فونتين التركية .. العلم بنسمات الروح
على مدى سبعة عشر عاما ساهمت مجلة فونتين العلمية التركية في نشر الفكر العلمي والروحي ، إنطلاقاً من نظرة شاملة لطبيعة الكون والإنسان ، وتأسيساً على فكرة امتزاج العلم بالدين ، حيث لا صراع بينهما بل هما في الحقيقة وجهان لحقيقة واحدة.
ويعد المفكر الإسلامي فتح الله جولن الأب الروحي للمجلة ، حيث بدأ صدور المجلة في انجلترا عام 1993 ، وأشرف على إصدارها مجموعة من الأكاديميين الأتراك كقناة لنقل رسائل من حركة جولن الدينية للقراء حول العالم.
وفي عام 1999 ، انتقل مقر مجلة فونتين إلى الولايات المتحدة ، حيث يتم نشرها حاليا بالتعاون مع دار نشر "طغراء" بتركيا أحد أعضاء مجموعة "كايناك" للنشر، بإشراف شركة النور بولاية نيو جيرسي الأمريكية، ولديها مكاتب في إسطنبول وموسكو والقاهرة وسيدني وكوالالمبور، وحتى عام 2008 ظلت المجلة فصلية ، وحاليا أصبحت تصدر كل شهرين.
تصدر مجلة فونتين باللغة الانجليزية ويصل عدد قراءها إلى 25000 قارئ حول العالم معظمهم من المسلمين ، ولكن يوجد عدد كبير من القراء غير المسلمين في عديد من البلدان خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
رسالة الوسطية
يمكن النظر إلى مجلة فونتين على أنها مجلة وسطية فهي تتجنب التطرف والمغالاة ، كما أنها تمزج بين العلم والإيمان، وتعتبر أن التركيز على أحد هذين الجانبين دون الآخر يؤدي للتطرف بشكل أو بآخر. فالتركيز على التعاليم الدينية وحدها قد يؤدي للتعصب الأعمى ، بينما التركيز على العلم فقط قد يوصل المرء للشك.
لذلك تحاول المجلة أن تمس كل من قلب وعقل القارئ من خلال تغطية الجوانب العلمية والروحية ، فالكون كله كتاب مفتوح يحوي دلائل للقدرة الإلهية، والاكتشافات العلمية التي تفتح أبوابا جديدة وتكشف أبعادا أوسع تجعلنا ندرك أكثر جوهر ومعنى الخلق.
تتفاعل المجلة أيضاً مع الأحداث والمشكلات العالمية ، وتسلط الضوء على موضوعات حيوية، كالحفاظ على السلام العالمي، وقضايا التنوع الثقافي ، وتعزيز الرعاية الاجتماعية الشاملة للمجتمع ، والتعليم ، والرعاية الصحية ، والحفاظ على التوازن الايكولوجي والبيئي ، والطلاق ومشاكل المراهقين والشباب ، ووقايتهم من الانحراف.
كما تدعو المجلة من خلال موضوعاتها للقيم الأخلاقية العالمية ، مثل احترام ورعاية الوالدين ، واحترام المسنين ، وحماية الأسرة باعتبارها نواة لمجتمع سليم، والمحبة والرحمة للجميع ، والجوار ، والضيافة ، والإحسان ، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة.
وعلى حد قول هاكان ييسيلوفا مدير تحرير المجلة "تسعى فونتين إلى استكشاف ما يعني وجودنا ، وتشجعنا على التفكير في المسائل الوجودية للحياة البشرية : من أنا؟ من أين أتيت؟ ما هو معنى وجودي؟ ماذا يراد مني؟"، ويضيف هاكان "أعتقد أن فونتين هي واحدة من الدوريات القليلة التي تتبع نهجا متوازنا بشأن العلوم الطبيعية والاجتماعية وكذلك الإيمان بالله وتسعى إلى أن تكون منارة للتوجيه لمساعدتنا في التفكير بجدية في أدوارنا تجاه جميع المخلوقات في هذه الحياة ".
ويلخص هاكان رسالة فونتين في عبارة "قراءة الكون" ، مشيراً إلى أن تركيا لم تشهد تعارضا بين العلم والدين في تاريخها الطويل ، وأن العلماء المسلمين كانوا ذوي معرفة عميقة في مجال العلوم.
