مقدمة
أهداف المؤتمر وفكرته الأساسية
د. نادية محمود مصطفى
د. إبراهيـم البيــومي غانـم
د. بـاكـيــنـــــام الـشـــرقـاوي
موضوع الإصلاح في العالم الإسلامي هو واحد من أهم الموضوعات التي تشغل النخب الإسلامية؛ بل هو أهم ما شغلها على الإطلاق منذ قرنين -على الأقل- وما زال يشغلها إلى اليوم. وفي نظرنا أن كل جهد فكري في مسائل الإصلاح يكتسب مشروعية علمية وعملية في الوقت نفسه، خاصة إن جاء هذا الجهد بمنهجية مقارنة بين خبرات متنوعة على امتداد العالم الإسلامي؛ فالمقارنة تتيح فرصة كبيرة لاكتشاف القواسم المشتركة، والدروس المستفادة من هذه التجربة أو تلك، تكشف عن مواضع التشابه والاختلاف ودرجات النجاح والفشل وأسبابها في كل حالة. وكان من الأهمية بمكان تناول إحدى أهم حركات الإصلاح المعاصرة في الخبرة التركية التي أسسها المفكر الشيخ فتح الله كولن في مجال الإصلاح التربوي والتعليمي والثقافي؛ باعتبارها ذات حضور ممتد على صعيد العالم الإسلامي وخارجه خلال نصف القرن الأخير، وبات من الضروري طرح هذه الخبرة في إطار مقارن مع خبرات ورؤى أخرى في المجال الحضاري العربي الإسلامي، وهي وإن انطلقت جميعها من المرجعية الإسلامية إلا أنها تنوعت واختلفت من حيث الغايات والأهداف والوسائل.
إن التنوع في نماذج الإصلاح يعد من أبجديات "المرجعية الإسلامية" التي يؤمن بها رواد الإصلاح والتجديد، ويسترشدون بمبادئها في اجتهاداتهم، ويسعون للتجديد والنهوض بمجتمعاتهم في ضوئها. بهذا المعنى يمكن القول إن التعدد في إطار وحدة المرجعية ليس فقط مقبولاً؛ بل هو ضروري ولازم، وهو من مظاهر التعبير عن فهم الإسلام كنظام شامل. المنطلقات واحدة إلا أن تعدد جوانب الحياة والتنوع في المشكلات والقضايا وتغيرها من فترة لأخرى، ومن مكان إلى آخر؛ كل ذلك يقود إلى اختلاف الرؤى وتعدد برامج الإصلاح. هذا التنوع في الرؤى والبرامج الإصلاحية على أساس المرجعية الإسلامية؛ إنما يعبر عن أصل الأشياء، وينسجم مع حقائق الوقائع الاجتماعية والسياسية، ويعكس جوهر الفطرة الإنسانية التي تتأبى على التنميط والقولبة وتنزع دومًا للتنوع وتتآلف مع حقائق التعدد في الكون وفي معطيات الحياة الاجتماعية. وترحب المرجعية الإسلامية بجميع الاجتهادات التي تشتبك مع الواقع وتهدف لإصلاحه وتطويره.
