لا تعاملوا الظالمين مثلما عاملوكم بل عاملوهم بموجب أخلاقكم
لفت الأستاذ فتح الله غولن إلى المظالم والانتهاكات التي ترتكبها السلطات التركية منذ أكثر من خمس سنوات، والتي اكتسبت زخمًا جديدًا عقب ما يسمى بمحاولة الانقلاب الفاشلة، ثم علق عليها بقوله: “إذا ما امتثل أمامكم يومًا هؤلاء الظالمون الذين مارسوا عليكم الجور والظلم، وعاملوكم بعيدًا عن الإنصاف، وبصقوا في وجوهكم، وكشّروا عن أنيابهم، وسحقوكم إن استطاعوا، وأرهبوكم إن عجزوا.. إذا ما امتثلوا أمامكم يومًا خاضعين متذللين، عاملوهم بمروءة، ولا تنسوا أن تقولوا لهم: “اِذْهَبُوا، أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”، كما قال نبينا وسيدنا محمد وأخوه سيدنا يوسف عليهما الصلاة والسلام.. لا تعاملوا الظالمين مثلما عاملوكم، بل عاملوهم بموجب شخصيتكم وأخلاقكم الإسلامية”.
ونوّه الأستاذ غولن، في درسه الأسبوعي، الذي نشره الموقع الألكتروني الخاص به في القسم المسمى بـ”الوتر الحساس” بتاريخ 02.07.2017، بأهمية التزام المبادئ النبوية في كل المواقف والحالات والظروف مهما كانت، حيث قال: “إن مفاتح القلوب هي الخلق الليّن والقول الليّن، فلا يمكنكم الولوج إلى القلوب بالفظاظة والغلظة والعنف والقمع، وإنما تحوّلون الناس بهذه الطريقة إلى قطيع ينساقون وراءكم فقط. مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بسط فسطاطه في القلوب بفضل سمو ودماثة أخلاقه وسماحته ولباقته ونزاهته. وفَتحتِ القلوبُ أبوابَها له بقدر سعة وسمو ودماثة أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وبالمقدار الذي ينتظره السماء منه. إذ كانت طبيعته وفطرته عليه الصلاة والسلام قابلة ومستعدة لهذا الأمر. فالله جل جلاله كلف محمدًا “الأمين” بإيصال تلك الأمانة؛ أهمّ الوظائف النبوية، إلى الناس أجمعين، ومكّنه من القيام بهذه الرسالة السامية”.
“القوة في الحق وليس الحق في القوة”
ولفت الأستاذ غولن إلى أن “القوة في الحق وليس الحق في القوة، وأرباب الحق والحقيقة لا يرضخون أمام الظلم، كما لا يفكرون أبدًا في مقابلة السوء بالسوء”، ثم أشار إلى ضرورة استخدام القوة ضمن معايير الحق والعدل بعيداً عن التجاوز والطغيان إذ قال: “كل شيء قائم بالعدل. فإذا دخلت السلطة والقوة تحت أمر العدل، عندها فقط يمكن للسلطة والقوة أن تؤديا دورهما المرجو منهما دون أن تعرِّضا صاحبهما لأي مسؤولية وعقوبة في الآخرة”.
ونقل الأستاذ غولن بعد ذلك عن العلامة بديع الزمان سعيد النورسي قوله: “القوة في الحق وليس الحق في القوة! ونظرًا لأن القوة في الحق وليس الحق في القوة، فلو حوّلتم الدنيا إلى كرة نارية وألقيتموها على رأسي (ورؤوسنا) فلن يخضع رأسي (ورؤوسنا) – الذي هو فداء للحقيقة القرآنية – للزندقة والظالمين والمنافقين والرافضين للحق والحقيقة.
