التقرير الختامي : قضايا ورؤى فكرية نحو المستقبل
سيظل الجدل الفكري يدور حول مناهج الإصلاح وقضايا التجديد في عالمنا الإسلامي إلى أن تصل الجهود المبذولة في هذا الميدان إلى غايتها المنشودة. صحيح أن وراءنا قرنين من الزمان حفلا بكثير من الاجتهادات والتجارب الإصلاحية الفكرية والحركية؛ إلا أن الواقع يشير إلى أن مجتمعات أمتنا الإسلامية لا تزال تكافح من أجل الخروج من أسر الجمود والتأخر، ومن آثار الاستعمار والقابلية للاستعمار، وتعاني أيضًا مما جره هذا وذاك من ويلات سياسية واقتصادية واجتماعية. ومن هنا يكتسب كل جهد فكري في مسائل الإصلاح مشروعية علمية وعملية. وتكتسب هذه المشروعية قوة مضافة إن جاء هذا الجهد بمنهجية مقارنة بين خبرات متنوعة على امتداد العالم الإسلامي؛ فالمقارنة تتيح فرصة كبيرة لاكتشاف القواسم المشتركة، والدروس المستفادة من هذه التجربة أو تلك، وتمهد الطريق للانتفاع من تلك الدروس والخبرات.
إن المعرفة والفهم يكونان أوضح في سياق المقارنة. والمقارنة بدورها تكشف عن مواضع التشابه والاختلاف ودرجات النجاح والفشل وأسبابها في كل حالة. وقد كان هذا المؤتمر فرصة للتعرف على كيفية استقبال العقلية العربية لتجربة حركة الشيخ فتح الله كولن، خاصة وأن جميع المؤتمرات المماثلة السابقة انعقدت في الغرب عارضة لرؤى غربية بالأساس.
وإيمانًا بأهمية المنهجية المقارنة والرؤية المستقبلية في تناول قضايا الإصلاح في العالم الإسلامي، جاء هذا المؤتمر في استضافة الجامعة العربية؛ الذي يعتبر هو الأول من نوعه على أرض عربية ليتناول خبرة الشيخ فتح الله كولن التركية بالتحليل والمقارنة والنظر المستقبلي.
شارك في المؤتمر جمع متميز من العلماء والمفكرين والباحثين الذين أتوا من بلدان عربية وإسلامية وبلدان أخرى أوربية وأمريكية وأفريقية، وقد ناقشوا مستقبل عملية الاصطلاح في عالمنا الإسلامي بأبعادها المختلفة مقارنة بـ "خبرة تركية" معاصرة يقودها الشيخ فتح الله كولن.
وكان الحضور المكثف على مدى ثلاثة أيام أمرًا ملفتًا للنظر، وخاصة أن أغلبية المؤتمرات العلمية لا تشهد إقبالاً كبيرًا لا من طلبة الجامعات ولا من الباحثين أو المهتمين بشئون الفكر والإصلاح. فقد احتشد كثيرون من هؤلاء وأولئك ولتسعهم أكبر قاعات جامعة الدول العربية، إضافة إلى عدد كبير من رجال الإعلام المرئي والمقروء. وقد بلغ عدد الحضور خمسمائة فرد يوميًا تقريبًا. وهو رقم كبير قلما توافر لمؤتمر علمي أكاديمي. كما حضر المؤتمر حوالي مائتين من الأكاديميين والطلبة والمفكرين من أكثر من عشر دول غطت معظم قارات العالم، وبلغ عدد المشاركين سواء بالبحث أو التعقيب أو رئاسة الجلسات ثمانية وثلاثين مشاركًا، قدموا من دول عربية وغربية. الأمر الذي جعل المؤتمر حدثًا دوليًا بحق، جمع مشاركين من حوالي عشرين دولة في مكان واحد ليناقشوا أربعة عشر بحثًا غطت الأوجه المختلفة لحركة فتح الله كولن الإصلاحية من منظور مقارن ومستقبلي.
وقد اتضح من خلال المناقشات والتعقيبات التي تلت كل جلسة من جلسات المؤتمر أن ثمة نقصًا كبيرًا في المعرفة بما يجري في تركيا عامة، وبحركات وجهود الإصلاح الإسلامي هناك خاصة. وحفلت أروقة المؤتمر بالحوارات المستفيضة والعميقة لاستجلاء أبعاد الخبرة التركية وإمكانيات وحدود الاستفادة منها.