وانطلاقًا من تنوع وتعدد نماذج الإصلاح المستندة للرؤية الإسلامية، يبرز سؤال رئيسي: ما مداخل التغيير المتنافسة في سبيل الإصلاح والنهضة في مجتمعات العالم الإسلامي المعاصر؟ وأين موضع حركة فتح الله كولن منها؟
تشير تجارب الإصلاح والتجديد على امتداد العالم الإسلامي المعاصر إلى وجود عدد من الرؤى الاجتهادية، كما تشير إلى أن كلاً منها له زاوية اهتمام رئيسية تختلف عن زاوية اهتمام الرؤى الأخرى، وله مزاياه وإنجازاته، كما أن له نواقصه وإخفاقاته. من هذه الرؤى ما يركز على أن الإصلاح يبدأ من أعلى، وأن إصلاح السلطة السياسية مقدم على الإصلاح الاجتماعي والتربوي، في مقابل رؤية أخرى تؤكد أن البداية الصحيحة يجب أن تكون من القاعدة الاجتماعية، ويجب أن ترتكز على التربية والتنشئة والتنمية الروحية والأخلاقية. وهناك رؤية يعتقد أصحابها أن الإصلاح رهن استخدام القوة الخشنة في مواجهة عوامل التأخر، وأسباب التدهور سواء كانت داخلية أم خارجية؛ أي إنه يجب أطر الناس على الإصلاح أطرًا، في مقابل رؤية أخرى يعتقد أصحابها أن الإصلاح لا يؤتي ثماره إلا بالوسائل السلمية التدريجية طويلة النفس. وهناك من يركز على إصلاح ما فسد من عقائد الناس، وهناك من يرى أن التركيز يجب أن يتجه إلى العلاقات والمعاملات والمؤسسات، وأن إصلاحها سيلقي بثماره على الجميع، وإن بنسب متفاوتة. هناك أيضًا من يصب جل اجتهاداته في مقاومة ضغوط الخارج التي تعوق النهضة والإصلاح، وهناك من يقول إن الأهم هو قهر عوامل التأخر الداخلية أولاً... وهكذا. وعلى أساس اختلاف وتباين الرؤى والاجتهادات، تشكلت حركات وجماعات ومؤسسات، واكتسب كل منها طابعًا يعكس بؤرة اهتمامه، ويوضح نقطة انطلاقه، ويؤشر على منهجيته في الاجتهاد، وجميعهم في إطار ما تتيحه المرجعية الإسلامية الشاملة. أما الحكم على صحة هذه الرؤية أو تلك وجدواها، أو أفضلية هذا الاجتهاد وصحته وصلاحيته على غيره، فهذا متروك للتجريب في الواقع، ولتقدير ما تنتجه هذه الرؤية أو تلك من مصالح، وما تدفعه من مفاسد. وفي جميع الحالات يظل السؤال الأساسي مطروحًا وهو: لماذا يعلوُ بعدٌ من أبعاد الإصلاح على غيره لدى بعض الإصلاحيين، ويحتل تحركه قمة أولوياته؟ هل هذا اختيار قائم على نمط الاستجابة للتحدي -أهي مقتضيات الظرف- أم إنها من منطلق الاختيار الاجتهادي؟ أم نتيجة عوامل متعددة لما تفرضه هذه العوامل من أولويات للعمل، ولما يحف بها من أسباب النجاح والفشل؟
إن تشخيص الوضع الراهن المعاصر للمجتمعات والنظم العربية والإسلامية يبين كيف أن جهود الإصلاح والتجديد تعاني ضعف الانسجام والتنسيق بين المداخل الأساسية للإصلاح في العالم الإسلامي: المدخل السياسي، والمدخل التربوي-الاجتماعي، ناهيك بالطبع عن المدخل العقدي. ومن ثم، فإن البحث في تفسير هذه الظاهرة (أي عدم الانسجام بين هذه المداخل) والبحث في النماذج التي تجاوزت هذا الوضع أضحى أمرًا ملحًا، وتتضح هنا دلالة اختيار نموذج حركة الشيخ فتح الله كولن للرصد والدراسة.
وفي هذا السياق، كان اقتراب الإصلاح والتجديد في المجال الحضاري العربي والإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين هو المنطلق لعرض وتحليل فكر فتح الله كولن وخبرة حركته -داخليًا وخارجيًا- مقارنة بخبرات ورؤى إصلاحية أخرى في العالمين العربي والاسلامي. وهذا الاقتراب يعكس فكرة أساسية عن ضرورة دراسة الإشكاليات التي تثور أمام المهتمين بفكر وحركة رواد الإصلاح والتجديد الإسلامي بصفة عامة وفكر وحركة فتح الله كولن بصفة خاصة، سواء في إطارها التركي أو الإسلامي أو العالمي.