وأعاد الأستاذ غولن أشكال الظلم والجور التي يتعرض لها المواطنون في تركيا دون تفريق بين الرجال والنساء والشيوخ والشباب والولدان، وأكد أن الحق هو الأعلى دومًا، وأن أهله من سينتصرون عاجلاً أم آجلاً حيث قال: “أجل، القوة في الحق. إن المحق يتمخّض كالزبدة ويعلو على السطح آجلاً أم عاجلاً، وإن لم يكن اليوم فغدًا، بإذن الله تعالى. لكنه لا يعلو على السطح بوضع قدميه على رأس أحد وسحقه وتدميره، بل إنه رغم كل المساوئ والمعاصي المرتكبة ضده، يترفع حتى عن المقابلة بالمثل، ويعتبرها تصرفات حيوانية.. نعم، قد يكون أنهم قهروك واضطهدوك وانتهكوا حقوقك، وحرموك العيش كإنسان كريم، وزجوا بك في السجون، وحطموا أسرتك، ويتَّموا الأطفال، ورمَّلوا النساء، ثم أعلنوا كل هذه الفظائع بأعلى صوتهم للعالم وكأنها قانونية وشرعية ومن حقهم أن يمارسوها.. لكن المطلوب منكم أن تتجنبوا مقابلة ذلك بالمثل تجاه كل هذه المساوئ والمعاصي وتقولوا: “يا إلهي، أسألك أن تجعل من حطموا قلبي سعداء ومحظوظين، وأن تحقّق آمالَ مَنْ أرادوا الحيلولة دون بلوغ آمالي!”.
“عَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ”
ونوه الأستاذ بأهمية العفو والغفران والتجاوز، على الرغم من كل هذه الممارسات الجائرة، مذكّرًا بقول الله عز وجل (وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل، 16/126)، ثم أضاف قائلاً: “إذا تعرضتم للسوء والظلم، على يد أحد، في قضايا تتطلب القصاص، ويمنحكم نظام القانون والقضاء والعدل حق المقابلة بالمثل، فبإمكانكم أن تستخدموا هذا الحق وتطلبوا القصاص، ولكن إن عضضتم على أسنانكم واصطبرتم فإن ذلك خير لكم! أجل، ينبغي الانطلاق هكذا نحو التوفيق والنجاح والهدف النبيل والغاية السامية… من الممكن أنهم كسروا أرجلكم، وقلعوا أظافركم، وأسقطوا أسنانكم في أفواهكم، وجرحوكم، وسفكوا دماءكم. مع كل ذلك، عليكم أن تعقدوا العزم على القيامِ بما تتطلبه الإرادة كما ينبغي أمام جميع هذه المظالم، والكفِّ عن مثل هذه السلوكيات والتصرفات الوحشية، وعدّها نوعًا من التدني والوقاحة والجنون – سامحوني –. لا.. لا يمكن لمن هو إنسان أن يأتي بمثل هذه التصرفات..! بل الإنسان يفعل كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام إذ (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف، 12/92).
وتابع الأستاذ: “إن هذا السلوك الإنساني هو سلوك “الإنسان الكامل” وسيد الأنام عليه الصلاة والسلام. أذاقوه كل صنوف العذاب طلية 13 سنة في مكة المكرمة بدءًا من سنّ الأربعين حتى بلوغه سنّ الثالثة والخمسين. وضعوا على رأسه أمعاء الجمل حينًا وهو يعرض عبوديته تجاه ربه أمام الكعبة؛ وحاول بعض التعساء من أمثال عقبة بن أبي معيط اللعين خنقه بيده وقتله حينًا آخر. وفي كل مرة، رفع أحدُ فتيةِ ذلك العهد وأبطالِه، من أمثال حمزة وأبي بكر رضي الله عنهما، صوته وصرخ قائلاً: “أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله!”، وقال “كفى” لهذه الوحشية بلحن وعبارة “مؤمن آل فرعون”.. قال ذلك شخصيات مختلفة في كل مرة… فلو وُضع ما عاناه الرسول عليه السلام على جبل “آغري” أو “إفرست” لغدا ذلك الجبلُ البحرَ الميت في دنوه وانخفاضه. إنه عليه الصلاة والسلام لم يوجه لخصومه حتى لكمة.. لكمة واحدة.. أما المواجهات بين الطرفين في السنوات القادمة، فهي كانت من قبيل حروب الدفاع؛ فهي إما كانت ردًّا على هجوم محقق من الطرف المقابل أو مقابلة بالمثل تجاه هجمة مقررة. بمعنى أنها كانت من قبيل دفع البلاء ووضع السدود أمام الأمراض”.