دارت المناقشات في اليوم الأول من المؤتمر عن حركات الإصلاح في العالم الإسلامي خلال النصف الثاني من القرن العشرين؛ من حيث أنماطها، ومساراتها، ومآلاتها، في محاولة لتبيان موقع حركة كولن في إطارها الحضاري الإسلامي الأوسع.
كشفت المناقشات الثرية بين المشاركين في المؤتمر عن أهمية قيمة المكون الإيماني وتفعيله في الحكم على عملية الإصلاح من واقع تجربة الشيخ فتح الله كولن داخل تركيا وخارجها. حتى إن مصطلحات مثل مرضاة الله، وإنكار الذات، والأخلاق، والإيمان، وغيرها من المصطلحات التي تعبر عن البعد القيمي بدت أدوات أساسية في تحليل ودراسة تجربة الشيخ، ومحاولة البحث عن سبب نجاحها فيما فشلت فيه كثير من الحركات الإصلاحية الأخرى في العالم الإسلامي.
كشفت البحوث والمناقشات أيضًا عن أن ثمة منهجية جديدة يجب اتباعها في دراسة العملية الإصلاحية، وأن هذه المنهجية ترتكز على مبادىء وقيم المرجعية الإسلامية، وتستمد منها أدوات للبحث العلمي المنضبط. وقد أكد أغلب المشاركين على أهمية رد الاعتبار للبعد الروحي والإيماني عند تحليل الواقع ورصد محاولات تغييره، وتم إلقاء الضوء على وظيفية الإيمان في المجتمع وفي إصلاحه؛ أي باختصار إدراك أهمية تفعيل القيم في الواقع الاجتماعي وفي تطويره.
أثارت خبرة الشيخ فتح الله كولن كثيرًا من المقارنات مع حركات الإصلاح المختلفة في العالم الإسلامي (خاصة تلك التي بزغت خلال النصف الثاني من القرن العشرين). وتناول المشاركون الإشكاليات الكبرى التي عادة ما تصاحب عملية الإصلاح. ويمكن لنا تقسيم اتجاهات ومسارات النقاش في المؤتمر إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: أولها يعرض لمحاور المقارنة بين حركة الشيخ كولن وغيرها من حركات الإصلاح في العالم الإسلامي. ثانيها يتناول نظرة كلية شاملة لماهية هذه الحركة: فكرها وتوجهها، زعيمها ومجالات عملها، ثم ثالثها أوجه الاستفادة الممكنة من هذه التجربة في واقعنا العربي والإسلامي.
أولاً- موقع حركة كولن على خريطة حركات الإصلاح الإسلامي: نظرة مقارنة
ركزت معظم المداخلات على بعدين رئيسيين ميزا حركة الشيخ فتح الله كولن عن غالبية حركات الإصلاح في العالم الإسلامي: البعد الأول هو القدرة على مأسسة الفكر وإكسابه حركية فعالة على أرض الواقع، والبعد الثاني هو القدرة على التجسير بين الثنائيات بتبنى خطاب تصالحي توافقي يتخطى ويتجاوز الصراعات والاستقطابات الفكرية والسياسية والمجتمعية.
1) أهم ما أثار النقاشات فيما بين الحضور كان البعد الحركي والمؤسسي لتجربة كولن؛ فمع تعدد نظريات الإصلاح الإسلامية وتشابهها إلا أنها ظلت في بعض الحالات دون تفعيل، أو أنها آلت إلى الفشل في بعض الحالات الأخرى، من هنا كان نجاح الشيخ كولن في الربط بين الفكر الحركة مثارًا لإعجاب الجميع. وترددت بكثرة كلمات مثل التفعيل والفعالية والحركية الفكرية، وهي تدل في مجملها وبوضوح على عطش عربي للفعالية والحركة، كما تؤكد على أهمية وجدوى المبادرة والتخلي عن حالة العجز التي تصيب كثيرًا من محاولات الإصلاح الأخرى.
تتميز تجربة كولن أيضًا بحركيتها وفعاليتها الغائبة عن معظم الخبرات العربية المماثلة. فإلى جانب أهمية الفكر هناك أهمية الفعل أيضًا، وكما يقولون فإن "لسان الحال يتقدم على لسان المقال" وهو ما أكد د. مصطفى أوزجان، وهو من أبرز تلامذة ومساعدي الشيخ فتح الله.