المقال الرئيس للمجلة يكتبه جولن، ولو استعرضنا بعض عناوين المقالات في أعداد مختلفة لتلمسنا بوضوح روح جولن وأفكاره وتعاليمه الروحية، على سبيل المثال : "الحضارة والخلط بين المفاهيم" ، "ماذا نتوقع من جيل الصالحين؟" ، "العالم ومكنوناته من وجهة نظر المؤمن" ، "الشوق للحب" ، "صراخ الصمت" ، "المؤمنون لا يسقطون مهما اهتزو" ، "من الأمس المشرق إلى الغد المشرق"، "في أعماق النفس البشرية" ،... وغيرها من المقالات التي تتضمن تعاليم جولن الروحية.
حوار الأديان
ربما يكون باب حوار الأديان من أهم أبواب المجلة حيث تسعى المجلة لإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم والحوار بين الأديان والحضارات، لذلك يساهم هذا الباب في إرساء مبادئ التسامح والتفاهم بين الحضارات بشكل بناء، فأعداد المجلة السابقة تضم مقالات هامة مثل : "ضرورة الحوار بين الأديان" ، "المبادئ التوجيهية للحوار بين الأديان والثقافات" ، "المبادئ التوجيهية للحوار بين المسلمين والمسيحيين" ، "الدين والعنف والمصالحة" ، "الحوار بين الأديان في تركي" ،.... وكثير من الموضوعات الأخرى التي تعني بحوار الحضارات.
وتؤكد المجلة على دعوتها لقبول الآخر وإرساء قيم التنوع والتعددية،لتكوين جيل من القراء الذين يعيشون بتوازن وفي وئام واحترام مع ذوي المعتقدات المختلفة بعرض وجهات نظر عالمية. وتعد حركة جولن الدينية وأفكار مؤسسها مصدر إلهام لمجلة فونتين، فجولن كما هو معروف عالم إسلامي تركي اشتهر بدعوته البناءة لتعزيز التفاهم المتبادل والتسامح بين الثقافات. وهو واحد من العلماء الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي ، وكان جولن قد تصدر قائمة أهم مائة مثقف في العالم التي أعدتها مجلة السياسة الخارجية في عام 2008. ويقيم حاليا في الولايات المتحدة ، وتعتبر حركة جولن رائدة في مجال الأنشطة التعليمية في عدد من البلدان ، إلى جانب الجهود المبذولة لتعزيز الأنشطة المشتركة بين الثقافات والأديان في جميع أنحاء العالم. وقد كتب ما يقرب من 50 كتاب باللغة التركية ترجم بعضها إلى لغات عدة.
وتشجع المجلة الكتاب على المساهمة في أبوابها المختلفة، وتشترط في الكتابات أن تتضمن تشجيع الاكتشافات العلمية التي تخدم الإنسانية ، وأن يوجه خطابها للجمهور العادي غير المتخصص، كما تقبل الموضوعات التي تدعو إلى تعزيز الإيثار والتفاني في العمل الإيجابي ، واعتماد نهج متعدد الثقافات ، وتهدف الى ايجاد توافق في الآراء بشأن القيم الإنسانية العالمية ، والتي تقدم خدمة لكسر الصور النمطية في الأذهان حول مختلف الثقافات والأديان ، وتشجيع الحوار في المجتمع ، والتأكيد على أن الإرهاب لا صلة له بالعقيدة الدينية.
كما نظمت المجلة في عام 2009 مسابقة للطلاب في كتابة المقال شارك فيها 250 طالب جامعي ، وكانت المسابقة خطوة هامة لتعزيز وتشجيع الكتابة لفهم أفضل للطبيعة والإنسان والكون.
العلم والإيمان
تغطي المجلة مجموعة متنوعة من الموضوعات بما في ذلك الإسلام والعالم الإسلامي ، والعلوم والتكنولوجيا والفنون والثقافة والمجتمع. وتدعو المجلة لضرورة اتباع نهج شامل لفهم طبيعة الكون والإنسان، كما تقوم بتشجيع التفكير النقدي والبحث العلمي بشأن طائفة واسعة من الموضوعات ، من بينها العلوم الطبيعية ، العلوم الاجتماعية ، والأخلاق ، والتعليم والأدب والدين ، والدراسات المقارنة.
