أومن بالإسلام الاجتماعي الذي يجمع بين الدين والحداثة
أثارت التجربة التركية في النهوض بالإنسان، والاعتماد على الإسلامي الاجتماعي، المستلهم من فكر العالم التركي، فتح الله كولن، إعجاب المشاركين في المؤتمر الدولي حول "دور الأديان في تعزيز قيم المعرفة" المنعقد، أخيرا، بالقنيطرة، وجعلتهم يركزون عليها بشكل كبير ويمطرون الباحث التركي نوزاد صواش، بالأسئلة حول هذه التجربة، التي انعكست بشكل إيجابي على المجتمع التركي، وعلى جميع ميادينه، بما فيها الإعلام والتلفزيون، والأعمال التجارية، واتخذت من التربية والتعليم ركيزة لها، إذ قامت "حركة كولن" على نشر العديد من المدارس العلمية في تركيا، وخارجها، وإقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، ومؤتمرات سنوية في أوروبا وأمريكا.
للاقتراب أكثر من هذه التجربة كان لـ "المغربية" هذا الحوار مع الباحث التركي نوزاد صواش، رئيس القسم العربي في مركز البحوث والعلوم والإنترنت بإسطنبول، ورئيس تحرير مجلة "حراء" الصادرة باللغة العربية من تركيا.
ركزتَ في مداخلتك على الإنسان واعتبرته المفتاح لأي تغيير اجتماعي، كيف ذلك؟
ركزت في مداخلتي على التجربة التركية، وقلت إنها تجربة إنسانية، استثمرت في الإنسان، وبحثت عن الجانب الخير فيه، ورأى القيمون عليها أن الخروج من المأزق لا يتحقق إلا بإعادة تنمية الإنسان، وإعادة صياغته من جديد. وكان منطلقهم الأساسي هو التساؤل عن أسباب تراجع الأمة العربية الإسلامية، التي كانت أمة عظيمة، فوجدوا أن العلوم الدينية فيها في جانب، والعلوم الطبيعية في جانب آخر، ولا يهتم فيها بالروح والسلوك، أي أن هناك انفصاما كبيرا في الشخصية، وهذا الأمر يحتاج إلى الجمع، لأنه إذا جرى الجمع بين كل هذه المقومات، وربطت بالإنسان، فسيتحقق النجاح في تكوين الإنسان الحضاري، الذي كان موجودا في التاريخ، لكن تشتته جعل حضوره في التاريخ باهتا لمدة تفوق مائة سنة. التجربة التركية انطلقت من بناء الإنسان، ووضعت العمل التربوي في المركز، على عكس الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، التي كانت تضع العمل السياسي والسلطة في المركز، وهو ما أدى إلى حدوث كوارث، وإلى فقدان الثقة بين الدول وشعوبها. في تركيا كانت هناك تيارات وتجارب عديدة، لكن التيار الذي استطاع أن يقنع الشعب التركي، هو التيار الذي وضع العمل التربوي في المركز، لأنه بفضل التربية يمكن تغيير الإنسان، وتغيير العالم بأكمله، فكما يقول مالك بن نبي "غير ما بنفسك تغير العالم"، فإن صنعت الإنسان ستصنع الحضارة من دون شك.
هل غيرت هذه التجربة من المنظومة التعليمية بتركيا؟
بكل تأكيد، فرائد هذه التجربة في تركيا هو المفكر فتح الله كولن، العالم الذي انبثق من التراث، ولكنه يعيش في زمانه، ومتفاعل مع المجتمع، ففكره يحث على الاستفادة من الشرق والغرب، ومن التراث، وباستخلاص الحكمة منه يمكن أن نعثر على الدواء الناجع لأعطاب مجتمعنا. الأمر يحتاج إلى من يؤمن بهذه الفكرة ويخلص لها فقط. العالم كله يعاني من مشاكل التربية، والعالم العربي على وجه الخصوص، ولهذا وجدت تجربة فتح الله كولن صداها، وتبناها الشعب التركي، وتولدت عنها مئات المدارس الخاصة داخل تركيا، وامتدت إلى العالم بأكثر من 2000 مدرسة في أكثر من 160 دولة، وهي تجربة تقوم أصلا على الاهتمام بالإنسان، لتكوين إنسان عالم متمسك بهويته، وبأخلاقه، وبالصدق، والجدية، والانفتاح على الآخر، وبالتطور والتنمية.
لكن، كيف استطاعت التجربة التركية أن تحل إشكالية القطيعة بين الدين والعلم؟
هذا هو الإشكال الجوهري، وهو الكارثة، التي انجرت إليها الإنسانية كلها، فلو استطاع المسلمون أن يقرأوا التطور الغربي الذي حصل، قراءة صحيحة، وينطلقوا من الفرضية الخاصة بنا نحن، لما وصل العالم العربي الإسلامي إلى ما هو عليه الآن من تدهور وتراجع، ولكن العالم الإسلامي ظل على مدى قرنين تائها. وبشكل عام فالعالم العربي في الفترة الأخيرة بدأ يعرف نوعا من الحراك لتغيير الوضع، وفيه بوادر خميرة يمكن أن تعيدنا إلى أنفسنا من جديد، وأن تكون هويتنا، إنها خميرة لإنسان العالم الجديد. أما في الوقت الراهن هناك تياران، تيار لا يفرز سوى الصراع، الذي نعاني منه منذ مائة عام، وتيار آخر بدأ يظهر ويبحث عن الجانب الخير في الإنسان، تيار يؤمن بفكرة الإنسان وكرامته وحريته، وهي مقومات ينهض عليها الإسلام نفسه، الذي كرم الإنسان. ولهذا يجب أن ننمي هذا الخير في ما بيننا، وندعو له، ثم نبحث عمن يملك هذه الثروة، ونبني جسورا في ما بيننا لنكون تيارا على مستوى العالم العربي الإسلامي. ومن هنا يمكن لي القول إننا في تركيا لم نفصل بين الدين والعلم، بل خلقنا مدارس علمية يدرس فيها الدين إلى جانب العلم، لأننا نؤمن بالإسلام الاجتماعي، الذي يجمع بين التدين، والحداثة، والقومية، والتسامح، والديمقراطية.