كشفت بحوث المؤتمر والمناقشات حولها أيضًا عن أن أحد أسرار نجاح تجربة الشيخ فتح الله هو أنها تجاوزت حالة الاستقطاب المزمن بين طرفي النقيض: العلمانية السلبية، والسلفية السلبية؛ وذلك من خلال الدفع بتجربة وسطية فكرًا وحركة؛ لم تؤد فيها البراجماتية إلى التخلي عن الثوابت، بل أدت إلى الأخذ بأساليب مبتكرة لتحقيق أهداف غير خلافية وجامعة. وبالرغم من الأداء القوى في تفعيل القيم الإسلامية على أرض الواقع، إلا أن الشكل المؤسسي أو عنوان الحركة وشعاراتها لم يكن أول اهتماماتها. بل على العكس من ذلك؛ حيث نجد أن تجربة الشيخ لم تعتمد على هيكل مؤسسي واضح، وليس لها سلطة مركزية واحدة، ولكنها تنتهج مبدأ التنوع في مؤسساتها في مختلف المجالات على نحو متكامل.
"الخدمة" -بالمعنى الذي يقصده الشيخ فتح الله- شبكة مؤسسية متكاملة تعمل بكفاءة عالية. وفي حين تعاني بعض حركات الإصلاح من اتساع الهوة بين ما تقوله وتدعو إليه من جهة، وما تفعله وتطبقه فعلاً من جهة أخرى، نجد أن تجربة كولن تميزت بقدرتها على ترجمة الأفكار إلى واقع، انطلاقًا من قرءاة واعية للواقع من أجل تغييره تدريجيًا ودون تصادم معه. ومن هنا جاءت حركية الفكر. إن أغلب مشاريع الإصلاح حملت أفكارًا كبرى متفق عليها، إلا أنها ظلت غير مطبقة لسبب أو لآخر، أو أن محاولات تطبيقها باءت بالإخفاق. فالأفكار ليست جديدة ولكن الفعل جديد، وخاصة أن أهم مشاكل الإصلاح في العالم الإسلامي تظل في الحركة والتنظيم وليس في الفكر. فالانطلاق جاء من معطيات الواقع وربطها بالفكر في علاقة تفاعلية دائمة.
2) عند النظر في كثير من مداخلات المشاركين العرب والمصريين في جلسات المؤتمر، يمكن ملاحظة هيمنة إشكالية الثنائيات: الثابت والمتغير. العام والخاص. الكل والجزء. الشرق والغرب. الروحي والجسدي. العقل والقلب. العلماني والإسلامي. وفي المقابل فإن حركة كولن قامت على مبدأ تجسير هذه الثنائيات، مراعية في ذلك السنن التشريعية والسنن الكونية، فكلاهما مهم لتحفيز الفعالية داخل الإنسان وجدانًا وعقلاً. فالنظرة الأحادية والتحيز لاتجاه دون الآخر كانت أهم إشكاليات بعض الحركات الإصلاحية الإسلامية على تنوعها، وقد أظهرت حركة كولن قدرة كبيرة على تخطى هذه الثنائيات والموازنة بينها بتبني نظرة تصالحية ترى أبعاد التكامل بين هذه الثنائيات، وتسعى لمعالجة التناقضات إن وجدت بتدرج وسلاسة وعقلانية. وساعد كولن على ذلك عدة أمور هامة:
- انطلاقه من الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، وكأنه انطلق من الخاص للتأثير في العام -بدلاً من المحاولات المضنية للربط بين العام والخاص أو الفصل بينهما- فالهدف ليس السيطرة على العام؛ بل التأثير عليه من منطلق بناء مواطن صالح، حيث غاب التغيير من فوق كخيار أول. هذا على عكس بعض الحركات الإصلاحية الإسلامية التي استهدفت أول ما استهدفت المجال العام بهدف السيطرة عليه، وثبت صعوبة ذلك لكثرة التحديات على هذا المستوى الفوقي والكلى (النظم الكلية) وكان الاهتمام بها يأتي في أغلب الحالات على حساب بناء المواطن.
وبخلاف خبرتنا العربية القائمة على صناعة البطل (الفرد/القائد) حتى لو جاءت وهمية، اتجهت حركة كولن لبناء الإنسان وتربيته من خلال فكرة المثل الأعلى الذي وجده الشيخ كولن في الرسول وفي "جيل الصحابة" الكرام.
