وضجيجا، فيصفهم أنهم "سرعان ما يتجاوزهم الزمن، ويبلي أفكارهم، فتسقط كما تسقط أوراق الخريف؛ ذلك لأنَّ دعوتهم غير مستندة إلى العون الإلهي". من هذا كان مبعث الاخضرار وسببه هو "التعلق بالله"، و"العمل لوجه الله"، و"الثقة في الله"، و"طاعة الله"؛ وكلُ ما سوى ذلك، فهو آيِل إلى الزوال؛ إن لم يكن اليوم فغدًا؛ ألم يقل جلَّ من قائل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)(الفُرْقَان:23)؟!
آلام الدمامل الاجتماعية، والأورام الحضارية: وهي كثيرة جدا، بعضها من زرع المستعمر، والبعض الآخر -وهو الأشدُّ ألما- من فعل الداخل؛ فهي اليوم سبب ما نحن عليه من تخلف وضعف ووهن؛ وهي للأسف أحيانا تزداد حدَّة وشدَّة؛ رغم أننا نأمل بحول الله تعالى في زوالها، إلاَّ أنَّ الحكمة تقضي بعدم الاستهزاء بها؛ يقول الأستاذ: "الدمامل التي ظهرت أمس في صور الإهمال والغفلة واللامبالاة وضعف الكفاءة وأحلام التغير، صارت أورامًا، ثم انتشرت في جوانبنا وأخضعتنا لنفسها، بمضاعفاتها السريعة والمتلاحقة... حتى استناخت خريفًا على كلِّ شريحة من شرائح المجتمع، وسلبت منها ألوانها الأصيلة...". ولكن لهذه الدمامل والأورام علاج وشفاء، بحول الله تعالى، ولا بدَّ أن نتحرى الدواء مهما بدا ثمنه مكلفا؛ يقول فتح الله "العشق الحقيقيُّ هو العلاج الحقيقيُّ الوحيد لتسكين آلام الفناء والموت، وتهدئة اضطراب وآلام القلوب المتلوعة بأحزان الخريف. وهو الشفاء الوحيد لمشاكلنا وأمراضنا التي كنا نظنها مستعصية منذ سنين...".
مهما بدا الخريف طويلا، ومهما قست هجمة الشتاء، ومهما ألقى الصيف بقيضه على سفوح قلوبنا؛ فإنَّ الربيع سيحلُّ قريبا، ببشارة من الله تعالى لا تكذب، وبوعد منه صادق لا يخلف، ويكفي أن نردِّد مع الحكيم قوله: "الليل يحمل جنين نور النهار، ويحمل برد الشتاء وثلجه جنين الربيع". وفي مثل هذه الحال، وبهذا المعنى، وبمقصد الخير العام ندعو: "يا ربِّ ارفع عن عالمنا خريف الكفر، وأره ربيع الإيمان، يا رحمان" آمين آمين.
"فيَّ رغبة نحو الأبَد!"[25]
لو اعتمدنا لغة الرياضيات في تشريح "الأزل" و"الأبد"، فإننا سنجد مصطلح "اللانهاية" (infinity) هو المستعمل، واللانهاية في هذا الفنِّ "تُستخدم كعدد تقاس به كمية غير محدودة، ويرمز لها بالحرف (∞). وهو كيان مختلف عن أيِّ كيان عددي آخر في خاصياته وسلوكه".
ومن أغرب خواص اللانهاية أنَّ ضربها بأيِّ عدد آخر -أو إضافته أو حذفه-، أو حتى ضرب بعضها على بعض، تساوي اللانهاية نفسها، لا تزيد ولا تنقص؛ أمَّا لو حاولنا أن نضرب اللانهاية على الصفر، فإننا سنقع في حالة عدم التعيين (0 × ∞ = عدم تعيين)، كذلك الأمر لو حذفنا اللانهاية من اللانهاية (∞ - ∞ = عدم تعيين).
ماذا نريد أن نقول من هذا المدخل؟
نريد أن أن نبين أنَّ "عالم اللانهاية" مختلف بكلِّ المعايير عن "العالم المادي المحسوب والمحسوس"؛ ومن ثم فأيُّ محاولة لجرِّ "منطق المحدود" القاصر، إلى "عالم اللامحدود" الخارج عن التصوُّر البشريِّ؛ هي مجازفة لا تُحمد عقباها، وخطأٌ فادح لا مبرِّر له. حتى إنَّ العديد من الفلاسفة "يعتبر سؤال ما بعد النهاية أمرا سخيفا، لأنَّ النهاية رمز لما لا يمكن حتى تخيله".
والغريب أن ينسب أوَّل استعمال لـ"اللانهاية" إلى الفيلسوف اليوناني الميليسي "أناكسيماندر" في القرن السادس قبل الميلاد؛ وكأنَّ البشرية قبل اليونان لم تعرف اللامتناهي، ولم تتعامل معه، أو أنها لا تفكِّر ولا تعمل عقلها!. والحقُّ أنَّ "اللانهائي والسماوي" التحم بالإنسان حتى قبل أن يعرف "النهائي والأرضي"، حيث إنَّ الله تعالى وهو "الموجود الأزلي"، و"الشاهد الأزلي"، أَخَذَ (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)(الأَعْرَاف:172)، لكن أشهدهم على ماذا؟ أعَلى الحقائق العلمية المحدودة؟ أم على الماديات والمحسوسات؟ لا، ولكن، على "اللامتناهي واللامحدود والمطلق"، أي على "ألوهية الله تعالى"، وعلى "ربوبيته" فقال سبحانه: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(الأَعْرَاف:172). يومها لم يتردَّدوا طرفة عين في الجواب، ولكنهم قالوا موقنين: (بَلَى). ثم ضرب لهم موعدا "في عالم الأبد"، فقال تعالى: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(الأعراف:172).
من هنا كانت "اللانهاية" وليدةً مع فطرة بني البشر، وكان التوق إليها مِن طبيعة المخلوقات كلِّها، فهي بالتسبيح تعبِّر عن هذا الشوق، وتعترف للموجد الأزليِّ بالفضل، في كلِّ حين وآن: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(الإسراء:44). وهذه الفطرية عبَّر عنها الأستاذ فتح الله بعدَّة صيغ، منها قوله: "إنَّ ذلك يعني انشداد كلِّ شيء بالأبد"، وقوله: "الحال أنَّ حقيقتنا موصولة اتصالاً وثيقًا بروح اللانهاية".
