الفصل الأول: حَولَ مَفهُومِ الْجِهَاد

1-ما الجهاد؟

الجهاد: كلمة مشتقة من جذر: (ج - ﻫ - د)، وهي تعني بذْل الوسع. والكلمة تحمل معنى آخر وهو بذل الإنسان كل ما في وسعه وطاقته وتحمّله المشاقّ في سبيل الوصول إلى هدف معلوم. وهذا التعريف أقرب إلى معنى الجهاد في معناه الشرعي.

إن مفهوم الجهاد قد كسب ميزة أخرى بظهور الإسلام، إذ صار عَلَماً على تحقيق إيصال الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى بإزالـة العوائق بينه وبين الله تعالى. وحيثما يُذكر الجهاد في الوقت الحاضر يرد هذا المعنى على البال.

إن الجهاد في سبيل الله يجري في جبهتين اثنتين: الأولى، موجهة إلى الداخل. والأخرى موجهة إلى الخارج. ويمكننا أن نعرّف كلاًّ من الجهاديْن بالآتي: إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية إيصال الإنسان إلى ذاته وإلى ربّه. أما الجهاد الآخر الموجه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربّهم. ويطلق على الأول "الجهاد الأكبر" وعلى الثاني "الجهاد الأصغر". حيث إن الإنسان بالأول يبلغ معرفة نفسه بعد اجتيازه العقبات بينه وبين نفسه حتى يبلغ معرفة الله ومحبة الله والذوق الروحاني. أما بالثاني فتتحقق بإزالة الموانع بين الإنسان والإيمان بالله سواء بالنضال أو القتال، لإيصاله إلى الله تعالى ومن ثم التعرّف عليه والعروج في معرفته.

والجهاد من زاوية أخرى هو غاية خلق الإنسان، فلا مهمة على الأرض أفضل من الجهاد. إذ لو كان الأمر خلاف هذا لَما كان الله سبحانه يرسل أنبياءه بتلك الوظيفة. فجميع الأنبياء والأصفياء منذ آدم عليهم السلام قد بلغوا -بصورة عامة - مرتبة الاصطفاء والإِجتباء إمّا تحت ظلال السيوف أو بمحاسبة النفس.

ومن هنا فالبون شاسع بين القاعدين عن الجهاد بغير عذر وبين المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لا يسدّه أيّ عمل كان غير الجهاد. والآية الكريمة الآتية توضح ذلك:

﴿لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْــنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾(النساء:95).

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبيّن أهمية الجهاد بالآتي:

"لَوَدِدتُ أنّي أُقتَلُ في سبيل الله ثم أُحيا ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل".[1]

والله أعلم كم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكرر: "ثم أُقتل ثم أُحيا" إن لم يخش الإطالة في الكلام، إذ المقصود من هذا التعبير هو الاستشهاد في سبيل الله بغير حصر. والذي يدعو إلى التأمل، أن هذه الرغبة والأمنية تصدر من سيد المرسلين وإمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي يقول أيضاً:

"رِباطُ يَوم في سبيل الله خَيرٌ من الدنيا وما عليها ومَوضِعُ سَوْطِ أحدِكم من الجنة خَيرٌ من الدنيا وما عليها والرَّوْحَةُ يَروحُها العَبْدُ في سبيل الله أو الغَدْوَةُ خَيرٌ من الدنيا وما عليها".[2]

2-الجهاد أمر إلهي

إذا أردنا أن نوجز الجهاد كأمر إلهي عبْر سيره التاريخي متمثلاً بسِيرة الصحابة الكرام الذين خوطبوا به لأول مرة نقول:

إن الأحداث تبين أن الظروف المحيطة بالمسلمين في مكة المكرمة بلغت حدًّا لا يطاق، حتى نفدت طاقة بعضهم فأُمروا بالهجرة.[3] بمعنى أن جهاد هؤلاء -في هذا الظرف- هو الهجرة. وفي الحقيقة أنه بعد مدة -كما سنرى- ستكون الهجرة هي الجهاد بعينه. وسيؤمر كل من أراد البيعة بالهجرة كشرط أولي.

ولقد هاجر المسلمون جميعهم إلى المدينة بعد هجرتي الحبشة.[4] وبهذا أخذ الجهاد نمطاً آخر في العهد المدنيّ، إذ أرسيت أسس الدولة الإسلامية. فينبغي الجهاد إذن وفق الظروف ووقتها. ولا اختلاف في ماهية الجهاد وكيفيته، وإنما الأمر في كيفية تقويم الأمور حسب الأوضاع والظروف في حالها. والمهمّ الحفاظ على قابلية المناورة بجديتها وجدّتها، مما كان يتطلب السرعة أحياناً والبطء والهدوء أخرى، بل التوقف أحياناً وغاية السرعة أخرى. وكل ذلك يعدّ من جوانب استراتيجية الجهاد. ومن الطبيعي جدًّا اتخاذ أوضاع متباينة وفق اختلاف أحداث الزمان.