يبدأ الإصلاح عند كولن من الفرد الذي يجب أن يتربي وفق منهجية تجعله مفيدًا لحضارته وللإنسانية جمعاء. وهكذا انطلقت الحركة من الفرد لبناء الجماعة، فهي حركة إصلاحية موجهة للمجتمع في المقام الأول. نواتها البدء بالإنسان، ومنهجها إصلاح تربيته. وأمام الخلط بين مشاريع الإصلاح الكلية والجزئية اتجهت حركة كولن للبدء بالتعليم كمجال حيوي من شأنه أن يؤثر في كل المجالات الأخرى ؛ من منطلق رؤية إصلاحية شاملة. فالهدف الأهم هو بناء مجتمع إسلامي على المدى الطويل. هي حركة من المجتمع وإلى المجتمع؛ بخلاف حركات أخرى إما موجهة من المجتمع ولكن إلى تغيير الدولة، أو العكس من الدولة لتغيير المجتمع (أو في داخل الدولة). إذا ما تجاوزنا المعنى الضيق للسياسة الذي يربطها بالسلطة والقوة وانطلقنا إلى المعنى الأشمل الذي ينقلنا إلى مفهوم صلاح الناس وتحقيق مصلحتهم، نجدها عملية تغيير سياسي عبر عملية تغيير اجتماعي وثقافي ممتدة.
- لا يهتم كولن أو حركته بالبعد السياسي المباشر للإصلاح، فالهدف ليس تغيير مؤسسات الدولة بل التأثير فيها على المدى الطويل من خلال بناء "مواطن جديد"، وبشكل تدريجي غير تصادمي. وعليه فإن من الخطأ ربط الخبرة الإصلاحية الإسلامية بالعمل الحزبي وحده، والحالة التركية تقدم لنا دليلاً على ذلك؛ حيث إن فك الارتباط بين العمل الحزبي، والعمل الإصلاحي الدعوي والاجتماعي؛ أفاد عملية الإصلاح. هذا إضافة إلى أن للصوفية في تركيا تأثيرًا أكبر من الأحزاب السياسية، وخاصة في نشر الوعي والتأثير في تكوين المواطن. وبالرغم من تكامل أبعاد الإصلاح وتداخلها، إلا أن خبرة كولن أبرزت البدء بالتركيز على بعد واحد تربوي مجتمعي (على الأقل في بداية عملية الإصلاح).
- تنطلق جهود الشيخ كولن من الثوابت الجامعة؛ ليس فقط بين المسلمين، ولكن أيضًا بين البشر ككل، مستثمرًا الجامعية الإنسانية، التي لا تفرض رؤية أحادية جامدة، ولا تحصر ذاتها في التعامل مع المتغيرات والمشاكل الجزئية. وهكذا كان البحث عن المشترك مع الغرب مقدم على إعلاء المختلف حوله. وقد جاء اتجاهه للغرب من قناعة إيمانية بعالمية رسالة الإسلام، باحثاً عن عناصر الاتصال وليس عوامل الانفصال. وأمام دعاوى الحفاظ على الهوية المتكررة في العالم العربي، والتي باتت هما رئيسيًا لكثير من حركات وجهود الإصلاح، كانت مساعي بناء الهوية المشتركة هم كولن وحركته، وخاصة عند تناوله إشكالية اندماج المسلمين في الغرب. حيث نجده قد تخطى الاختلاف مع الغرب إلى البحث عن سبل تفعيل المشترك معه.
ولعل الخصوصية التركية تتجلى هنا، ففي إطار دولة علمانية ربطت بين العلمانية والتغريب من جانب والتقدم والإصلاح من جانب آخر ولعقود طويلة ، كانت عملية إعادة بناء الهوية المشتركة في الداخل التركي ضرورة ومنطلقا للانفتاح على الغرب عقلا وروحًا: عقلا من خلال الاستفادة من تجاربه وتقدمه المادي، وروحًا من خلال الوفاء بمهمة المسلم تجاه الإنسانية ككل. ومن ناحية أخرى، لم يكتف بالدعوة إلى الاستفادة من علوم الغرب فقط، بل قدم إسهامات في تعريف وتطوير بعض مفاهيمه الاجتماعية والسياسية الرئيسية. وساعده على ذلك استيعابه لفكر الغرب وعقده مقارنات مع المفكرين الغربيين، دون التخلي عن ثوابت الهوية الإسلامية أو معالمها الرئيسية.
