فتح الله كولن.. الواعظ المتجوّل الذي تحوّل إلى سفير تركيا عبر العالم
نجح المفكر التركي، فتح الله كولن، الذي بدأ حياته واعظًا متجوّلا عبر مساجد تركيا، في التأسيس منذ سنوات لتيار "الخدمة الإيمانية"، لدرجة كرّس معها لظهور ما يُسمّى بـ"حركة كولن"، ويوجه هذا التيار ألفي مدرسة وعشرين جامعة متميزة في مختلف التخصصات منتشرة في تركيا وفي 6 قارات و160 دولة عبر العالم، والكثير من المؤسسات الإعلامية الكبيرة وحتى الاقتصادية. ويُقدّم هذا النسيج من المؤسسات خدمات جليلة لتركيا عبر نشر لغتها، والتعريف بثقافتها على أساس أنّها مكوّن رئيس من مكوّنات الثقافة والحضارة الإسلامية. ويعيش فتح الله كولن في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحظى بسمعة كبيرة هناك، ويكفي أن نقوم بنقرة واحدة باسم فتح الله كولن على الانترنت، لنحصل على مئات المواقع التي تتحدّث عن هذه الشخصية.. وأغلب هذه المواقع أمريكية، ما يدلّ على الاهتمام الكبير الذي توليه الولايات المتحدة لهذا الرجل.
في هذه الندوة، يتحدث الدكتور نوزاد صواش المشرف العام على مجلة "حراء" الموجّهة إلى العالم العربي، وهو أحد الذين تتلمذوا على يد فتح الله كولن؛ والدكتور محمد جكيب، أستاذ جامعي من المغرب ومهتمّ بفكر كولن.. وهذا للحديث عن مشروع كولن الفكري والحضاري، وعلاقة ذلك ببعض المشاريع الإصلاحية التي انطلقت في العام العربي والإسلامي، وما هي خصوصية "حركة كولن"، هذه الحركة التي انتشرت عبر الكثير من دول العالم.
الذي يطّلع على تجربة فتح الله كولن الملقّب في تركيا بـ" أبي الإسلام الاجتماعي"، يستدعي مباشرة تلك الصورة المشرقة للشيخ المصلح العلامة عبد الحميد بن باديس، مع فارق بسيط في الظروف، ومدى التأثير الذي تركه على الشخصية الجزائرية.. والسؤال: الكثير من العرب يجهلون شخصية فتح الله كولن، هذه الشخصية العابرة للحدود والقارات، إلام يعود ذلك؟ وهل تعرفون في تركيا شخصية عبد الحميد بن باديس وأثره على المجتمع الجزائري؟
نوزاد صواش:
اذهب إلى تركيا واسأل عن ابن باديس أو مالك بن نبي، ستجد قلّة ممّن يعرفهما، وهذا يعبّر عن خلل في العالم الإسلامي. هناك مشكلة ما في التعامل بين تركيا والعالم العربي خاصة. بالنسبة لفتح الله كولن، لماذا لا يعرفه العالم العربي، هناك أسباب كثيرة منها شخصيته وخلقه الامّحائي، لأنّه يحرص على الفعل وليس على القول، كما يُقدّم لسان الحال على لسان القال، وتقليل الإنجاز مهما كان ضخما لعدم الرضى بالعمل الذي تقوم به، لأنّه لا وقت لديك للدعاية والترويج لعمل تؤمن بأنه تمّ بفضل الله.
محمد جكيب:
هذا سؤال كبير، لماذا لا نعرف كثيرا عن مثقفينا؟ قد نتصوّر أنّنا في العالم العربي نعرف ابن باديس، لكن هذا ليس مؤكدا بأنّ باقي العالم الإسلامي يعرفه. في وقت من الأوقات أُريدَ لنا أن تكون هناك حواجز بيننا، ساهمت فيها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية. إذا ذهبت إلى تراث الفكر الإصلاحي، لا تجد إلا أعلامًا بعينهم، وفي نهاية المطاف هم قلّة. لم نكن كعرب نعرف شيئا عمّا يجري في تركيا، للقطيعة التي كانت بين الجانبين. ولعلّ أبرز مفكري الإصلاح الذين تمكّن العرب من معرفتهم، بديع الزمان النورسي، واليوم تبرز صورة وشخصية فتح الله كولن، ظاهر الحال يوحي أنّه غير معروف، إذا دخلناه بمفاتيح عربية، أما بمفاتيح غربية، فنجد أنّه أشهر من نار على علم. مشكلتنا في المغرب العربي، أنّنا ننتظر دائما ما يأتينا من فرنسا على الخصوص. إذا دخلت الشبكة العنكبوتية، تجد أنّ أغلب المواقع التي تتحدث عن فتح الله كولن أمريكية، وكثير منها يتكلّم عنه باحترام كبير.