وبتتبع ما كتبه الأستاذ حول "الأزل" و"الأبد"، ومن ثم حول "اللانهاية"، ندرك أنَّ الموضوع ليس فلسفيا علميا رياضيا محضًا، ولا هو عرفانيٌّ إيمانيٌّ روحيٌّ محضٌ؛ بل هو كلُّ ذلك، في تناغم عجيبٍ، لا يستوعبه إلاَّ من كان في سعة أفق الأستاذ، وفي سعة اطلاعه على مختلف العلوم والفنون.
أمَّا فلسفيا، فقد ردَّ الأستاذ على "نظرية التطور" ودحضها، واعتمد في ذلك المنطق الفلسفي، ومما قاله: "إسباغ صفة الأزلية والخلق إلى المادة -حاشا لله- يعني التزام الطرف المعارض والمخالف، وهذا لا يليق بالفكر العلميِّ والموضوعيِّ"، وقال: "إنَّ الأزل ليس نهاية الزمان الماضي، إنه لا زمان". وفي تصريف العلاقة بين الزمان والمكان، أو ما يعرف "بالزمكان"، الذي هو أساسا من نتائج "النسبية" في الفيزياء والرياضيات، يقول فتح الله، ردًّا على القائلين بنظرية التطور: "إنَّ التطوريين...يتوهَّمون مكانًا لانهائيًّا. لأنَّ إسباغ صفة الأزلية على المادَّة، وسحب بداية التطور إلى زمن غير معلوم ضمن هذه الأزلية، يعني إسباغ صفة الأزلية على المكان، لأنه لا يمكن التحدُّث عن الزمان وعن المكان بشكل منفصل، لارتباط أحدهما بالآخر".
وقد استند الأستاذ كذلك إلى "القانون الثاني للديناميكية الحرارية" (الثرموديناميك Thermodynemic) لينفي أزلية المادة، وبالتالي يدحض مزاعم التطور؛ ومما قال في ذلك: "بما أنَّ الكون يتألف من أمثال هذه الشموس كلبنات أساسية له، فلا يمكن تصور أزلية هذه الشموس التي تتجه الطاقة فيها إلى النفاد؛ لأنَّ الشيء الأزلي -كما ذكرنا سابقًا- لا يكون مركبًا".
ويستعير من الرياضيات، ومن "خصائص اللانهاية" التي ذكرنا بعضا منها سالفا، لدحض شبهات الماديين، فيقول: "الظاهر هو أنَّ الذين يقولون بأزلية المادة لا يعرفون معنى الأزلية. فلو وضعت أصفارًا بعدد رمال جميع الصحارى في الأرض أمام الرقم واحد، لعدّ هذا الرقم الهائل صفرًا بالنسبة للأزل. وكذلك الأمر بالنسبة لأكبر عدد يمكن أن يتفتق عنه ذهن الإنسان أو يستطيع التفكيرَ فيه أو تخيُّله فهو أيضًا يعدُّ صفرًا بالنسبة لمفهوم الأزل".
لو لم يَرِد في فكر فتح الله إلاَّ هذه الإضاءات العميقة، لكان ذلك دليلا على تبحُّره في مفاهيم "الأزل"، و"الأبد"، و"اللانهاية"، وفي خصائص "المادة" و"الفناء"؛ غير أنَّه إنما يمهِّد بكلِّ ما تقدَّم لأمر أكبر وأعظم، وهو الغوص في "الرغبة والتوق والانشداد نحو اللامحدود واللانهائي والخالد"؛ لأنَّ الفناء رعبٌ، يقتل النفس الظامئة، ويجفِّف ينابيع الحكمة، فمن تشبَّث بشراشيفه كان كمن التحف السراب، وسكن اليباب.
يشرِّح فتح الله "الميلاد السعيد، لقائد الزمان وسيد المكان" محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ويربط ذلك بزوال "رعب الفناء"، وبالانشداه إلى الخلود، فيقول: "منذ أن داعب نورُه رؤوسَنا زال عن أرواحنا رعب الفناء، وفاضت بشائر الوصال من ديار الأحبة على الصدور الملتاعة. وبإكسير الحياة الذي نفخه في قلوبنا، وفي قلب الإنسانية كلِّها، بدأنا ندرك أنفسنا ونفهمها، وندرك ماهية العلاقات بين الأشياء، ونستطيع تقييم القابليات الموجودة في ماهيتنا وجوهرنا، ونحدس بُعد اللانهاية الموجودة لدينا. لولاه لما اكتشفنا هذا العمق الموجود في أرواحنا، ولا استبشرنا وفرحنا بالرحلة التي تمر من القبر نحو اللانهاية. هو الذي نثر على قلوبنا انفعالات الوجد والعشق... هو الذي أنار عيوننا بالنور... وهو الذي هيَّأنا للرحلة إلى بلد الأبد والخلود".
من هنا، يفرُق فتح الله ومن استنار بنور الوحي من مجدِّدي الأمَّة عبر عصورها، عن غيرهم من الفلاسفة والعلماء الآخرين في مختلف التخصصات، من أمثال ستيفين هاوكينغ، الذي صرَّح في كتابه (التصميم العظيم The Great Design) "أنَّ الكون ليس بحاجة إلى خالق لينبثق إلى الوجود، وأنَّ الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون" ثم هو يعاود الكرَّة مرَّة ثانية، ويصرِّح في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية "أنَّ الدار الآخرة مجرَّد خرافة". ومن ثمَّ يبقى عاجزا عن إدراك "الماوراء"، و"ماذا بعد؟". ولا يسعفه عقله المحدود في اقتحام عقبة اللامحدود، وتولد الحيرة عنده، فيناله الرعب والخوف، تماما مثلما وقع لـ"إينشتاين" أواخر عمره.
انظروا إلى فتح الله، وهو يروي لنا محاورة مع إنسان لم يدرك بعد آماد الحقيقة وأبعاد الوجود، فيقول: "قال لي أحد الناس: إنني لم أشعر بهذا. قلت له: وأنا شعرتُ به، فإن لم تشعر به فأنت وشأنك. لأنني أتذكر جيّدًا استشعاري به وإذا ما سُئلت "بأيِّ شيء شعرت به" أُجيب: "بالتوْق إلى الأبَد المغروز فيّ". ويقول بأسلوب آخر، في موطن آخر: "فيَّ رغبة نحو الأبَد، أحمل في روحي التوْق إلى الجنة ورؤية جمال الله".