وفي إطار النظرة الشمولية لعلاقة الإنسان بالله والكون، بحث الشيخ فتح الله كولن عن مرجعية وسطى جامعة لكل الروافد الفكرية، ليس فقط فيما بين المسلمين، بل بينهم وبين الغرب؛ خاصة وأن كثيرًا من الدول الإسلامية والمسلمين باتوا متأثرين بالغرب ومنظومته الفكرية والسياسية. وقد تخطى الشيخ موقف التشكك من الغرب، إلى محاولة الدخول إليه والتأثير فيه مخاطبا همومه ومخاوفه.
وفي ضوء تلك الرؤية، استطاعت حركة الشيخ كولن أن تستثمر العولمة بدلا من الاكتفاء بنقدها. وأكدت تجربته على أن أحد أهم عناصر حسن قراءة العصر هو استثمار الأبعاد الإيجابية للعولمة. وأحسنت الحركة أيضًا استغلال مقتضيات المرحلة الراهنة والاستفادة من معطياتها التي تساند دعوات حقوق الإنسان والحريات وغيرها من قيم إنسانية جامعة تصلح مدخلا للتواجد والتأثير على الساحة العالمية. ويمكن القول بصفة عامة أن الشيخ قد تبنى موقفًا أقل تشككًا تجاه الغرب وأكثر انفتاحًا عليه مقارنة بمعظم المشاريع الإصلاحية الإسلامية الأخرى. فمع الانتباه إلى خطورة المادية الغربية؛ لم يبالغ الشيخ في الهجوم عليها، بل أبرز احتياجها لروحانية الشرق. فالإنسانية كما يرى في أمس الحاجة إلى الإسلام، ولكن الإسلام في أمس الحاجة لمن يمثله تمثيلاً صحيحًا.
- إيجابية الفكر والحركة، بمعنى عدم الوقوف عند نقد الآخرين وتفنيد سلبياتهم، بل الاهتمام بطرح الحلول والبدائل التي يمكن تطبيقها في ظل قيود الواقع ومعطياته الفعلية. ومن هنا اعتمدت الحركة سياسة تقوم على أن "تقديم البدائل أهم من انتقاد النواقص"، وأن "إضافة طريق جديد أجدى من المزاحمة على الطرق القديمة". وبذلك تم تلافى الدخول في صراعات ومنافسات تهدر الجهد وتزيد العوائق. إنها إستراتيجية خلق الفرص البديلة أو الجديدة، وتقديم حلول غير تقليدية بهدف تخفيف التوتر مع المناوئين.
إن نجاح حركة الشيخ كولن لا يعنى أنها لم تواجه عقبات في طريقها، بل يعنى القدرة على مواجهتها بالأسلوب المناسب، وعلى نحو إيجابي، وبرؤية مستقبلية.
ثانيًا: حركة "نماذجها من ذاتها": نظرة كلية
كان الوصول إلى تعريف وتوصيف واحد لحركة الشيخ كولن مثار نقاش خلال أغلبية جلسات المؤتمر. وقد تعددت التعريفات المستخدمة ومنها: حركة اجتماعية / دينية/ إسلامية/ معاصرة/ صوفية/ نماذجها من داخلها/ نموذج حداثى إسلامي متطور/..، أو "خدمة" كما يسميها الشيخ وأنصاره، تعبيرًا عن جماعة تتفانى في مرضاة الله وإنكار الذات في زمن عز فيه توفر أمثال هؤلاء البشر.
وتعود صعوبة إيجاد تعريف متفق عليه للحركة إلى أنها تجمع بين الروحانية والعقلانية، ليس فقط في طرح الأفكار وإنما أيضًا في طرق التنفيذ. وتؤكد الحركة في مختلف أعمالها على أنها "حركة نماذجها من ذاتها"، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أنها أنشأت نماذجها الذاتية (نموذج المدرس والتاجر والداعية) اقتداءًا حيًا ومعاصرًا بالرسول الكريم وصحابته، ثانيهما: اختيار الحركة للتعليم لبناء ما يسمى "بالنموذج الذاتي"، أي بناء الإنسان وتربيته على القيم الإسلامية لتحقيق "مهمة التبليغ"، التي يعتبرها الشيخ كولن المهمة الأساسية لكل مسلم في الحياة.
وحظي الشيخ فتح الله -مؤسس الخدمة/الحركة- باهتمام كبير من المشاركين في أعمال هذا المؤتمر؛ حيث قدم مثالاً لتنوع مصادر المعرفة في ظل إعلاء واضح للسنة النبوية، ولحياة الرسول وسيرته العطرة باعتباره "أسوة حسنة". وقد نجح الشيخ في تقديم خطاب يجمع بين المنطق العقلي والعاطفة الجياشة؛ حتى إن وصف الدكتور إبراهيم البيومي له بأنه يمثل عقل محمد عبده وروحانية النورسي وحركية حسن البنا وشفافية قطب، بات الأقرب والأدق لوصف الشيخ فتح الله كولن.