“بفضل أخلاقه فتح قلوب المشركين”
ثم تطرق الأستاذ إلى أحداث مكة قائلاً: “وبعد كل هذا الأذى والجفاء، اقترب صلى الله عليه وسلم من الكعبة في صمت وهدوء دون إراقة دم أحد. ولعل 10 كم من المسافة كانت تفصل بينه وبينها، وكانت تتراءى عند النظر من بعيد أضواء خيماتهم. وباغتهم بالاقتراب منهم مسافة تمكنه حتى من رؤية أنوفهم بحيث لم يعطِ لهم أي فرصة ليقوموا بأي شيء، بفضل فطنته الرائعة وحنكته العظيمة. ولو لم تكن حادثة قتل أحد أو اثنين قرب أحد أبواب الكعبة على يد شخصية تضاهي شخصية عمر بن الخطاب ولا تسكت أبدًا على الظلم مثل خالد بن الوليد، لكان الرسول صلى الله عليه دخل مكة المكرمة دون أن يدوس حتى على نملة واحدة رغم كل ما أبدى أهلها من عداوة شرسة تجاهه والمسلمين. ذلك هو الطريق الذي سار عليه “الإنسان الكامل” عليه الصلاة والسلام، وتلك هي الطريقة التي وصل بها إلى هدفه المنشود!”
وأردف الأستاذ بقوله: “نعم، إنه دخل مكة المكرمة واجتمع الناس حوله. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: “خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم”. ولكم أن تقولوا كما قال الرسول في حق أخيه يوسف عليه السلام: “إِنَّ الْكَرِيمَ بْنَ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ!”. فقال عليه الصلاة والسلام: “اذهبوا أنتم الطلقاء. لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. يمكن أن تصفوا سيدنا يوسف ومحمدًا عليهما السلام بـ”أولاد عم”، نظراً لأن الأول ينحدر من إسماعيل عليه السلام، والثاني من إسحاق عليه السلام. لذلك فهو يقول لقريش كما قال ابن عمه لإخوته: “لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. ولما شاهد أهل مكة من شبابيك منازلهم سمو أخلاقه في سلوكه وكلامه عليه الصلاة والسلام أكدوا قائلين “إنه على الحق وطريقه صحيح”، ومن هؤلاء أبو سفيان وامرأته هند من بني أمية”.
وواصل الأستاذ: “من هذه الناحية، مهما فعلوا، فإنه يجب عليكم أن تقوموا وتقعدوا بالحق وعلى الحق، وأن تقولوا الحق بصورة دائمة، وأن تتجنبوا حتى توجيه لكمة، وتغيير نبرة صوتكم تجاه هذه المظالم. فبأي نغمة وبأي كلمات خرجتم في هذا الطريق منذ البداية، فإنه ينبغي لكم أن تواصلوا بهذه النغمة ذاتها وبتلك الكلمات عينها وتوصلوا رسالتكم للناس من دون أن تغيروا فكركم وسلوككم. وإن لم تجدوا بدا من قول شيء لهؤلاء الظالمين والغدارين والمنافقين، فبمقدوركم أن تقولوا هكذا: “يا ربنا إذا كانت إرادتك السبحانية هي هدايتهم، فَاهْدِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَإِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِلَى اْلإِنْصَافِ وَاْلإِذْعَانِ، وَإِلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِلَى الْعَدَالَةِ، وَإِلَى اْلاِسْتِقَامَةِ، فِي أَقْرَبِ أَقْرَبِ أَقْرَبِ أَقْرَبِ زَمَانٍ. وإن لم تكن إرادتك ذلك، فنكِلُهم إليك، أنت رب العالمين وربنا. تصف نفسك برب العالمين في بيانك الجليل “اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين” الذي كلفتنا بقراءته أربعين مرة كل يوم. أنت رب الطيب والسييء، والكافر والظالم، والفاسق والمنافق، والغدار والخطار، وكل الناس كافة..! ومن ثم تنعت نفسك بـ”اَلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”. وإن كانت لهذا أو ذاك حسابات، فإن لك حسابًا أيضا. لكنك لا تستعجل ولا تقول لهم من الآن أنتم كذا وكذا. وإنما تؤجلهم وتمهلهم، حيث هناك يوم يحاسب الإنسان فيه على كل شيء، فذلك اليوم يوم الدين، يوم الحساب. وأنت مالك ومَلِك ذلك اليوم. أنت “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ”، و”مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ”. نعم، تقولون هكذا وتحيلونهم إليه سبحانه وتعالى. فهو أرحم الراحمين، أعدل العادلين، أشفق المشفقين، أحكم الحاكمين، أظهر الظاهرين.. وإذا كان الأمر كما وصفنا، فإن ما يقع عليكم هو أن تفوّضوا الأمر إليه تعالى، إلى صاحبه الحقيقي، إلى مالك يوم الدين، إلى ملك يوم الدين. داوموا على السير بالاستقامة في الطريق الذي ترونه صحيحا دون أن تعاتبوا وتلوموا أحدا”.