إذن، الحقيقة الكبرى لا تنفصل ولا تنفصم عن اللامتناهي، يقول عن الله تعالى: إنه "أزلي، ووجوده من ذاته وهو أبدي كذلك"، وعن علمِ الله يقول "إنه أزلي"، ويصف الله -جل جلاله-، المتصف بالمحامد، بالعديد من الصفات التي تفيد هذا المعنى، فهو "المعلم الأزلي"، وهو "الشاهد الأزلي"، وهو "الموجود الأزلي ذي القدرة اللانهائية". فهل يملك مَن لم يغرز فتيله في دواة الوحي أن يستوعب مثل هذه المعاني والدلالات، بله أن يصفها، ويبدع في التعبير عنها؟
وفي نفس السياق يذكر عن الأنبياء عليهم السلام أنه "لا يجوز أبدًا تناولهم بمقاييسنا الدنيوية، وإطلاق الأحكام بحقهم من هذه الزاوية"؛ من هنا كان النور الخالد محمد -صلى الله عليه وسلم- "محتضنًا للحياة كلِّها، وبكلِّ مفرداتها وجوانبها، فهو الذي نقلها إلى الذروة وضمِن بقاءها هناك إلى الأبد". وعن الرسالة التي أتى بها -صلى الله عليه وسلم- قال فتح الله إنها "ستبقى خالدة إلى الأبد"، وإنَّ "أكبر دليل وبرهان على نُبوَّتِه هو هذا القرآن الكريم الذي يُعدّ معجزة خالدة أبد الدهر... فمن لم يستطع إنكار القرآن بأجمعه، لا يستطيع إنكار نبوته أبدًا". ذلك القرآن الذي يوصف أنه "جاء من الأزل وسيدوم إلى الأبد"، وأنه كتاب "مجيدٌ برسائل نورانية أزلية وأبدية"... هذا القرآنهو "كتابٌ نقطةُ استنادِه الوحيُ السماوي والكلامُ الأزلي باليقين".
ومن ثم، فإنَّ من ارتبط بنبع الأزل والأبد، ومَن هفا إليهما، ومن عمِل في "بستان طاعته عاشقا مولَّها"، قد انتفى أن يكون فانيا، واكتسب معاني اللامتناهي من نبعها، فهو "عاشق للأبدية والخلود"، و"مؤمن بتحقُّق الرغبات الأبدية التي تحنُّ إليها الجوانح"... ومَن كان هذا ديدنه، حقَّ به أن "تزَّيَّن حياته بثوانيها وثوالثها بشعور العبودية تجاه ربوبيته الأزلية والأبدية سبحانه وتعالى" وأن "يطرق بابَ الحياة الأبدية والوجود الأبدي" باستجابته لداعي الدين وأمره. وكل من كانت هذه حاله، سمي مسلما مؤمنا،واعتبر "مرشَّحا لنيل السعادة الأبدية".
أمَّا الآخرون، بسبب نيتهم المغلقة على "أبواب الخلود ونوافذه"، فهم والعياذ بالله "مهيَّؤون للشقاء الأبديِّ والخسران الأبديِّ"، أمَّا "نصيبهم فهو الشقاء والندم الأبديُّ".
والأستاذ يعي أنَّ بلوغ المراقي والآماد العلوية اللامتناهية لا يتأتَّى لكلِّ أحد، ولا في كلِّ مناسبة ووقت؛ وإنما هو ثمرة حُرقة وتشوُّف، ونتيجة معاناة ومناجاة، ومن ثمَّ نقرأ في أدعيته وتضرُّعاته الكثير من التوصيف الأزليِّ والأبديِّ، وسؤالَ الخالق أن يمنحه سعة اللانهاية، ويسعده في دار الخلود؛ ومن ذلك نقرأ مناجاته الحرَّى، وإنا لنتخيل الدموع تنهمر من عيون الأستاذ، وهو يناغي ويناجي، وإنا لنأمل بعد ذلك أن يستجاب منه، وأن نلتحف بلحاف الرحمة التي تنزَّل عليه وعلينا جميعا، بنفحة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غَافِر:60)... فلنصْغ إليه ضارعين، ولنردد على إثره موقنين:
"يا من وُجدنا بوجوده وتنوَّرنا بنوره! يا صاحب الرحمة اللانهائية الذي أنقذنا برحمته من ظلمات النفس الأمَّارة! لو لم يكن نورك الأزليُّ الذي تنوَّرتْ به الكائنات لما استطعنا رؤية أيَّ شيء على حقيقته، ولما استطعنا إصدار أيِّ حكم صائب.. وُجدنا جميعًا بعنايتك أنتَ، فلتكن عنايتك معنا... تعلَّمنا الحقيقة من علمك، ولو لم تتلطَّف بإلهام أرواحنا عن وجودك، كيف كنَّا نعرفك؟ ومن أين كنَّا ندرك وجودك؟ وكيف كنَّا نصل إلى الاطمئنان؟"...
صورة الزمن
محمد إقبال وفتح الله كولن، مثالا
تمهيد
تشكل صورة الزمن بُعدًا فلسفيا، علميا، معرفيا، عرفانيا، لم ينفك عن البحث والتحقيق منذ نشأ التفكير؛ ذلك أنَّ التفكير نفسه يندرج داخل الزمن، حتى وإن كان تفكيرا في الزمن نفسه. وبالتالي كانت صورة الزمن مِن أكثر المواضيع إثارة ودلالة؛ يندر من العلماء -مِن جميع التخصصات، وفي جميع العصور- من لم يُدل بدلوه فيه، ولم يعط صورة للزمن حسب تصوره، بناء على منطلقاته وغاياته ومدركاته؛ بل إنَّ النبوات نفسها قد طرحت منطلقات لفكرة الزمن، ولصورته؛ سواء في ذلك الكتب المقدسةُ الرسمية: "التوراة، والإنجيل، والزبور..."، وأخيرا "القرآن الكريم"؛ أم الشروح المتواصلة للوحي، من مثل "الشرح الحاخامي للتوراة، أي التلمود"؛ وشروح الإنجيل، حسب الروايات، من مثل "رواية مرقس"؛ وأخيرا السنة النبوية التي هي بيان للقرآن الكريم، وشرح شفويٌّ وعمليٌّ لتعالميه.
يقول محمد إقبال: "قد أثارت مشكلة الزمان انتباه المفكرين والمتصوفة..."[26]. أما أحمد دعدوش فقد ألف كتابا بعنوان "مشكلة الزمن، من الفلسفة إلى العلم"؛ تعرض فيه لقضية الزمن؛ "باعتبارها من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة والفكر وهي أيضًا من أكثرها تقاطعًا مع العلم التجريبي، وما زالت تثير خيال العلماء والفلاسفة إثر الفتوحات العلمية في نظرية النسبية وفيزياء الكم وما بعدها".