تتناول أعمال هذا الكتاب إشكاليتين أساسيتين هما:
الإشكالية الأولى عن العلاقة بين الفكر والحركة السياسية. هناك نمط شائع يحتل الأضواء هو ذاك الذي يتجه نحو الحركة السياسية المباشرة، وهناك من الفكر ما يقتصر على المجال الحركي الدعوي أو التربوي أو الاجتماعي. ومن هنا نلحظ ما يذاع من معايير التمييز بين رواد الإصلاح والتجديد، وأيضًا بين الحركات والتيارات الإسلامية على نحو يخلق استقطابًا ثنائيًّا مصطنعًا بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي في حركات وتيارات الإصلاح. ومن ثم، تبقى إشكالية مهمة مطروحة وهي طبيعة العلاقة بين أركان أو أبعاد الإصلاح المختلفة (هل هي تراتبية أم شرطية). أما كيف تتحول طاقة المشروع الفكري إلى قوة حركة للتغيير الحضاري، وليس السياسي فقط، فهذا هو الحاضر الغائب في كل جهود الإصلاح الإسلامي عبر القرنين الماضيين، أو على الأقل هذا هو الحاضر الغائب في القراءات المقدمة عن هذه الحركات والتيارات وعن مآلها حتى الآن. ولعلنا نستطيع أن نقول أيضًا إن من أهم ملامح التوافق بين الأدبيات التي قوَّمت جهود الإصلاح والتغيير من أجل النهوض، والتي تعاقبت عبر قرنين، هو عدم تحول المشروع الفكري إلى برامج وخطط حركة، بل وإلى مؤسسات تقوم بأدوار متكاملة في مجالات مترابطة تُشكِّل في مجموعها المنظومة الحضارية ابتداءً من منظومة قيم التربية والتعليم والثقافة والاقتصاد والإعلام والسياسة وصولاً إلى الهياكل والمؤسسات التي تهتدي بهذه المنظومات في برامج حركتها. فكيفية تحويل الفكر إلى مشروع وترجمة الرؤية إلى برنامج إجرائي عملياتي قابل للتنفيذ على أرض الواقع يمثل جانبًا في غاية الأهمية تفتقده كثير من حركات الإصلاح في عالمنا الإسلامي، ويبقيها حبيسة الطموحات والآمال.
وإذا كان الخبرة التركية مع فتح الله كولن تبدو أنها تقدم نموذجًا عن كيفية ملء هذه المنطقة الوسطى غير المملوءة عادة في مشروعات إصلاحية سابقة أو راهنة، ألا وهي المنطقة الوسطى بين الفكر التربوي وبين الحركة الاجتماعية وصولاً إلى الحركة السياسية، بعبارة أخرى، المنطقة الوسطى بين تربية الفرد ومنه إلى المجتمع ومنه إلى السياسة، فكيف تتحقق هذه العملية؟ وما شروطها؟ فبدون ادعاء، بل مع تأكيد عدم الارتباط بالسياسة، فكيف كان لحركة الإصلاح التربوية الحديثة في تركيا مردود اجتماعي واقتصادي وسياسي؟
الإشكالية الثانية عن العلاقة بين عالمية الرسالة الإسلامية وإنسانيتها وبين خصوصيتها: فإلى أي حد اتجهت جهود واجتهادات رواد الإصلاح إلى ما هو أبعد من مجرد الإصلاح الديني أو الفقهي إلى الإصلاح المجتمعي بل وإلى الإصلاح العالمي؛ أي إصلاح حال الإنسانية باعتبار أن المسلمين جزءً منها، وإن اختلف بالطبع مفهوم الإنسانية من فلسفة حضارية إلى أخرى. بعبارة أخرى، ما الامتدادات الخارجية لمشروعات الإصلاح الإسلامية، التي تأسست في أطر وطنية وإقليمية محددة، وما غايات وأهداف وآليات وأدوات هذا الامتداد، وهل اقتصرت على المناطق الإسلامية ومشكلاتها فقط؟ فالإصلاح في المرحلة الراهنة من تطور المجتمعات العربية والإسلامية يواجه تحديات خارجية بحيث لا تنفصل معطياته الداخلية (الوطنية) عن هذه التحديات. فكيف يؤثر إدراك هذه التحديات على كيفية تحقيق، أو عدم تحقيق، الانسجام بين المداخل المختلفة للإصلاح؟ بعبارة أخرى، ما الامتدادات نحو "البيني على صعيد الأمة"، ونحو الخارجي على الصعيد الإنساني العالمي؟
إذا كانت الأدبيات التي تزخر بها الساحة الأكاديمية والفكرية عن رواد وتيارات الإصلاح الراهنة والسابقة في العالم الإسلامي قد اجتهدت لتصنيف هذه الجهود ودراسة محتوى ومضمون أفكار رموزها، فهل تمثل الإشكاليتان السابقتان جديدًا في هذا المجال؟ خاصةً من حيث تعديلهما الخطوط الفاصلة بين الفكر والمجتمع والسياسة. وهذا ملمح من ملامح الدراسات الحضارية من مدخل العلوم السياسية، فهي ليست بالدراسات السياسية التقليدية أو الاجتماعية التقليدية أو الفلسفية والفكرية التقليدية. وتمثل حركة الخبرة التركية في ظل تأثيرات حركة فتح الله كولن وفكره ساحة أساسية لإختبار هاتين الإشكاليتين مقارنةً بالرؤى والخبرات الإصلاحية الأخرى.