إلام يُمكن إرجاع بعض خيارات هذا المفكّر، خاصة ما تعلّق منها باختياره الإقامة في الولايات المتحدة، هو يبرّر ذلك بدواعي صحية؟
نوزاد صواش:
ليس بالضرورة تحريك قصص حول وجود شخص هنا أو هناك، خاصة وأنّ كولن يملك رؤيا حضارية تجعل من الضروري أن يتواصل مع من يُمكنه التواصل معهم، الغريب أن يبقى الإنسان محصورا في بلده، وهذا مآله الانتهاء. الإنسان الكبير عندما يُنتج شيئا ذا فائدة، ينطلق به نحو العالم، كما أنّ سفرات كولن إلى الغرب عموما لها دوافع صحية، لأنّه مصاب بالسكري والقلب. وتركيا الآن لا تحتاج إلى كولن لأنّه ربّى أجيالا تتابعه باستمرار من خلال دروسه وكتبه.
محمد جكيب:
أكيد هناك دوافع صحية، والرجل ليس بطبعه مستسلما للمرض، وهو يُنتج بل خُلق لينتج. أظن أنّ أهمّ شيء يُقدّمه وهو في أمريكا، رسالته للمهاجرين أينما كانوا، ومفادها أنّ عليهم الاندماج في المجتمع بثقافتهم وهويتهم. الآن في أمريكا، حتى الأمريكيين أنفسهم، يقومون بإنجاز أفكاره مثل فكرة "شارتر سكول"، التي تقوم على أنّ الدولة تُسلّم المدرسة إلى من يُشرف عليها، على أن يقتصر دور الدولة في دفع الرواتب وتسطير المناهج، وقد نجحت هذه التجربة في بنسلفانيا، وصارت من أهمّ المدارس فيها.
نوزاد صواش:
لا تنس أيضا أنّ وجود الأستاذ فتح الله كولن بالولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، له دلالة رمزية من خلال العمل الإيجابي وفلسفة التواصل والتعايش مع الآخر التي جسّدها.
على أيّ أساس يبني كولن هذه النظرة؟ ثانيا المغرب خاض تجربة مدارس الخدمة، ما النتائج التي تحققت من خلال هذه التجربة؟
محمد جكيب:
هناك مشكل بالنسبة للكثير من الكتّاب العرب، الذين تناولوا مشروع "الخدمة"، وهو مشروع كولن، فنجد صنفا من هؤلاء يُخطئُ الباب، لأنّ كتاباتهم متسرّعة، ولم تستوعب حقيقة ما تكتب، فوقع الخلط، وعندنا في المغرب، البعض اختلطت عليه الأمور. يوجد فرق بين من يشتغلون على الشعارات، ومن يشتغلون على تهيئة البنية التحتية، وهو ما يحتاج إلى وقت لتظهر نتائجه. إن فتح الله كولن ترك بصمته في مشروع "الخدمة". أما عن سؤال مدارس الخدمة في المغرب، فهي ككلّ المدارس التي تُطبّق المناهج المغربية. الفرق بينهما فقط في الروح التي تُطبّق هذه المناهج، والتي يميّزها الصدق.
نوزاد صواش:
المدرسة نموذج، وأصعب شيء هو وضع النموذج والرؤية لتثبت نجاعتها بعد ذلك وتتفاعل مع أهل البلد، ثم إذا رأى أهل البلد أنّ العمل نافع لهم انطلقوا فيه. مدرسة كولن تُعلّم السلوك مع القيم وتبني المجتمع، لأنها تقوم على تجسير العلاقة بين الأسرة والمدرسة. أما عن العلاقة بين السياسة والأستاذ فتح الله كولن، فإن مفهوم العمل السياسي بهذا الثوب استوردناه من أوربا، وهو قائم على الصراع. السياسة لا تجمع المجتمع، لذلك فإنّ كولن مصلح لم يختر دخول هذه الحلبة، وأراد بناء مجتمع صالح. انظر إلى تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم، تجد أنّ المجتمع المدني هو الذي بنى الدولة.