ويعنينا في هذا البحث أن نورد صورة الزمن لدى بعض فلاسفة العصر؛ ثم نخلص إلى صورة الزمن عند المفكرين محمد إقبال، وفتح الله كولن؛ ذلك أنَّ مجرد إيراد جميع الصور من المصادر، سيشكل بحثا قد يليق ببحث طويل النفس، من مختلف التخصصات.
صورة الزمن من منطلق القرآن الكريم
وقبل ذلك، لا بدَّ أن نحيل إلى صورة الزمن ومفهومه في القرآن الكريم، وقد يَسَّر الله تعالى تأليف بحث في هذا الشأن، ولعلَّ أنموذجا واحدا يكون كافيا لفهم مدى العمق الذي يتسم به هذا الحقل في كلام الله تعالى المعجز؛ وذلك قوله تعالى عن الفتية، أصحاب الكهف (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)(الكهف:17)؛ إذ بينما يرى البعض أنها فجوة مكانية؛ يقول الإمام البغوي في تفسيره: "متّسع من الكهف، وجمعها فجوات"؛ إلاَّ أنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقربُ مذكور في السياق هو حركية الزمن من خلال حركية الشمس، قال تعالى:(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)(الكهف:17)، ثم قال سبحانه (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)، أي من حركية الزمن، فلا يؤثر فيهم، ولا يغمرهم شأنَ باقي المخلوقات؛ ولهذا المعنى دليل في قصَّة (الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)(البقرة:259)، حين كان "طعامه وشرابه" لمدة مائة عام في "فجوة" من الزمن. أمَّا حماره، فقد كان داخل "دوامة" الزمن، حسبما تقتضيه السنن، كباقي الخلائق جميعا؛ ولذلك تقادم، وشاخ، وبليتْ عظامه.
المهم، أنَّ هذه صورة واحدة من صور الزمن، الذي يسري مثل نهر، تصبح فيه جميع الخلائق، وعلى جوانب النهر أو داخله فجوات، مَن دخلها نجا من قهره، ولا يدخل هذه الفجوات إلاَّ من كتب الله له ذلك إعجازا، وفي حالات نادرة جدا؛ أمَّا جميع المخلوقات من حيث سنن الله تعالى فتَحْيا داخل النهر، ويبليها الزمن، فتتقادم، وتبلى؛ ولقد عبَّرت الفيزياء الحديثة عن هذا المعنى الدقيق، بنظرية "القصور في الطاقة" (Entropy) يقول علي عزّت بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب": "طبقا لعلماء الحياة، القصور في الطاقة هو النقطة الحاسمة في تعريف الحياة؛ فجميع قوانين الطبيعة ترجع إلى القصور في الطاقة، والتي تعني التشوش العام، الحالة المطلقة للاتساق الخامد". أمَّا كون الإنسان يتجه عكس هذا القانون؛ فلأنه يستمدُّ "حياته" ونشاطه المتواصل والدائم، من مصدر آخر غير المصدر المادي الجامد.
صورة الزمن في السنَّة النبويَّة الطاهرة
أمَّا من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فصورة استدارة الزمان، هي الأبرز في هذا السياق، ولذا ورد في "مفهوم الزمان في القرآن الكريم"، هذا التفصيل: "إنَّ محور الزمن -كما يؤكِّده القرآن الكريم ويثبته النبي -صلى الله عليه وسلم-- هو زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وبالتدقيق "يوم استدار الزمان كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض"؛ فالتاريخ وفق هذا لا يسير "في تتال بسيط، محدود بخطوط مستقيمة (Rectilinéaire)، وتناسبات عديمة من كلِّ معنى"؛ ولكنه يتنقَّل بسيولة وحيوية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يحدُّ بزمن خطيٍّ بسيط؛ "وإنما زمنه زمن حلزوني متشابك، تلتقي بدايته مع نهايته دون صعوبة في التنقل والمصطلحات؛ محوره نبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولحمته الأزل، وسداه الأبد. ولقد أخبر النبي الصادق في حديث شريف عن هذه اللحظة التي استدار فيها الزمن، وهي إشارة إلى عملية "الطيِّ" التي هي توسع باعتبار، وانكماش باعتبار آخر؛ قال -صلى الله عليه وسلم- : «إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض...».
ولا شكَّ أنَّ تتبع أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في علاقته بالزمن والوقت، والعمل على تشكيل "صورة الزمن" بناء عليها، سيكون عملاً علميًّا له أهميته، وله أبعاده؛ ورغم أنَّ بعض المصادر اهتمت بهذا الجانب من حيث الأهمية والقيمة والخصائص، إلاَّ أنَّ الجانب المعرفيَّ الإدراكيَّ يبقى بغير اهتمام مذكور.
صورة الزمن في الفلسفة الغربية المعاصرة
لقد قصدنا في بحثنا هذا تخطي الفلسفة اليونانية، ذلك أنَّها دفعت الزمن إلى "حدود خرافية" لا تمت إلى العلم بصلة؛ ونأتي إلى الفلسفة المعاصرة التي اهتمت بالزمن اهتماما شديدا، من مختلف المداخل والتخصُّصات؛ وأنتجت فيه -ولا تزال- الآلاف من العناوين والنظريات؛ ومن ذلك يذكر "نظرية العود الأبدي، التي هي فكرة ميتولوجية" في فلسفة "نيتشه"؛ وبناء عليها يكون شكل الزمن "دائرة تعيد نفسها بلا توقُّف، وكلُّ لحظة هي أبدية تتكرَّر إلى ما لا نهاية".
أمَّا "عمانويل كانط" فيرى أنَّ الزمن ليس سوى "صورة الحسِّ الداخلي، أو صورة الحدس المحض لدينا، اتجاه أنفسنا وحالتنا الداخلية" أي أنَّ "الزمن لدى "كانط" ليس سوى الصورة التي تحدس بها الروح نفسها كمقدرة حسية"، وبالتالي فهو ليس حقيقة موضوعية خارجة عن الذات.
وبعد ذلك اعتبر "هيغل" أنَّ مفهوم الزمن المجرَّد أحد أكثر البداهات خواء؛ وبالتالي "يعتبر الزمن السطح المفهومي المجرَّد الأول والمباشر للمعطى الحسيِّ، فهو إذن ينتمي الى مرحلة بدائية من تطور العقل".