تضم المجلة عدة أبواب ، إضافة إلى الافتتاحية والمقال الرئيس، ومن أهم أقسامها: القسم الديني والذي يغطي موضوعات دينية متنوعة. فعلى مدى الأعداد السابقة تناولت المجلة في هذا القسم موضوعات حول القرآن ، والسلام في الإسلام، والصلاة والصيام ،والمعجزات الإلهية، وعدة مقارنات بين الإسلام والمسيحية حول الصلاة والقيم الروحية، وبعض القيم القرآنية كالمساواة والخير والشر والتسامح وغيرها.
ومن بين العناوين التي اشتمل عليها القسم الديني والتي تدلل على هدف المجلة في المزج بين العلم والدين نجد مقالات مثل : "العلم والدين بين التنافر والوئام"، "هل تتفق المعاناة في العالم مع رحمة الله؟" ،"العلاقة بين النظافة البدنية والطهارة الخلقية" ،"الدين والبيئة" ،"مقاربة بين الإسلام والديمقراطية"، "الروحانية والدين في بيئة العمل"، "هل الدين نقيض العلم؟" ، وغيرها الكثير.
وفي باب التاريخ تناولت المجلة العديد من الموضوعات الخاصة بتاريخ وحضارة الإسلام خاصة في عهد الخلافة العثمانية، ورد الشبهات حول الاستبداد العثماني، إضافة للتأكيد على انجازات الحضارة الإسلامية وما قدمته للغرب.
ويتناول باب العلوم الاجتماعية كثير من القضايا المتعلقة بالمجتمع العالمي كذلك بمزجها بالدين فنجد عناوين ذات دلالة مثل: "الوحي:الحل السحري للمشكلات الاجتماعية" ، "المبادئ الاجتماعية في القرآن" ، "الأساس المنطقي لانهيار الحضارات" ، "الآثار الاجتماعية لنظرية التطور" ، "الإسلام والعولمة" ،....
وتحت عنوان "انظر...فكر...اعتقد" يأتي باب متخصص في تذكير الإنسان بعظمة الله في خلقه ، وبعض المعجزات في الكون وفي خلق الإنسان، ويقدم الكاتب عرفان يلماز منذ عام 2008 حلقات يبدأ عنوان كل حلقة بعبارة "إنه أنا يا بيتر" ، يروي فيها بشكل حواري شيق أهمية أحد أعضاء الجسم ، بدأها بالقلب ، ثم تناول أعضاء وحواس أخرى كالبنكرياس والمعدة والرئة والعين والأنف والأذن...... وسائر أعضاء الجسم ليذكر الإنسان بقدرة الله التي أودعها في جسده، ويستكمل باب العلم تناول معجزات الله في خلقه وفي الكون الفسيح ، إضافة إلى إطلالة على بعض المعجزات الكونية وكذلك الأسس الفكرية حول المفاهيم العلمية في الإسلام.
تضم المجلة أيضا أبواب خاصة بموضوعات طبية وبيئية وتربوية ونفسية، وثقافية وأدبية، ورؤى وحوارات وعروض كتب ، تدور كلها في نفس الإطار الذي يمزج العلم بالدين، إضافة إلى باب متخصص في الرد على تساؤلات وشبهات متنوعة من بينها: "لماذا تزوج الرسول بأكثر من واحدة؟" ،"هل للمرأة حقوق في الإسلام؟" ، "هل هناك مساواة بين الرجل والمرأة؟" ، "ما الغرض من الموت؟" ، "كيف نوازن بين البعد الروحي والدنيوي في حياتنا؟" ، "ما رأي الإسلام في المسيح وما حقيقة المهدي المنتظر؟" ،.... وغير ذلك من الأسئلة الشائعة والإجابات الشافية عنها.
ميثاق المدينة والتعددية
صدر هذا الشهر العدد76 لشهري يوليو وأغسطس ويضم باقة منوعة من الموضوعات ذات الاهتمام في مجال العلم والإيمان.
يدور العدد حول النظام الداخلي للحياة، فيكتب جولن المقال الإفتتاحي بعنوان "البعد الداخلي للوجود" ، والذي يعتبر فيه التفكير العميق في الوجود هو الطريق المختصر للإيمان، الذي يوصل للمعرفة الحقة بالله والحب والتفاني في العبودية والبعد عن كل ما يقسي القلب من مشاحنات وعوارض دنيوية.