“سنة الابتلاء وعقبات في طريق الحق”
وأوضح الأستاذ أن الابتلاء سنة إلهية سارية في المجتمعات منذ بزوغ فجر الإنسانية لأغراض وحِكَم مختلفة، ويجب النظر إلى المصائب والدواهي من قبيل العقبات في طريق الحق التي يجب الصبر عليها والمضي قدما نحو المثل العليا دون التساقط في الطريق، إذ قال: “أما لماذا نتعرض لكل هذه الأمور؟ لماذا تكسر الأصابع؟ لماذا يُعرَّض الناس للشلل؟ ولماذا تُفصَل الأمهات عن أطفالهن؟ لماذا يجعل أفراد المجتمع أعداء لبعضهم البعض؟ لماذا تشتَّت العوائل وتحطَّم؟ لماذا لماذا لماذا؟! لماذا نتعرض لمائة أو مائتين أو ثلاث مائة مما يمكن وصفه بالداهية والمصيبة، لماذا تحدث كل هذه الأمور يا ترى؟ كل هذه الأمور حلّت بالأنبياء العظام أيضًا. لم يُستثن منها أحد، أو بأصح العبارة لم يستطع أن ينقذ أحد نفسه منها. بل حتى يمكن القول بأن أبا البشرية آدم عليه السلام لم يستثن من ذلكم كذلك. فهو عانى أول ما عانى من ولديه هابيل وقابيل. لكن أكبر بلاء، بحسب علمنا، ابتلي به هو سيدنا نوح عليه السلام أول الأنبياء أولي العزم. فمعاناته تصل لدرجة بحيث عبر عنها بقوله: (رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر). وعندما يتحدث القرآن عنه يقول: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر). (القمر، 54/10). وقد كرر العظماء الآخرون هذا القول الذي ورثوه من جدهم بعبارات مختلفة. فمثلا هكذا قال سيدنا لوط عليه السلام: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ). (العنكبوت، 29/30). إن الله عز وجل يقصّ حادثة نوح عليه السلام بأساليب مختلفة، أو بعبارة القرآن بأسلوب “التصريف”. لكن في الموضع الذي ينقل فيه سبحانه وتعالى عنه قوله: (إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) ترد فيه هذه العبارات: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ. فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). (سورة القمر، 54/10-12). الواقع أن نوحًا عليه السلام قال في سورة “نوح” أيضًا: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح، 71/26). وكذلك دعا ربه قائلاً: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا) (نوح، 71/28). مثلما عانى نوح عليه السلام، كذلك عانى كلٌّ من هود وصالح وشعيب ولوط وموسى، صلاة الله وسلامه على نبينا فخر الكونين وعليهم كافة آلاف المرات. كم من نبي استشهد في سبيل الدعوة والرسالة التي آمنوا بها. ها هو زكريا، وها هو يحيى عليهما السلام. وها هو سيدنا المسيح الذي داهموا منزله وكأنهم يداهمون منزل أي إنسان عادي – حاشا وكلا مائة ألف مرة – تعرض لشتى أشكال التعذيب، لدرجة أن والدته المباركة لم تمكث في موطنها الأصلي مدينة الناصرة، وإنما هاجرت ربما إلى مدينة إزمير، والله أعلم”.