وفي المتأخرين يبدو الزمن عند "هيدغر" "بلا نهاية في ذهن كلِّ إنسان؛ لأنَّه النهاية نفسها بالمعنى الأكثر راديكالية للكلمة". ولذا "حينما عرَّف "أينشتاين" الزمن بأنه البعد الهندسيُّ الرابع، رَدَّ عليه "هيدغر" بأنَّ الزمن هو الرباعيُّ الأبعاد"، أي أنه هو ذاته لا حصر لأبعاده وآماده.
أما عند علماء الفيزياء، فنسجِّل وصف "إسحاق نيوتن" الزمن بأنه "شيء في ذاته وطبيعته يتدفق تدفقا متساويا"؛ أي أنه على "صورة نهر وجدول". لكنَّ فكرة التدفق المتواصل قد نقضت من قبل علماء آخرين؛ منهم "لويس روجيه" الذي قال: "إنَّ الزمن غير متدفق باستمرار، وإنما هناك ذرَّة زمنية".
ولقد أعدّت الكثير من البحوث حول مفهوم وشكل الزمان بين "أينشتين" و"برغسون"؛ وبخاصة ما يتماول "الديمومة" و"الوجود"، و"تتالي الآنات"... الخ.
ونسجل مما مرَّ أنَّ بعض التعاريف نحت منحى موضوعيا في بيانها لماهية الزمن؛ بينما ركَّزت أعمال أخرى، على الجانب الذاتي للزمن[27]؛ وهم يعترضون على الزمن الموضوعي بأنه لا يستطيع أن يطبق على زمن "الذات الإلهية"، أو على أيِّ زمن ميتافيزيقي، خارج حدود المادة.
صورة الزمن كما عرضها محمد إقبال
ونورد إضافة معتبرة في هذا المجال، لفيلسوف الإسلام محمد إقبال؛ وبخاصة من خلال كتابه "تجديد الفكر الديني"؛ فلقد نقد الزمن الموضوعيَّ نقدا لاذعا، مستشهدا بما أبدعه ثلة من علماء الإسلام المتأخِّرين؛ إلى أن انتهى إلى القول: "عندما نرتفع إلى أعلى فأعلى في سلَّم الكائنات غير المادية، فإننا نصل إلى الزمن الإلهي، ذلك الزمن الذي يخلو تماما من صفة المرور، وبالتالي لا يقبل الانقسام ولا التتابع ولا التغير، إنه فوق القِدم، فوق الأبدية، ليس له بداية ولا نهاية" إلى أن ينتهي إلى خلاصة قيمة، وهي "أنَّ أولية الذات الإلهية ليست راجعة إلى أولية الزمن، وإنما أولية الزمن هي التي ترجع إلى الأولية الإلهية".
ويسجل إقبال ملاحظة ذات مغزى في سياقنا، وهي "أنَّ الإمام فخر الدين الرازي، هو أكثر علماء الدين الإسلامي اهتماما بمشكلة الزمن، فهو يخضع للبحث والفحص مشكلة الزمن في كتابه المباحث الشرقية، مستعرضا كلَّ نظريات الزمن في عصره"
ولقد ضرب الإمام الرازي أروع مثال في التحقيق العلمي، وفي خُلق العالم، بإعلانه صراحة عن عجزه إدراك ماهية الزمن، قال: "اعلم أنه حتى الآن لم أستطع أن أكتشف بالفعل أيَّ شيء عن حقيقة الزمن".
وينتهي إقبال إلى رأيه، وهو "أنَّ وجهة النظر الموضوعية البحتة لن تساعدنا إلاَّ قليلا في فهمنا لطبيعة الزمن، والسبيل الصحيح هو التحليل النفسي الدقيق لتجربتنا الشعورية، فهو وحده الذي يكشف طبيعة الزمن الحقيقية"، وهذه الطبيعة حسب رأيه هي "أنَّ زمان الذات المطلقة يتكشف باعتباره تغيرا بلا تتابع، أي كُلاًّ وضعيا، يبدو ذريا، بسبب الحركة الخلاقة للذات". وهو بهذا يعطي للزمن أبعادا أخرى غير البعد المادي الطبيعي الفيزيائي، فيصير كأنه معلم ثلاثي الأبعاد: البعد الإلهي، البعد الذاتي، والبعد المادي؛ مع الاعتراف أنَّ البعد الثالث هو أقلُّ الأبعاد شأنا ومكانة وقدرا؛ وأنَّ الأوَّل هو الأساس، وهو الحقيقة المطلقة، وأنَّ البعد الذاتي هام لكنه محدد في التقدير والإحساس والشعور، غير مؤثر على حقيقة الزمن كما هي.
ثم يقرر في الأخير أنَّ هذا الجانب "صعب" حقًّا، وهو من المباحث الفلسفية العميقة والمستعصية.
صورة الزمن عند فتح الله كولن
أمَّا فتح الله كولن، فيعود بنا إلى "الصورة النبوية" للزمن، ويقول "إنَّ صورة الزمن هي صورة لولبية (spiral)، مربوطة بمركز (central)، ممتدَّة نحو الأبد" ومن ثم يناقض نظرية "نيتشه"، ويقول: "إنه ليس مستديرا"؛ وفي مقال آخر، بعنوان "المعيَّنية إلى حدٍّ ما"، ينحو فتح الله ذاتَ المنحى، ويردُّ على "جون دِيوي" في مقولته الشهيرة، والتي يكررها الناس كثيرا بلا تحقق ولا تحقيق، وهي قوله: "التاريخ يعيد نفسه"، فيقول فتح الله: "التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يشبه نفسه".
والذي يقابل مفهوم الزمن الدائري، هو مفهوم الزمن الخطي "الذي يبدأ ببداية ونهاية محددة، ويسير وفقا لخط مستقيم، وهي الفكرة التي ترسخت لدى مفكرين وفلاسفة غربيين من خلال مفهوم الزمن المسيحي الذي ينظر للوجود على أنه ذو بداية ونهاية، فالبداية مع خلق آدم -عليه السلام- والنهاية مع يوم القيامة". وفتح الله كذلك يناقض هذا المفهوم، ويقول: "إنه ليس خطا مسطحا مستقيما". ثم يضيف تفصيلا آخر، وبعدا آخر بقوله: "بل فيه صعود ونزول". وإنَّنا لنسأل عن دلالة هذا الصعود والنزول، التي تبدو جديدة غير مألوفة؛ فهل تعني الصعود والنزول في المكانة والمعنى، أم هو صعود ونزول طبيعيٌّ ماديُّ لا يحسُّ، أم هو أمر آخر؛ ونترك الأمر للبحث والتقصي الحقيق.