إذا ألقينا نظرة عامة على بعض بلدان العالم الإسلامي المعاصر سنجد أن لكل منطقة، وأحيانًا لكل دولة، سمات خاصة، وظروف معينة تجعلها مختلفة عن غيرها. "تركيا الحديثة" -على سبيل المثال- لها أكثر من خصوصية ناجمة عن ظروف انتقالها من دولة كبرى إلى دولة هامشية في النظام الدولي إلى دولة إقليمية كبرى ودولية صاعدة، ومن إرث عثماني إسلامي إلى توجه علماني تغريبي إلى إصلاح ديموقراطى متنامٍ، وقد فرضت هذه الخصوصيات تحديات مختلفة على حركات الإصلاح الإسلامية التركية، وقدمت في إطارها بدائل متميزة ومسارات لها خصوصيتها تجعل من التركيز على الحالة التركية ليس فقط عامل إثراء للأطروحات الإصلاحية في العالم الإسلامي، بل أيضًا خبرة كاشفة ومفسرة لمحددات الفعالية وعناصر الديناميكية المفقودة في كثير من الخبرات المناظرة في الدائرة الحضارية الإسلامية. ومن ثم فإن البحث في الخبرة التركية، التي تقدمها حركة الشيخ والمفكر فتح الله كولن داخل تركيا، وبامتداداتها إلى خارجها، لن تحقق أهدافها بدون وضعها في سياق وإطار أوسع يتضمن حالات مقارنة تختلف من حيث سياقها الخارجي ومن حيث سياقها الداخلي، ومن حيث إنجازاتها الداخلية والخارجية مقارنةً بما حققه الصعود التركي خلال العقدين الماضيين، وما حاق بتوجه السياسات الداخلية والخارجية التركية من تطورات. وجميعها دفعت للتساؤل عن طبيعة وماهية رؤية هذا النموذج للإصلاح من منطلقات إسلامية.
ومن ناحية أخرى، اكتسبت حركة الشيخ فتح الله كولن دلالاتها الواضحة بسبب تميزها في معالجة الإشكاليتين الرئيسيتين لعملية الإصلاح في العالم الإسلامي -السابق ذكرهما-، فهناك سمتان رئيسيتان لها يميزانها عن غالبية حركات الإصلاح في العالم الإسلامي:
أولاً: القدرة على مأسسة الفكر وإكسابه حركية فعالة على أرض الواقع، وينطلق فكر كولن وحركته من منطلقات رئيسية مهمة ساعدته على الفاعلية بدون صدام مع محيطها سواء المحلي أو الخارجي. فمن ناحية، ينطلق كولن من الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، وكأنه انطلق من الخاص للتأثير في العام، بدلاً من المحاولات المضنية للربط بين العام والخاص أو الفصل بينهما. فالهدف ليس السيطرة على العام؛ بل التأثير عليه من منطلق بناء مواطن صالح. لقد ساد الإدراك بأهمية تفعيل القيم في الواقع الاجتماعي وفي تطويره. الأمر الذي يفسر اختيار الحركة للتعليم لبناء الإنسان وتربيته على القيم الإسلامية لتحقيق "مهمة التبليغ"، التي يعتبرها الشيخ كولن المهمة الأساسية لكل مسلم في الحياة. وارتباطًا بذلك فهي حركة من المجتمع وإلى المجتمع؛ بخلاف حركات أخرى إما موجهة من المجتمع ولكن إلى تغيير الدولة، أو العكس من الدولة لتغيير المجتمع (أو داخل الدولة). لقد مَثل المجتمع محور اهتمام حركة الشيخ فتح الله كولن، فمنه وإليه تحركت ونشطت. وهو الأمر الذي يعد مصدر قوة واستمرارية وفق رؤية تصالحية غير تصادمية.