ما مدى التقاء فكر فتح الله كولن مع الفكر الإخواني الذي يُراهن هو أيضا على بناء المجتمعات؟
نوزاد صواش:
عُضويًّا لن تجد أيّ تواصل بينهما. الأستاذ كولن ينطلق من المنهاج النبوي، ويراهن كثيرا على بناء الإنسان من الداخل، وبدون ذلك لا يمكن بناء مجتمع صالح نقي. وإن التقى كولن في ذلك مع حسن البنا، وابن باديس وغيرهما من المُصلحين، فقد التقى الجميع في المنهاج النبوي.
محمد جكيب:
هذا السؤال يُطرح كثيرا، وإذا وقفت عند ما كتبه العرب، ستجد سؤالا مباشرا عن هوية "الخدمة" وعلاقتها بالإخوان، أظن بأنّ أهمّ شيء يجب الوقوف عنده هو مفهوم السياسة. فتح الله كولن، فكّر فوجد أنّ المشتغلين بالسياسة لا يمثّلون سوى ما نسبته 5 بالمئة، بينما 95 بالمئة تمثّلها باقي القطاعات، فاهتمّ بالنسبة الأكبر، وهنا يكمن الفرق. ثانيا عندما نتكلّم عن المنجَز، نجد اختلافًا أيضا.
يُقدّم البعض فتح الله كولن على أنّه صاحب التأثير الحقيقي في شخصية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ما مدى صحة ذلك؟
نوزاد صواش:
فكرة كولن في لبّها إيجابية لا صدامية، سلمية تعتمد الحكمة وعدم الاستعجال، ولا تؤمن أنّ التغيير يتمّ بجَرّة قلم. قد يكون السياسي التركي الجديد آمن بأنّ الخطاب القديم الإقصائي المُنمَّط لم يعد يصلح، فتراجع عنه لصالح الخطاب الحكيم، وفي هذه النقطة قد يكون التقى السياسي مع فكر كولن.
إجمالاً ما النتائج التي جنتها تركيا من فكر وإنجازات فتح الله كولن؟
نوزاد صواش:
لفتح الله كولن دور أساسي، تركيا كانت منغلقة على ذاتها، ولم تكن لديها ثقة بالنفس. في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بدأ كولن فتح مدارس في كلّ مكان من العالم، وهذا الانفتاح التربوي الذي دعّمه بالعديد من الوسائل الإعلامية والاقتصادية، دفع التاجر التركي الذي كان يخاف أن يخرج من قريته، إلى ارتياد العالم وكأنّه قريته. كولن هدفه مثلما ردّد دائما "إقامة سلطنة القلوب على وجه الأرض".
هل هناك مبادرات، سواء تحت قبعة الجامعة العربية، أو حتى من دول عربية منفردة، لفتح مدارس لتعليم اللغة العربية في تركيا؟
محمد جكيب:
مشكلتنا في العالم العربي في أن نتعلّم كسر القوقعة، لنخرج إلى الآخر. نحن قادرون على أن نذهب إلى تركيا وغيرها بثقافتنا. أهمّ ما نتعلم من فكر كولن، أن تعتمد على ثقافتك الذاتية، والجميل عند فتح الله كولن، أنّه لا يوجد تلميذ من تلامذته لا يفهم ولا يتكلم اللغة العربية، وحلقات الدرس عنده تتمُّ أيضا بالعربية.
نوزاد صواش:
الأتراك لا يفرضون أنفسهم على الآخرين، وإنما يستفيدون من أيّ مكان يتواجدون فيه بما في ذلك العالم العربي. المجتمع عندنا يتحرّك بنوايا صافية، والتحوُّل في تركيا هو تحوُّل مجتمعي، والسياسي يتكيَّف مع ذلك. ومشروع كولن لا ينسى بلده ليتصادم مع الآخر، هو يعتبر نفسه مسؤولا عن كلّ الإنسانية، وهو يُحاول أن يخدم شقيقه، ولا يغضّ الطرف عمّن يختلف عنه، وهو ينطلق في ذلك من فكرته ومشروعه الإنساني، حيث يقول فتح الله كولن "الإنسانية كلّها في أمسّ الحاجة إلى الإسلام".
المصدر: ميلود بن عمار، 22 نوفمبر 2012.
- تم الإنشاء في