أمَّا أصل الزمان، وأسه، ومادته، ومنطلقه، فهو من بعد آخر غير الأبعاد المادية المألوفة بخاصة لدى علماء الفيزياء؛ وغير الأبعاد النفسية التي أوغل كانط في ردِّ جميع الزمن إليها؛ إنَّ أصل الزمن يعود إلى "خالق الزمن"، كما أشار إلى ذلك محمد إقبال بقوله: "عندما نرتفع إلى أعلى فأعلى في سلَّم الكائنات غير المادية، فإننا نصل إلى الزمن الإلهي"؛ لكن ليس الحكم هكذا بالتعميم، ولا بنفي الأبعاد الأخرى من الزمان، والحلول في الحقيقة الواحدة حلولا مطلقا؛ وإنما بتفصيل جاء فيه: "ووجود كائن الزمان الحقيقي هو لوح المحو والإثبات" ثم يستشهد فتح الله بقوله تعالى: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(الرعد:39)؛ ولا شكَّ أنَّ الزمن والوقت مما يمحوه الله تعالى ومما يثبته؛ وليس خارج قدرته ولا متحكما فيه حاشاه.
وتفصيل حقيقة "المحو والإثبات"، وعلاقته بالزمن، في فكر الأستاذ فتح الله، مما يجدر تخصيص بحث خاصٍّ به؛ وبخاصَّة أنَّ الأستاذ بديع الزمان النورسي نفسه، له خطرات ونظرات في هذا المعنى الجليل.
يقول فتح الله في مقطوعة رمزية، من كتابه "ألوان وظلال"، بعنوان "حقيقة الزمن":
إلهيُّ المنشأ، كوني المصبّ...
لَوْلَبِيُّ المسير، إلى الأبد يسير..
ما هو بالمستدير، ولا بخطّ مستقيم..
يصعد تارة، وينزل أخرى...
فحقيقة الزمن لوح المحو والإثبات،
يمحو الله ما يشاء ويثبت...
ويرى فتح الله، على غرار "أينشتاين" أنه "لا يمكن التحدث عن الزمان وعن المكان بشكل منفصل، لارتباط أحدهما بالآخر". وبيان ذلك "أنَّ الزمن يملك وجودًا اعتباريًا (اسميًّا)، والمكان هو الذي يجعل الزمان بعدًا للأشياء وللحوادث، بدون المكان لا يكون للزمان وجودٌ". أمَّا ما نطلق عليه اسم "المكان" فهو عبارة عن عالم المادة، أي عالم الذرَّات. لذا فعندما تتم البرهنة على عدم أزلية المادة، يظهر أمامنا عدم أزلية المكان والزمان، وأي شيء لا يملك صفة الأزلية لا يمكن أن يكون خالقًا ولا أن يظهر للوجود بنفسه تلقائيًا".
ولقد عالج فتح الله "مفهوم الأزل والأزلية"، و"الأبد والأبدية"، هل هما داخل الزمان، أم أنهما من بعد آخر خارج الزمان؛ ذلك أنَّ لهذه الصورة والمفهوم أثرا في العقيدة، وبخاصة في الذات الإلهية سبحانه، وذلك حين نقول: "هو الأول والآخر"، وأنه "أزلي أبدي، لا أول له ولا آخر"، أو حين نقرأ قوله سبحانه: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(الإخلاص:3)، ولتفصيل هذا المعنى يقول الأستاذ: "لنبين أولاً بأنَّ الظاهر هو أنَّ الذين يقولون بأزلية المادة لا يعرفون معنى الأزلية. فلو وضعت أصفارًا بعدد رمال جميع الصحارى في الأرض أمام الرقم واحد، لعدّ هذا الرقم الهائل صفرًا بالنسبة للأزل. وكذلك الأمر بالنسبة لأكبر عدد يمكن أن يتفتق عنه ذهن الإنسان أو يستطيع التفكير فيه أو تخيله فهو أيضًا يعد صفرًا بالنسبة لمفهوم الأزل، لأن الأزل يعني اللانهاية، والشيء الأزلي يتصف بما يأتي:
لا يكون مركبًا،
ولا يتركب،
بل يكون بسيطًا وغير قابل للتجزئة،
لا يتغير أبدًا،
ولا يمكن التدخُّل فيه،
يكون خارج الزمان والمكان، أي يكون خارج كلِّ حركة متعلقة بالزمان والمكان،
يكون أبديًّا، لأنَّه في جميع الأحوال خارج الزمان،
ولكون الأزل والأبد خارجي الزمان، فهما يلتقيان في نقطة واحدة بوجه من الوجوه، ولا توجد أيُّ خاصية من هذه الخواص في المادة؛ فالمادة متغيرة، ولا يمكن تصورها خارج نطاق الطاقة حسب ما يقرره قانون الديناميكية الحرارية (الثيرموديناميك)، كما أنها صالحة لكلِّ نوع من أنواع التراكيب.. ثم إنها موجودة تحت قيد الزمان والمكان".
وبهذا يوضّح فتح الله خلل نظرية التطور، وكذا كل النظريات التي تحاول من خلال رؤية كونية طبيعية موضوعية مادية، أن تخضع الغيب، وبالخصوص "ذات الله -عز وجل-" إلى قوانين الكون والطبيعة والنطور؛ جهلا منها بحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الزمان.
صورة الزمن، من الرؤية الكونية إلى الفعل الحضاري
كلُّ علم لا ظلَّ له في خط الحياة، ولا امتداد له إلى ما بعد الممات، هو من فضول العلم، وهو ترفٌ وتشدُّق، لا حاجة إليه، والأمَّة تئنُّ وتترنَّح، متشوِّفة متشوِّقة إلى بصيص الأمل، وإلى الغد المشرق الوضَّاء؛ ومن ثمَّ وجب أن يكون الحديث عن "صورة الزمن" طاعة للحقِّ، نفعا للخلق؛ فالسؤال الجوهريُّ إذن، هو: ما علاقة صورة الزمن بالعمل الصالح المرتقب، والفعل الحضاريِّ المروم؟ وهل تناول العلماء والمفكِّرون -ومنهم إقبال وكولن- هذا الموضوع من باب السياحة العقلية العابثة؟ أم أنَّ لهم مقاصد وغايات أخرى، وجب الكشف عنها؟
الحقُّ أنَّ صورة الزمن تشكل الرؤية الكونية لدى أيِّ شخص، عالِما كان أم دون ذلك؛ وتركِّب النماذج الإدراكية عند كلِّ أمَّة، متمكِّنة كانت أم متخلفة؛ ثم إنَّ الرؤية الكونية، والنموذج الإدراكي يصنعان الحكم، والحكم يتبلور إلى موقف، ثم الموقف ينزل إلى أرض الواقع فعلا، وعملا، وحركية... فيكون بالتالي ظلا لأصله، وثمرة لغرسه؛ وبهذا الاعتبار تؤثر "صورة الزمن" في عمل الإنسان سلبا أو إيجابا؛ من حيث يعلم أو لا يعلم.