نجح الشيخ أيضًا في مأسسة "الخدمة" وإبعادها عن "الشخصنة"؛ فقد دأب -كما توضح مسيرته الدعوية والإصلاحية- على تحويل الشخص إلى فكرة، والفكرة إلى مؤسسة حتى تعيش وتستمر في الواقع؛ على نحو ما أشار دكتور محمود الكردي في تعقيبه على جهود الشيخ في ميدان الخدمة الاجتماعية والتربية المدنية.
لقد راعت الحركة سياق الزمان والمكان، وخاصة أنها نشأت في إطار علماني. وقدمت مشروعًا تصالحي منذ البداية، ثم طورت المشروع ليكون توافقيا من خلال الدعوة لتبنى تفسير ليبرالي للعلمانية كي تكون إيجابية، وليست سلبية. فالعلمانية عند كولن تعنى التعايش بين الأفكار والثقافات في وطن واحد. كما عملت على تشجيع السياسات البناءة بغض النظر عن طبيعة الحكومة أو الأشخاص أو الاتجاهات. ووضعت الحركة مسافة بينها وبين السياسة حيث ابتعدت عن أي حركة سياسية، وبحثت عن العمل في المجتمع من خلال فلسفة الخدمة. إنها جماعية أكثر منها جماعة، وهي منفتحة ولا تقصي أحدًا، وهناك شخصية محورية بدون شخصنة، فهي حركة جماعية، للقيادة فيها معنى القدوة وللشباب أدوار في القاعدة والقيادة معًا. وقد قامت الحركة على العمل الجماعي ثلاثي الأضلاع: الشباب هم القاعدة، ورجال الأعمال هم مصدر التمويل المستقل، وتلاميذ الأستاذ هم القيادة الجماعية.
وبالرغم من المصاعب المفروضة في ظل علمانية الدولة التركية، إلا أن الشيخ استطاع تجديد حيوية الخطبة والموعظة وإحيائها كأحد أهم أدوات التغيير -كما لا حظ د. إبراهيم غانم في بحثه عن شخصية الشيخ- كما إنه أدخل المسجد مرة أخرى للتعبير عن المجتمع وللعمل على إصلاحه؛ سواء في مجالات مكافحة الجهل أو الفرقة أو الفقر.
ومن المعالم الإصلاحية البارزة في تجربة الشيخ فتح الله، أنه جعل التعليم جوهر منهاجه الإصلاحي، واهتم بالإنسان معلما ومتعلما، وأخرج التعليم من ضيق المنطق الوظيفي إلى رحابة بناء الإنسان بالمنطق النبوي الكريم؛ حيث تتم فيه المزاوجة بين العلوم الحديثة والعلوم الشرعية. فالشيخ -مثل معظم المصلحين الإسلاميين- لا يرى أي تناقض بين الدين والعلم، بل كلاهما يكمل الآخر، ومن من هنا اهتمت حركته بإنشاء مدارس حديثة تجمع الجوانب الروحية مع الجوانب المعنوية في نسق تربوي وتعليمي متجانس، مع تزكية البعد الأخلاقي من خلال الأنشطة المدرسية وسلوك المدرسين القدوة (التعليم بأسلوب النموذج). وبذلك تقدم حركة كولن نموذجًا للتغيير من أسفل إلى أعلى؛ عبر مؤسسات التعليم التي تستهدف أول ما تستهدف الجيل الصاعد من النخبة. ويمثل مفهوم الخدمة" روح العمل الجماعي في هذه الحركة.
ويتسم خطاب الحركة بسمة التفاؤل (وهي سمة قلما تتوافر في خطابات الحركات الإصلاحية الإسلامية الأخرى). وينظر الشيخ فتح الله إلى هذا القرن باعتباره قرنًا واعدًا؛ لأنه سيكون عصر النهضة من جديد في العالم الإسلامي. وأوضحت المناقشات مدى حيوية وديناميكية هذه الحركة في الداخل والخارج التركي؛ فعند استعراض مداخلات المشاركين الأتراك نجدها دوما مفعمة بالتفاؤل المدعوم دوما بأمثلة حية، والقائم على مبدأ المبادرة والحركة في اتجاه الآخرين. وتبنت الخدمة التي يقدمها أنصار الشيخ شعارًا يقول "نحن نأتيكم أينما كنتم"، بدلاً من الشعار الذي يقول "فقط هلمَّ إلينا".