وثانيًا: القدرة على التجسير بين الثنائيات بتبنى خطاب تصالحي توافقي يتخطي ويتجاوز الصراعات والاستقطابات الفكرية والسياسية والمجتمعية. وارتبط ذلك بتقديم نظرة تصالحية ترى أبعاد التكامل بين هذه الثنائيات، وتسعى لمعالجة التناقضات إن وجدت بتدرج وسلاسة وعقلانية. الأمر الذي سمح لها بلعب أدوارًا إيجابيًا في مجالات حضارية أخرى غير إسلامية مثل الحضارة الغربية. وتعد الامتدادات الخارجية للحركة أكثر بروزًا من النطاق التركي للحركة، إلا فيما يتصل بالإطار السياسي والاجتماعي التركي -الحديث وفي جذوره التاريخية- الذي يفسر ظهور ونجاح هذه الحركة، باعتبارها حركة اجتماعية مدنية إصلاحية ذات مرجعية إسلامية. لقد اتجهت ابتداء إلى الفضاء التركماني والفضاء الآسيوي للإسلام والفضاء الغربي وذلك قبل الاتجاه -مؤخرًا- إلى الفضاء العربي/الإسلامي. وتنطلق جهود الشيخ كولن من الثوابت الجامعة؛ ليس فقط بين المسلمين، ولكن أيضًا بين البشر ككل، مستثمرًا الجامعية الإنسانية، التي لا تفرض رؤية أحادية جامدة، ولا تحصر ذاتها في التعامل مع المتغيرات والمشكلات الجزئية. وهكذا كان البحث عن المشترك مع الغرب مقدمًا على إعلاء المختلف حوله. لقد استطاعت حركة الشيخ كولن أن تستثمر العولمة بدلاً من الاكتفاء بنقدها. وأكدت تجربته أن أحد أهم عناصر حسن قراءة العصر هو استثمار الأبعاد الإيجابية للعولمة التي تساند ولو نظريًا دعوات حقوق الإنسان والحريات وغيرها من قيم إنسانية جامعة تصلح مدخلاً للتواجد والتأثير على الساحة العالمية.
لعل أهم ما يميز هذه الحركة أنها تنطلق من نماذج ذاتية تعمد إلى تفعيل مكونات الذات الداخلية، فهي "حركة نماذجها من ذاتها" التي تجعل من المدرس والتاجر والداعية نماذج حية للقدوة. وفي هذا الإطار قام الشيخ فتح الله بتطوير مفهوم الخدمة وتوظيفه في تعميق رأس المال الاجتماعي من أجل مكافحة الجهل والفقر والفرقة، وتبنى لذلك نظرة شمولية تنموية تهدف إلى تنمية القدرات، في إطار نظرة تنموية طويلة المدى.