قبل الإذن بالجهاد لم يحرك المسلمون ساكناً ولم يردّوا بالمثل قط على الاعتداءات والتجاوزات على حقوقهم، أي إنهم قاوموا مقاومة سلبية، بل حتى لم يفكروا بالمقابلة المادية، وكان الباغي دائماً جبهة الكفر، والمسلمون في وضع المظلومين والمهضومي الحقوق. واستمر الوضع على هذا المنوال مدة بعد الهجرة، وأخيراً أُذن للجناح الآخر بالجهاد ونـزلت الآية الكريمة الآتية:

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج:39-40).

فالذين مُنعوا من استعمال السيف أصبح يؤذن لهم بالتسلح. فاندفعوا بحماس إلى إنفاذ الأمر، إذ كانوا يترقبون بنفاد صبر الموضع الملائم لاستعمال هذا الإذن.

وبعد مدة أصبح الجهاد ليس إذناً فحسب بل أمراً إلهيًّا. وأصبح المسلمون بعد ذلك مضطرين إلى الجهاد المادي بسيوفهم، حتى إنهم عندما خرجوا إلى بدر كانوا يرفلون بالفرح والسرور وكأنهم ينادَون من الجنة. فهان عليهم ذهاب أموالهم وأنفسهم. نعم كانوا جميعاً ينتظرون الشهادة بلهفة وشوق عارم، ولهذا لم يتخلف أحدٌ منهم دُعي إلى الجهاد قطّ، إلاّ المنافقين الذين يبثّون روح الفساد في صفوف المجاهدين، فكثيراً ما تركوا الجبهة وفارقوا الجماعة وتركوا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتباطأوا عن الجهاد في أشد الأوقات حراجة. فهؤلاء لم تعرف دواخلهم صفاء الإيمان، ولم يغلبوا النفاق في عالم ضمائرهم ووجدانهم، حيث انهمكوا بحظوظهم الشخصية وانعزلوا عن رفقائهم المجاهدين في خط النار في ساحة الوغى. حقًّا إنهم ذَوو أرواح سافلة وأُسَراء النفس والهوى.

أما المؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً باشَر قلوبهم وأرواحهم، فلم يترك أحد منهم قط موضعه، أي لم يتراجع أحد بُلّغ بالجهاد عن مرضاة الله، وأصبح من الواصلين إلى الله. فالذين قعدوا وتخلفوا هم الحائرون المتردّدون الذين لم يدركوا الحقيقة حق إدراكها ولم تباشر أرواحهم وضمائرهم.

نعم، إن المؤمن المجاهد بشَر كأي بشر آخر، يمكن أن يَكره الموت كما يذكّرنا القرآن بهذا الشعور: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:216). ولكن على الرغم من أن هذا مغروز في فطرة الإنسان فإن الصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين انقادوا إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم دون قيدٍ أو شرط وسلّموا أمرهم إليه بغير حرج في صدورهم. ولهذا تنـزلت عليهم الألطاف الربانية تترى، لصفاء طاعتهم وقوة انقيادهم. وهكذا تعاقبت الإنتصارات الواحدة تلو الأخرى. فازدادت قوة المسلمين يوماً بعد يوم، وكانت بشارات النصر تنتشر بسرعة في القبائل. فمثلما يفرح المسلمون بها يحزن بها الكفار.

3-أنواع الجهاد

آ-الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر

الجهاد الأصغر ليس هو شكل الجهاد الذي يؤدَّى في جبهة القتال فحسب، فهذا النمط من الفهم يقلّص أُفق الجهاد، حيث إن مَيدان الجهاد واسع جداً يمتد من الشرق إلى الغرب، وعلى سعته وشموله قد يكون كلمة واحدة أو سكوتاً وصمتاً أو تبسّماً وطلاقة وجه أو امتعاضاً ونفورا أو تركاً لمجلس أو مشاركة فيه.. وباختصار هو القيام بأي عمل من الأعمال لوجه الله، وتقويم الحب في الله والبغض لله في هذا السبيل... ومن هنا فإن كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في أي ميدان كان من ميادين الحياة ولأي شريحة من شرائح المجتمع. كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي. بمعنى أن ما يُؤَدَّى في ميدان العائلة والأقارب القريبين والبعيدين والجار ذي الجنب والصاحب بالجنب، كل ذلك هو من الجهاد الأصغر. فهي كدوائر متداخلة واسعة سعة الأرض كلها.

نعم، إن الجهاد الأصغر في معنى من معانيه جهاد مادي. أما الجهاد الأكبر الذي يشكل الجانب المعنوي من الجهاد فهو جهاد الإنسان لنفسه وعالمه الداخلي. فمتى ما أُوفى حق هذين الجهادين معاً فقد تأسس التوازن المطلوب. وبخلافه، أي إذا ما نقص أحد هذين الجهادين اختلت الموازنة الموجودة في روح الجهاد.