ثالثًا: الدروس المستفادة: الآفاق والحدود
كان من المتوقع أن تجري مقارنة الخبرة الإصلاحية التي يقدمها الشيخ فتح الله كولن، بما يشهده الواقع الإسلامي والعربي والمصري المتردي. وكان السؤال المركزي في هذه المقارنات هو: كيف يمكن التعلم من هذه التجربة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات المحلية من منطقة إلى أخرى في جغرافيا الأمة الإسلامية الواحدة.
بعض المشاركين ذهبوا إلى ضرورة الانتباه إلى ما في تجربة الشيخ فتح الله من خصوصيات "تركية" قد لا تتناسب مع ظروف البلدان العربية أو الإسلامية الأخرى. وأن غاية ما يمكن عمله هو الاستفادة ببعض الجوانب، وليس استنساخ التجربة بحذافيرها.
إن قضية الإصلاح قضية حضارية في المقام الأول، وهي ترتبط بعوامل اقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية، وتحتاج لرؤية إستراتيجية تنظم العلاقة التكاملية بين هذه الأبعاد، وتحدد التوقيت والأسلوب الملائمين. ولماذا يعلو بعد من أبعاد الإصلاح على غيره في بعض الحالات؟ وكيف يصبح ذلك التعدد مصدر تكامل وثراء وليس تصارع؟ أسئلة تختلف إجاباتها من تجربة لأخرى بناء على طبيعة وخصائص السياق المحيط بكل واحدة منها. ومن يجب إدراك دلالات السياقات الداخلية والخارجية، وتأثيرها على حركات الإصلاح واختياراتها وتفضيلاتها، فلكل حالة أولوياتها بناء على طبيعة ومدى المصاعب التي تواجهها، فنجاح الحركة وليد بيئتها وتمكنها من معالجة تحدياتها. وبالرغم من المشترك الحضاري الجامع للأمة الإسلامية وتجلياتها الحضارية، إلا أن لكل مجتمع سمات تميزه عن غيره ترسم بعض معالم خصوصيته. وقد جاء انطلاق حركة كولن من الداخل من أجل بناء "نماذج من ذاتها"، والذات هنا إسلامية وتركية معًا.
ومن أهم ما يميز السياق التركي عن مثيله العربي هو أن نجاح الإصلاح في التجربة التركية، جاء بفضل تعافي مؤسساتها المدنية وقوة المجتمع المدني بها، رغم علمانية الدولة المفرطة؛ وربما بفضل الجوانب الإيجابية في هذه العلمانية وخاصة فيما يتعلق بالتأكيد على حكم القانون، ودولة المؤسسات، وتوفير هامش معقول من الحريات العامة والفردية. وقد ثبت في التجربة التركية الحديثة والمعاصرة أنه كلما خطت الدولة خطوة باتجاه الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، اكتسبت الحركات الاجتماعية الإصلاحية (ومن بينها ذات المرجعية الإسلامية) قدراً أكبر من حرية الحركة، وزادت فرصتها في بلوغ أهدافها. ذلك لأنه سياسة الانطلاق من المشترك والعمل على سد ذرائع الاختلاف لا تصلح إلا في مناخ يتطور ديمقراطيًا، ويقوم على مرجعية قانونية واحدة ومحترمة من جميع أطراف العمل السياسي. وتقدم الحالة التركية -أيضًا- دليلاً على خطأ اعتقاد أن المبادرات الليبرالية/ الديمقراطية في مجتمع غير ليبرالي وغير ديمقراطي لا تؤدي إلا إلى زيادة الفوضى، ولا تفيد الحريات العامة في شيء.
من المهم -كما ذهب أغلب المشاركين في المؤتمر- أن نعرف حدود الاستفادة وليس طرق الاستفادة فقط من التجربة التركية وحركة الشيخ فتح الله كولن كأحد مكونات هذه التجربة. فالفرق بين قوة الدولة (كما هي حالة الدولة العلمانية في تركيا) وبين استبدادها وتجليه في شخصنة السلطة في مستوياتها العليا "القائد وبطانته" (كما هي حالة أغلبية الدول الإسلامية والعربية) فرق هام، وله دلالاته، ويؤثر على حرية حركة جهود الإصلاح ومجالات عملها. وعندما يتجذر الاستبداد هيكليًا وتٌسد منافذ التغيير، تزيد عوائق الإصلاح، وتصبح فرصه في النجاح أقل، مما لو توافرت هوامش ديمقراطية تحترم القانون وتصون الحريات العامة ولو في حدودها الدنيا. أما عندما تتجمد مسارات التطور الديمقراطي، فإن السياق العام يصبح مناوئًا للحركات الإصلاحية، ويتعذر عليها الدخول بفاعلية في المجال العام.