ويسعى المشاركون في هذا العمل إلى تقديم إجابات عن تساؤلات عديدة: ماذا قدمت حركة كولن على مستوى قضايا العالم الإسلامي؟ سواء تلك القضايا القديمة المعاد طرحها بالرغم من أن الزمن تجاوزها -مثل العلاقة مع الغرب والحكم وشرعيته-؛ أو القضايا الجديدة مثل الديموقراطية، المواطنة، الإرهاب، التعددية الدينية والثقافية، اندماج المسلمين في الغرب والعلاقة بين الديني والسياسي؟ لماذا نجحت حركة كولن في التواصل إيجابيًا مع الغرب سواء بالتأثير أو جذب الاهتمام أكثر من أي حركة إصلاحية أخرى أتت من العالم الإسلامي؟ وما أوجه المقارنة بين الفعل على الساحة الدولية والتحرك على الساحة المحلية التركية؟ كيف استطاعت الهياكل المؤسسية ترجمة الفكر إلى حركة وأداء على أرض الواقع؟ وهل تساوت مجالات الحركة (سواء التعليم، أو محاربة الفقر أو الحوار مع الآخر) في قوة التحرك وكثافة الجهود؟ وهل تزامنت هذه المجالات في تقدمها؟ وكيف ارتبطت ببعضها البعض؟
تقدم المحاضرتان، الافتتاحية والختامية، إسهامات بالغة الأهمية؛ لكونها تعرضا لرؤى عالمين جليلين: الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والمستشار طارق البشري. وفي الأولى ناقش الدكتور الطيب العقبات الرئيسية التي تعيق عملية الإصلاح، بينما تعرض المستشار البشري في الثانية للآفاق المستقبلية لعملية الإصلاح في العالم الإسلامي. في حين ينقسم الكتاب إلى أربعة محاور رئيسية:
المحور الأول: الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي، وهو إطار تمهيدي نظري عام، وفيه يتم تناول شبكة المفاهيم الرئيسية التي تنطلق منها رؤى الإصلاح، مع رسم خريطة أنماط خبرات الإصلاح الإسلامي، على نحو يساعد على فهم الفروق بين المفاهيم السيارة في الدراسات عن العلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع، وجميعها مفاهيم واصفة وشارحة لمداخل فهم اتجاهات التجديد والإصلاح التي انطلقت من المرجعية الإسلامية في التاريخ الحديث والمعاصر للعالم الإسلامي. ويحاول هذا المحور استقراء الخريطة الإجمالية للاجتهادات التي قدمها رواد الإصلاح والتجديد وإشكالاتها بامتداد جغرافية العالم الإسلامي.
المحور الثاني: فتح الله كولن: الشيخ والخدمة، وفيه يتم التعرف على معالم سيرة الشيخ فتح الله كولن وملامح فكره ورؤيته، مع الإشارة إلى خبرة الحركات الإصلاحية في تركيا وموقع الإسلام منها. وتقوم الدراسات والمناقشات على الكشف عن دلالات مفهوم الخدمة، وهو مفهوم محوري عاكس لمرتكزات الفعالية في توجهات وفكر حركة الشيخ فتح الله كولن الإصلاحية.
المحور الثالث: مجالات العمل وخبرات الممارسة من المحلية إلى العالمية، وهو الجزء العارض لمحاور نشاط حركة الشيخ فتح الله كولن، والتي تتمحور حول ثلاثة مجالات رئيسية للعمل: التعليم والحوار ومقاومة الفقر. وجمعيها أنشطة تصب في مواجهة وعلاج ما يعتبره الشيخ فتح الله كولن بمثابة الآفات الرئيسية التي يعانيها العالم الإسلامي وتعيق تقدمه ونهضته، وهي: الجهل والفرقة والفقر.
المحور الرابع: شهادات من واقع التعرف على الفكر والخدمة، وهو المحور الذي يعرض لشهادات واقعية حية ترصد الحركة في حركتها ورؤية الشيخ كولن حال تطبيقها على أرض الواقع، وذلك لتقديم صورة تعكس مدى العلاقة بين الفكر والتطبيق والرؤى والتنفيذ، من أجل تبيان قدرة حركة الشيخ فتح الله كولن الإصلاحية على تجسير الفجوة بين النظري والعملي، وهي المشكلة الرئيسية التي عانت وتعاني منها معظم -إن لم يكن جميع- حركات الإصلاح في العالم الإسلامي.
- تم الإنشاء في