فالذي يرى الزمن "دائرة" تعيد نفسها، يكون تفكيره أقرب إلى "الجبرية"، وإلى سلب إرادة الإنسان، ذلك أنها لا تستطيع أن تخطو خطوة مخلتفة، أو ترقى مرتقى أعلى؛ ومعلوم أنَّ اعتقاد الجبر قاتل للمبادرة، مبيد للحركية، مولِّد للسكون؛ فيذكر أحدُ علماء الاجتماع -مثلا- أنَّ المجتمعات البدوية الرتيبة، تنظر إلى الزمن من هذا المنظور، ولذا فهي تدخل في "دائرة فاسدة"، كلُّ يوم فيها يشبه الآخر، وأيُّ حديث عن المستقبل أو عن التطور، ما هو إلا تمرُّد، وهو خروج عن المألوف. فالسكون هنا هو سيد الموقف.
أمَّا من يرى إلى الزمن على شاكلة الخطِّ المستقيم، فهو يلغي أيَّ تشابه بالماضي أو الحاضر، ومن ثم كانت اللحظة التي يقف عليها هي المبدأ وهي المنتهى، فهو أقرب إلى الوجودية المفرطة، منه إلى أيِّ نموذج إدراكيٍّ آخرة. ونظريات التطور -وكذا النظريات الدرامية- جميعها تستقي من هذا النبع، وتجد في الزمن الخطي تفسيرا لمذاهبها. وكذا الفيزياء المعاصرة التي تؤمن بالسببية، وبتلازم السبب والنتيجة، وتبني مشروعها العلمي على "السببية" وحدها (causality)؛ علما بأنَّ هذا المفهوم نفسه قد عرف اهتزازا على يد علماء ما بعد النسبية، أي أصحاب نظرية الكم، ومَن والاهم من أمثال: هايزنبرغ، وبور.
فقط الصورة الحلزونية، المستقاة من القرآن الكريم والسنّة الطاهرة، هي التي تجمع بين إعادة التاريخ نفسه باعتبار، ووجود الحركية نحو الأفضل باعتبار آخر، أي بين الجبر والاختيار؛ فالتاريخ يشبه نفسه حين يعاود الناس ذات الأسباب؛ فالذي يتكرر إذن هو "السبب والسنة والناموس" المتكشل على شاكلة "النتيجة، والأثر، والواقع"؛ أما الأسماء والأشكال والظروف، فلا تتكرر ولا تتردَّد؛ وهنا يقف الإنسان موقفا إيجابيا من "قانون تلازم السبب والنتجية"، فيحرص، لو أراد إعادة زمن ما، على أن يعيد أسبابه، فيعود بروحه، ومعناه، لا باسمه ومبناه.
وثمة مرحلة ثالثة، ومقام أسمى، ألا وهو ربط مقام التعلق بخالق الزمن والمكان، وهو سبحانه خالق الإنسان؛ فلو أراد امرؤ أن يعلو فوق الزمن، وأن يتحكم فيه، وأن يسخِّره ويضبط ناصيته، ويروِّضه ترويض الفرس الجموح أو الحرون؛ فما عليه إلا أن يرتبط ارتباطا وثيقا مباشرا بـ"صاحب الزمن ومالكه وخالقه" سبحانه وتعالى، يقول فتح الله:
فإن أردت أن يخضع لك الزمان وينقاد...
فإلى "صاحب الدهر -جل جلاله-" اسْتسلم،
وإلى حقيقة الزمان تَنبّه...
ولعلَّ هذا من معاني قوله تعالى في الحديث القدسي «أنا الدهر بيدي الأمر»، وفي رواية: «لا يقولن أحدكم "يا خيبة الدهر"، فإني أنا الدهر، أقلّب ليله ونهاره، فإذا شئتُ قبضْتُهما»؛ سبحانه وهو القائل في محكم تنزيله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(الرحمن:29)، ولقد فسر -عليه السلام- هذه الآية تفسيرا جامعا مانعا: «يغفرُ ذنبًا ويكشفُ كربًا ويرفع قومًا ويضع أخري»(رواه ابن ماجه)؛ وهذا مدلول قول البعض: "سبحان الذي يُغيّر ولا يتغيَّر".
والنتيجة أنَّ الزمن خلق من خلق الله، وهو مثل المكان حقل للعمل الصالح، وهو محلُّ سؤال من الله -عز وجل- يوم القيامة، يتحرك بشكل حلزونيٍّ له مركز ومرجع، يتعلق بالأزل والأبد باعتبار، ويتحرر عنهما باعتبار؛ ولا يمكنه اعتبار الأزل والأبد داخل هذه الحركة، وإنما هما فوق الزمن؛ وفي الإمكان التحرر من قيود الزمان والمكان، بالارتباط بربِّ الزمان والمكان؛ سبحانه (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(آلِ عِمْرَان:40)، (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(الرَّعْد:41)، وهو (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأعلى:2-3). وما على المرء إلاَّ أن يغتنم حركة الزمن، ويشكر نعمة الوقت، ويعمره بالعلم النافع والعمل الصالح؛ فإنه يوم القيامة، حين يغير الزمان شكله وصورته، بأمر من الله تعالى، سيكون ثمة خلود إلى الأبد، إما نعيم مقيم، أو جحيم دائم؛ ويومها فقط سندرك الكثير مما خفي علينا في دنيانا، ومنها صورة الزمن على حقيقتها.
فاللَّهُمَّ علِّمنَا ما ينْفَعُنا، وانْفَعْنا بمَا علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلمًا وهُدًى.