وعلى أية حال، فإن حركة فتح الله كولن وتجربته تقدم الكثير مما يمكن الاستفادة به وتفعيله في عملية الإصلاح في الواقع العربي، ومن ذلك الآتي:
أولا: التدرج والمرحلية في الإصلاح من خلال اتباع إستراتيجيات طويلة المدى. فقد بدأت حركة الشيخ كولن على استحياء في المجتمع منذ الستينيات من القرن الماضي، مستفيدة في المقام الأول من هوامش الحرية التي أتاحتها النظم المتعاقبة، على الرغم من ضيقها في بعض الأحيان، وخاصة في لحظات الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا أكثر من مرة خلال العقود الماضية قبل أن تستقر على طريق الإصلاح الديمقراطي والسياسي مع مطلع القرن الحالي.
كانت البداية في ميدان التعليم منذ أكثر من خمسة عشر عامًا بفصل واحد، بعيدا عن فكرة البدايات الكبرى الشاملة التي لا تستمر، والتي قد تستفز الخصوم لضربها وإجهاضها وهي في بداياتها الأولى. وأمام تعاظم قوة الدولة، اتضح للشيخ وأنصاره أن التعليم هو المجال الحيوي للحركة الإصلاحية، وأن هذا المجال هو الخيار الأول والأسلم والأنفع على المدى الطويل لإحداث تراكم إصلاحي تدريجي وثابت وقوى. هذا وللحركات الاجتماعية في تركيا دور أكبر في التأثير على المجتمع التركي ونشر الوعي داخله أكثر من الأحزاب السياسية. وفي ضوء تلك "المعطيات التركية" اختارت حركة فتح الله كولن البعد التربوي ركيزة أولى لمشروعها الإصلاحي.
ثانيًا: أدى الانطلاق من حوار داخلي شامل بين التيارات المختلفة (وعدم حصره في الأحزاب) إلى خلق مناخ صحي لقبول مشروع كولن الإصلاحي، وتحجيم كثير من التحديات والعقبات التي يمكن أن تعوق مساره. وساعد على ذلك تقديم الحركة لرؤية جامعة تعطي أولوية للمشترك والإيجابي وتتخطى عوامل الانقسام والتنازع والخلافات، وترى أن الوقت كفيل بحلها. إنها إستراتيجية الواثق من أن الوقت لصالحه. وكان لقبول الآخر والاختلاف معه أهمية كبرى في نجاح هذا الحوار داخليًا ونواة لانطلاقه خارجيًا أيضًا. ومن ناحية أخرى، تبزغ ضرورة الحوار في ظل ظروف اختلال كبير في ميزان القوى بين أطراف العملية الإصلاحية، أو بينهم وبين الدولة، فللتعامل مع الأقوى مقتضيات خاصة.
ثالثا: قام الشيخ فتح الله بتطوير مفهوم الخدمة انطلاقًا من الأبعاد الفلسفية للصوفية التي تغلُب على التدين الإسلامي التركي، وقد برع الشيخ في توظيفه في تعميق رأس المال الاجتماعي في المجتمع التركي بصفة عامة، وفي مكافحة الجهل والفقر بصفة خاصة، وتبنى لذلك نظرة شمولية تنموية تهدف إلى تنمية القدرات، فهو اقتراب تنموي مدعوم بتنوع وسائل التمويل وفعاليتها، حيث جدد العلاقة بين الصوفي والتاجر (أو الداعية ورجل الأعمال).
وأخيرًا لقد مثَّل المجتمع محور اهتمام حركة الشيخ فتح الله كولن، فمنه وإليه تحركت ونشطت. وهو الأمر الذي يعتبر مصدر قوة واستمرارية في الحالة التركية، ويمكن للخبرات العربية الاستفادة من ذلك، ولكن مع ضرورة العمل على بناء استراتيجيات تسعى للإصلاح وفق رؤية تصالحية غير تصادمية.
- تم الإنشاء في