هل أعطت هذه التجربة أكلها في تركيا؟
نعم، فتركيا تجني اليوم ثمارها، وبعدما كانت في السابق تتأرجح وتبحث عن هويتها، أصبحت الآن بفضل الإسلام الاجتماعي، والتجربة التركية المدنية للمفكر فتح الله كولن، تعرف ما تريد، وتسعى للنهوض بالبلد في جميع القطاعات، انطلاقا من إيمانها بالإنسان، والاعتراف بالآخر، والبحث عن التواصل المشترك. هذه الفكرة هي التي شكلت الخميرة النهضوية بتركيا، التي استطاعت أن تكشف عن الوجه الخير والإنساني في تركيا، من خلال الإعلام، لأن أكبر جريدة في تركيا وهي جريدة "الزمان"، التي تبيع مليون نسخة يوميا، والقنوات التلفزيونية، أكثر من عشر قنوات تفكر بهذه الطريقة. فحينما تكتب في الإعلام بهذه الثقافة، وتتعامل مع الناس، وتنتج مسلسلات بهذه الثقافة، أيضا، فهذا سينعكس تلقائيا على المجتمع، وستلين الأرضية والأجواء. لذلك فالفكرة تحتاج إلى من يؤمن بها ويخلص لها، وتتحول إلى مؤسسات تربوية إعلامية مدنية، وبعد ذلك تنتج ثقافتها، وتتحول إلى ثقافات، فهذه هي التجربة التركية وهكذا أقرأها.
هل يمكن لهذه التجربة أن تمتد إلى الدول العربية الإسلامية، التي ما زالت تدرس الدين بمناهج قديمة؟
التجربة التركية لها صدى في العالم أجمع، وليس في العالم الإسلامي فحسب، ولهذا فمن المتوقع أن تستفيد منها الدول العربية الإسلامية، شريطة أن يعتمد في التعليم الديني على مناهج حديثة، ترقى بالإنسان وبفكره، وتنأى به عن التطرف والتعصب، لأن العمل الإيجابي هو روح الإسلام، فعوض أن تقابل الشر بالشر، قابله بالخير، وسترى النتائج التي سيعطيها، لأنه قلما تستطيع إقناع الإنسان بالكلام، ضع النموذج الحسن واترك له حرية التفكير ومحاسبة نفسه، فالتركيز على الحسن والجمال هو المنهج الصحيح، الذي ينبغي الاعتماد عليه، أما الأشياء الأخرى فهي استثنائية.
بشكل عام، هل يمكن للدين أن يقوم بأدوار طلائعية لبناء مجتمعات حداثية وديمقراطية؟
ولم لا، إن كانت الديمقراطية ترفع من شأن القيم الإنسانية، فهي تتفق مع الإسلام مائة في المائة، في تكريم الإنسان، والمساواة، والعدل، فهذا جوهر الدين أصلا. ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول إن الدين يمكن أن يسهم في تطوير الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة لم تولد ناضجة، وهي ما تزال في حاجة إلى التطوير. فالأستاذ كولان نفسه، حينما كان يتحدث عن الديمقراطية، قال إنها شيء جميل يبحث عن سعادة الإنسان، وحبذا لو كانت فيها أشياء تلبي أشواق الإنسان الروحية، أيضا، لأن الإنسان ليس جسدا فقط، بل جسد وروح، دنيا وآخرة. وحبذا لو نطعم الديمقراطية بأفكار أخروية، أشواق الروح مثلا، عندئذ ستظهر ديمقراطية مختلفة، ولم لا ننتج نحن هذه الديمقراطية ونقدمها للإنسانية.
من هو نوزاد صواش:
نوزاد صواش كاتب وباحث تركي، رئيس القسم العربي في مركز البحوث والعلوم والإنترنت باسطنبول، ورئيس تحرير مجلة "حراء" الصادرة باللغة العربية من تركيا، الموجهة إلى العالم العربي، والتي تصدر أكثر من 40 ألف نسخة. تخرج من كلية الإلهيات بجامعة مرمره إسطنبول سنة 1994، وحصل على الماجستر في الفقه الإسلامي، ثم الدكتوراه في الأدب العربي المعاصر. شارك في العديد من المؤتمرات المنعقدة بتركيا والعالم العربي، كاتب سيناريو لمجموعة من الأفلام الوثائقية حول التاريخ العثماني، والحضارة الإسلامية.
المصدر: جريدة "المغربية"، 16 مايو 2011.
- تم الإنشاء في