“صور من هجرة الرسول وفتح مكة”
ثم عرض الأستاذ صورًا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: “لما كان في موقف من المفترض أن يحزن فيه، بل من المفترض أن يكون أكثر المواقف حزنًا، إذ كان خلف شبكات العنكبوت، وكان الكفرة الفجرة بالقرب من موطئ قدميه، شعر صاحبه بشيء من الحزن… من أجل حبيبه وليس من أجل نفسه، حيث إن أبا بكر لم يشعر قط بالقلق على نفسه في حياته. وإنما هو كان شخصية عظيمة بحيث يضحي برأسه وحياته، ويلقي بنفسه في المهالك والمخاطر والدواهي مثل مصعب بن عمير “حتى لا يصيب شعر حبيبه شيءٌ من الغبار”… فأبو بكر انطلاقًا من هذه الملاحظات خالجه شيء من القلق في الغار حيث الأعداء كانوا يجوبون قربهم. والقرآن يتحدث عن تلك اللحظة بهذه الكلمات: (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم) (التوبة، 9/40). يقول له رسول الله: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا). ولما أبدى الرسول استسلامه لربه هكذا (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)، فشعرا لتوّه وكأنهما في الجنة أو الحديقة. نعم، أحسّا بالطمأنية والانشراح وكأن تلك المغارة الضيقة الحافلة بالأفاعي والحشرات تحولت إلى حديقة من الجنة، وعندها انصرف المشركون الطواغيت إلى شأنهم، أما الرسول وصاحبه فتوجها إلى “يثرب” كما كانت تسمى في ذلك الوقت حتى يجعلها “المدينة المنورة”.
“كلٌّ يعمل على شاكلته”
وبعد ذلك أعاد الأستاذ غولن للأذهان التغيّر الطارئ في نهج السلطة الحاكمة والاعتقالات الجماعية التعسفية بعد رفعها شعار “الديمقراطية” لمدة من الزمان حيث أكد قائلاً: “كلٌّ يعمل على شاكلته. وكما تعلمون أن شاعر الجاهلية زهير بن أبي سلمى يقول: “مَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ _ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ”. فإذا كان في جيناته وشخصيته العضّ، وإلقاء اللعاب في وجوه الناس، وفرض قوته على الجميع، ونسيان الآخرة تمامًا وعبادة الدنيا – حفظنا وإياكم – فإنها تظهر يومًا عاجلاً أم آجلاً، وإن حاول إخفاءها. إنه شاعر الجاهلية، إلا أنه يعبر هنا عن معنى إيماني، حيث ليس كل صفات الكافر صفة كفر، كما أنه ليس جميع صفات المؤمن صفة إيمان. فمثلاً فصْل الأم من طفلها صفة كفر، وكذلك القول “يبدو أنك تحمل صبغة الفلانيين فأنت منهم أيضًا، إذن علينا أن نذيقك ما نذيقهم من المعاناة والألم أيضًا” صفة كفر. وكذلك القول “أراكم منافسين لي، ومن المحتمل، ولو واحدًا في المائة، أن تفسدوا نظامي، فعليّ إذن أن أتخذ من الآن تدبيري وأقضي عليكم جميعًا، حتى أتمكن من تأمين طريقي، وأستطيع الوصول إلى هدفي المطلوب – انطلاقًا من فكرة شيطانية – دون أن يعوقني أي عائق ويعترض أمامي أي غول”، وبناء الأحكام على الاحتمالات، وممارسة شتى أنواع الظلم والجور، مع ترديد لفظ “العدالة” باللسان… كل هذه خصلة من خصال الكفر وصفاته… وكم من مؤمن يجعل المؤمنين الحقيقيين يقولون: (رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ!).
“السجن والعذاب: قدر الأنبياء والعظماء”
وأفاد الأستاذ أن العظماء جميعهم ذاقوا السجن والعذاب، وأضاف: “ومن لم يذوقوهما فعليهم أن يخافوا من عاقبتهم! فالذين يمضون حياتهم في اللهو واللعب والملذات، ويجعلون الحياة سجنًا على الآخرين في سبيل هذه الملذات، عليهم أن يخافوا أيضًا من عاقبتهم، حيث ينتظرهم سجن أبدي بحيث لا يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم بمجرد ادعاء الإيمان. إذ سيحاسبون حتى على دهس نملة واحدة. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)ُ. (الزلزال، 99/7-8)… لقد قاسى الناس الذين قالوا ربنا “الله” بصورة مستمرة على أيدي أناسٍ من أصناف مختلفة، سواء اتصفوا بصفات الكفر أو ظهروا بصورة المؤمن أو حتى زعموا أنهم قاموا بكل هذه الشنائع باسم الإسلام أو كانوا منافقين أو مفسدين أو كافرين، غير أنهم لم يبالوا بما قاسوه، وعليكم أيضًا أن لا تبالوا بما تتعرضون له اليوم..!”.