[1] الأكاديميا: مؤسَّسة بحثية وقفية، مقرُّها إسطنبول؛ تُصدر العديد من المجلاَّت، وتنظِّم ملتقيات فكرية وحضارية، وتنشر أعمالا وبحوثا ورقية ورقمية عالمية؛ بها حلقات للدرس والبحث العلميِّ، تأوي طلبة من مختلف الدول، متفرِّغين لعلوم الشريعة، بإدارة أساتذة أكفاء، من تلاميذ الأستاذ فتح الله كولن غالبا؛ ومن أبرز أقسام الأكاديميا قسم "مجلة حراء"، الصادرة باللغة العربية.
[2] ملاحظة: المادة العلمية المعتمدة في هذا الفصل، من كتاب المفاتيح، هي إما من تقديم المترجمة ص:17-23؛ أو من مقدمة المؤلفين ص:23-39.
[3] تعقد في الأكاديميا، وفي جميع مؤسَّسات الخدمة، جلساتُ الصحبة، لمطالعة ما كتبه الأستاذ، ومناقشته، وتفعيله، حسب مستويات المعنيين، ودرجات تمكنهم، وتخصُّصاتهم.
[4] ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:151.
[5] بعض المصادر تنسب هذا التخصص للبيروني، فهو أول من ألَّف فيه؛ ثم طوره الفلاسفة الغربيون، من لندن النهضة الأوروبية، إلى اليوم، منهم: تايلور، ومورغان، وميردوخ... غير أنه لم يستقلَّ، ولم يدخل الجامعة إلاَّ حديثا، كما ذكر المترجم.
[6] يذكر طلبة الأستاذ فتح الله أنه كان دوما ينصحهم بالتخصص، مع الانطلاق المعرفيِّ نحو ما يسميه "الموسوعية"، أي الاطلاع على كليات العلوم، وعلى العلاقات؛ لا بمعنى رصِّ المعارف موسوعيا، وحفظها نصيًّا؛ وإنما بالتحليل والمقارنة، والتفكيك والتركيب
[7] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:19.
[8] ملاحظة: مادة الدراسة والتحليل مستخرجة من القسم الثالث من الموسوعة، حسب ترتيب الزمر؛ فلكل زمرة أفرد عنوان ومقال تحليليٌّ خاصٌّ؛ مع التنبيه إلى أنَّ ما بين علامات التنصيص هو اقتباس من فكر الأستاذ فتح الله كولن.
[9] مقال تحليليٌّ لزمرة "الزمن"؛ انظر: ص:87 من هذا الكتاب.
[10] مقال تحليلي لزمرة "الوقت"، انظر: ص:93 من هذا الكتاب.
[11] ينظر: "نظرية كل شيء" بين عجز الفيزياء وتألق الوحي، الأستاذ فتح الله كولن نموذجا؛ القسم الأول من كتاب "أرباب المستوى"، دار النيل، القاهرة 2012م؛ ص:75.
[12] مقال تحليلي لزمرة "الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل"، انظر: ص:105.
[13] للتذكير، ما يرد بين علامات التنصيص، هو مقتبس من فكر الأستاذ.
[14] ينظر: محمد باباعمي، أصول البرمجة الزمنية؛ تحليل لغياب هذا الفقه، وأثر ذلك على الأمَّة.
[15] إشارة إلى حديث رواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه السلام- فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» (ثلاثا): «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور». وكان رسول الله -صلى الله عليه السلام- متّكئًا فجلس، فما زال يكرِّرها، حتى قلنا: "ليته سكت".
[16] تمام الحديث: «لا تسبُّوا الدهر، فإنَّ الله -عز وجل- قال: «أنا الدهر، الأيامُ والليالي لي، أجدِّدها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك"» (رواه الإمام أحمد في مسنده).
[17] مقال تحليليٌّ لزمرة "الأمس، واليوم، والغد"؛ انظر: ص:131 من هذا الكتاب.
[18] يقول الأستاذ: "إن كانت قلوبكم مع الحبيب المصطفى، وإن كنتم تنقشون نقوشه الجميلة في مشاعركم وعلى قلوبكم، فما أهمية 14 قرنا من الزمان؟!" (وعظ "اجتياز الزمن والمسافات"، الأستاذ فتح الله كولن، إزمير/تركيا، 25 مارس 1990).
[19] مفهوم "الكوة في نسيج الزمن" ليس مفهوما أدبيا خياليا، ولكنه مفهوم فلسفي، ولج عالم الفيزياء والكوسمولوجيا؛ مع نظرية "انحناء الزمكان"، ثم مع اكتشاف "الثقوب السوداء". ونقرأ في المصادر المتخصصة أنه: "في الوقت الحالي لا تمثل تلك المناقشات سوى أفكار تأملية فلسفية وليست علمية، فلم يسافر أحد إلى الماضي حتى الآن. ويؤيد ستيفن هوكنج العالم المشهور بأبحاثه عن الثقوب السوداء ونشأة الكون فكرة حدوث السفر إلى الماضي على المستوى الميكروسكوبي، ولكنه يرى أن احتمال أن يكون هناك انحناء في الزمكان يكفي لوجود آلة للزمان هو صفر".
[20] هذه هي الأطروحة العلمية، التي دافعت عنها في أطروحة الدكتوراه؛ وأجد امتدادا لها في هذا البحث، حول الأستاذ فتح الله كولن.
[21] مقال تحليليٌّ لزمرة "الليل والنهار"؛ انظر: ص:171 من هذا الكتاب.
[22] مقال تحليلي لزمرة "أجزاء اليوم"؛ انظر: ص:181 من هذا الكتاب.
[23] مقال تحليليٌّ لزمرة "الساعة وأجزائها"؛ انظر: ص:188 من هذا الكتاب.
[24] مقال تحليليٌّ لزمرة "السنة والفصول الأربعة"؛ انظر: ص:209 من هذا الكتاب.
[25] مقال تحليليٌّ لزمرة "اللانهاية"؛ انظر: ص:233 من هذا الكتاب.
[26] حول الزمن في الفكر العربي الإسلامي؛ انظر: الدكتور حسين جمعة، فكرة الزمن في الدراسات العربية.
[27] من الفلاسفة الذين قالوا بالزمن الموضوعي، نذكر: "آن نيكلسون وروبى بورتز". ومن علماء الفيزياء نذكر: "نيوتن، أينشتين وبرجسون وجاليليو واسحق باور". أما الذين ذهبوا إلى أنَّ الزمن ذاتي، لا وجود له خارج الذات: "كانط، وبردائيف، وولسون، وبوفان"، وكذا علماء النفس أمثال: "فرويد، وماتلاه". وانظر: كولن ولسون وجون جرانيت: فكرة الزمان عبر التاريخ؛ وولاء رشدي: إشكالية الزمان.
- تم الإنشاء في