وفي نفس العدد يكتب جولن أيضا مقال عن حسن الخلق ، وقصيدة شعرية بعنوان "عالم الحماسة".
يحتوي العدد أيضا على مقالات لكتاب ومفكرين أتراك ، فيستكمل عرفان يلماز حلقاته الحوارية حول أعضاء الإنسان وعنوان حلقة هذا العدد "إنه أنا يا بيتر.. جهازك المناعي" . كما يكتب فالج جلجي مقالا بعنوان "أثر الفن الإسلامي على الفنان موريس إيشر" ، وكتب عبد الله أكبينار مقال بعنوان "رؤية جمالية: تحور الألوان في الخريف" ،وكتب سيجميد أوجريتيم حول الصيام والجوع وتفاعله مع النفس البشرية، وكتبت جولي آن عن موسيقى الكون ،وفي قسم أسئلة وأجوبة كتب حكمت آسيك عن طريقة التأمل.
يضم العدد موضوعات أخرى أدبية ولغوية وصحية ، ومقابلة مع مصطفى تابلني العالم التركي، واستعراض لعدة مقالات أجنبية تدور حول الجانب الروحي والإيماني.
أما الموضوع الذي نتوقف عنده اليوم فهو مقال لسيان ويليام وايت المتخصص في التاريخ الإسلامي ، حيث نشر المقال في باب حوار الأديان تحت عنوان "وثيقة المدينة المنورة والتعددية".
حيث يشير إلى أن صراع الحضارات والثقافات والقبائل والأديان هو ظاهرة سائدة في كل المجتمعات عبر التاريخ ، والتاريخ نفسه يكشف عن أن كثير من الصراعات المعقدة لم تحل بوسائل عسكرية بل بجهود الوساطة والحوار، ويضرب مثالا على ذلك بوثيقة المدينة المنورة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم فور هجرته إلى المدينة المنورة ، والتي يمكن اعتبارها بمثابة معاهدة سلام بين كافة الطوائف التي سكنت يثرب وظلت على مدى سنوات في تشاحن وحروب متواصلة، فأرست مبادئ التسامح والحوار بين هذه الطوائف وأقرت حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع ،ووفق مبدأ "لا إكراه في الدين" أصبح لليهود مجتمعهم الذي يمارسون فيه شعائرهم بحرية رغم عدم اعترافهم بسلطة النبي صلى الله عليه وسلم ،ورغم عدم اعتناقهم للإسلام.
وبالتالي ظهر في المدينة المنورة أول مجتمع تعددي يقوم على التسامح وحرية الاعتقاد فلم يفرض النبي الإسلام على أهل المدينة المنورة، ولم يقم بتهديد الذين ظلوا على دينهم، بل عاشت جميع الطوائف متحدة تحت لواء المبادئ والأخلاق ومراعاة القواسم المشتركة بين الجميع.
ويمكن اعتبار ميثاق المدينة المنورة أول دستور مكتوب في الدولة الإسلامية التي توسعت فيما بعد في أنحاء العالم بنفس هذه المبادئ السمحة التي نشرتها في جميع الأرجاء، ويحاول الكاتب تحليل هذا الميثاق ليقدم فكرة أوضح عن موقف الإسلام من التعددية الدينية، ويؤكد على أن هذه الوثيقة تدل على أن الإسلام هو دين التوحيد الذي يحترم حقوق الأديان الأخرى.
وفي ظل عالمنا المعاصر خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر نصبح أحوج ما نكون لمثل هذا الميثاق، فنحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتفاهم المتبادل لأنه الوسيلة لتحقيق السلام والاستقرار، وإذا كان هذا الميثاق نجح في تحقيق السلام في المدينة المنورة من خلال تسامح الإسلام ونبذ العنف ، فإنه يثبت أيضا أن الوساطة السلمية هي أنجع وسيلة لتسوية المنازعات وأن الاحترام والتسامح هما جوهر السلام، وأن المحبة والحرية والقبول أسس للتعددية التي تحقق الاستقرار في المجتمع.
أمل خيري 28-07-2010
- تم الإنشاء في