“العودة الرائعة للرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة”
وأكد الأستاذ أن أبناء حركة الخدمة، على الرغم من أنهم لا يزالون يتعرضون لظلم غير مسبوق، إلا أنهم لم يتنازلوا عن مبادئهم السامية ولم يغيروا نهجهم وسلوكهم الذاتي ولم يخرجوا عن الإطار القانوني والحقوق حتى في سبيل الدفاع عن أنفسهم، إذ قال: “إنكم لم تتنازلوا عن شخصيتكم المؤمنة رغم هذا الكمّ والكيف من الظلم. وأنا متأكد من أنكم ستقولون يومًا لهؤلاء الظالمين “اِذْهَبُوا، أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” أيضًا. إذن – كما قال الشاعر – “لا تحزن، لسنا في فصل الخريف / قل إنه “القدر” وانحنِ قدر المستطاع / ستزول هذه الغوائل والدواهي الأخيرة واحدة بعد أخرى / ومن يعلم أي لطف ينتظرنا في الدور..!” من يعلم أي نوع من عهد النور، أي نوع من الربيع، أي نوع من الأيام الجميلة سينطلق الآن… لا يعلم”.
ذكر الأستاذ بعد ذلك العودة الرائعة للرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريته ومسقط رأسه أم القرى مكة المكرمة بعد أن أخرجه أهلها منها قائلاً: “لم يكن يتوقع أحد أن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام يومًا إلى مكة المكرمة بطريقة وعظمة تليق به بعد أن أخرجوه منها. لقد كان الله أكد منذ اللحظة الأولى التي غادرها (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص، 28/85). وهو صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بذلك أيضًا. وقد عاد يومًا إلى المكان الذي غادره في سهولة تامة للغاية بحيث خضعت رقاب الجميع لتلك الهامة الشامخة صلى الله عليه وسلم. خضعوا له عليه الصلاة والسلام واعترفوا بعظمته بصورة جماعية.. نعم بصورة جماعية.. إذ اجتمع الناس حول الكعبة وقالوا بصوت واحد: “الْكَرِيم بْن الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ! لم يضيفوا شيئًا بعد هذا القول. وهل هناك حاجة لقول المزيد طالما أنهم عرفوه! فمعرفتهم القليلة له عليه الصلاة والسلام أغنتهم عن كثرة القول… لقد عرفوه قبل كل شيء كـ”الأمين” حتى سنّ الأربعين، ولا ينشر الأمينُ حوله إلا الأمن والأمان، فهو كان ممثل الأمن والسلام في هذه الأرض، وكان يتنفس على الأمن والسلام على وجه الدوام”.
“لا تعاملوا الظالمين مثلما عاملوكم بل عاملوهم بموجب شخصيتكم”
وفي الختام نصح الأستاذ فتح الله المتطوعين العاملين ضمن أبناء حركة الخدمة قائلاً: “إذا ما امتثل أمامكم يومًا هؤلاء الظالمون الذين مارسوا عليكم كل أنواع الجور والظلم، وعاملوكم بعيدًا عن الإنصاف، وبصقوا في وجوهكم، وكشّروا عن أنيابهم، وسحقوكم إن استطاعوا أو أرهبوكم إن عجزوا.. إذا ما امتثلوا أمامكم يومًا خاضعين متذللين، عاملوهم بمروءة، ولا تنسوا أن تقولوا لهم: “اِذْهَبُوا، أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. لا تعاملوا الظالمين مثلما عاملوكم، بل عاملوهم بموجب شخصيتكم ومبادئكم. ذلك لأنكم حافظتم على كينونتكم الذاتية، ولم تتنازلوا قط عن شخصيتكم على الرغم من كل جهود الاستمالات والإملاءات عليكم بغية تغييركم. أقدموا على اللجوء إلى كل الطرق والوسائل الخسيسة الرديئة قائلين: “يا ليتهم وجهوا لنا اللكمات، وصوبوا إلينا فوهات البندقيات حتى ولو كانت فارغة من الرصاص، ويا ليتهم لقنوا لنا اللكمات بينما نحن نكسر أسنانهم”. لكن الذين نذروا أنفسهم لهذا السبيل، وأخذوا موقعهم بين فئة الناذرين أنفسهم والزمرة الذين يعيشون من أجل الآخرين تجنّبوا العمل بمبدإ “المعاملة بالمثل” الظالم، لم يعملوا به من قبلُ، ولا يعملون به حاليًّا، ولن يعملوا به في المستقبل، وكذلك أنتم لن تعملوا به إن شاء الله تعالى. والسلام.
- تم الإنشاء في