فالمؤمن هو الإنسان الذي يجد هدف حياته ضمن هذه الموازنة في أدائه الجهاد، ويدرك أنه متى ما ترك الجهاد فُقدت الحياة. نعم، المؤمن كالشجرة المثمرة تحتفظ بحيويتها طالما تثمر، وإذا انقطعت عن الإثمار يبست وفنيت.

إذا شئتم أمعنوا النظر في وجوه جميع المتشائمين، تجدوهم قد تركوا الجهاد، فقطع المولى الكريم عنهم فيوضاته لأنهم لا يبلّغون الحق والحقيقة إلى غيرهم. فأظلم عالمهم الداخلي وغدَا قاسياً جاسياً. وانظروا إلى المجاهدين تجدوهم في نشوة وحبور دائمين وعالمهم الداخلي مملوء بالنور ومشاعرهم نابضة بالحيوية والرقة، لما يسعون إليه من تحويل الفرد الواحد إلى الألف. نعم إن كل جهاد يولّد لديهم جهاداً آخر، وكل خير يكون وسيلة لخير آخر، لذا فهم يجولون ويصولون في الخيرات. والآية الكريمة تخاطب وجداننا بهذه الحقيقة:

﴿وَالَّذِيـنَ جَاهَـدُوا فِينَـا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِـنِينَ﴾ (العنكبوت:69).

بـ-الطرق المؤدية إلى الله

الطرق المؤدية إلى الله مختلفة ومتنوعة وهي بعدد أنفاس المخلوقات. ولا ريب أنه سبحانه وتعالى يهدي الذين يجاهدون في سبيله إلى إحدى هذه الطرق أو إلى عدد منها، فيضع سبل الخير كلها أمامهم ويحفظهم عن طرق الشر.

إن طريق الله سبحانه هو الصراط المستقيم، فمن وجده فقد وجد الصراط السوي الوسط. نعم، فكما أن الصراط المستقيم هو الوسط بين الإفراط والتفريط في القوة الغضبية والعقلية والشهوية، كذلك هو الوسط في الجهاد والعبادة، حيث يأخذ المؤمن الوسط دائماً. أي أن الله سبحانه يهدي الإنسان إلى صراطه السوي الوسط.

إن الجهاد الموجّه إلى الخارج مهما بلغت فيه التضحية والفداء فإنه بمجموعه يعدّ ضمن الجهاد الأصغر، وكونه جهاداً أصغر إنما هو بالنسبة للجهاد الأكبر، وإلاّ فليس فيه جهة صغيرة قطّ. بل العكس هو الصحيح لأن ما يُكسبه من نتيجة هي عظيمة للغاية، وكيف لا تكون عظيمة وهي ترشح المجاهد للدخول إلى الجنة، وإذا ما استشهد فله الحياة الكاملة في البرزخ. ولا شك أن المقصود هو نَيل رضى الله في ختام الجهادَين. وكيف يكون صغيراً جهاد له هذه النتائج الجليلة؟

فالجهاد الأصغر إذن هو تنفيذ أوامر الدين عملياً وأداء ما كُلّف به الإنسان. أما الجهاد الأكبر فهو إعلان الحرب على جميع العقبات والعوائق الكامنة في النفس الإنسانية التي تعيقه عن الكمالات من حقد وحسد وأنانية وغرور وكبر وفخر وأمثالها من الأمور التي جبلت عليها النفس الأمارة بالسوء. فهذا الجهاد عسير وشاق ولهذا سمّي بالجهاد الأكبر.

إن دوَران الحياة في فلك الأنانية خطر جسيم، والإنسان طالما هو في حومة الجهاد المادي لا يجد فرصة -في اغلب الأحيان- للإنصات إلى مطاليب نفسه، فيكون قد تجاوز هذه الخطورة، ولكن ما إن يُترَك الجهاد المادّي حتى تشرئب النفس بعنقها وعندها يداهم الخطر صاحبها حيث يعني هذا ضمور حيانه القلبية والروحية.

فالشخص المعرّض لمثل هذا الموقف تحيط به الأفكار الفاسدة من جهاته الأربع وتتعرض حياته المعنوية إلى الشلل. ولهذا يصبح من الصعوبة بمكان أن يحافظ الإنسان على نفسه من دون القيام بالجهاد المادي. لذلك فإن أصعب المصاعب هو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من إحدى الغزوات حيث قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".[5]

والحديث الشريف يعني: أننا آمنا وشرُفنا بالجهاد والاشتراك في الغزوات، وربما غنمنا بعض الغنائم.. وبعد ذلك ربما يسري إلى نفوسنا حب الدعة والراحة والارتخاء بل ربما يراود بعضنا الشعور بشيء من الإعجاب، فيتسرب من نفوسنا الأمارة -بطرق شتّى- إلى أرواحنا ويفسدها. بمعنى أن مخاطر مهلكة كثيرة تنتظرنا بعد الجهاد المادّي. فالنضال الذي سنخوضه بعد ذلك هو أصعب وأكثر جدية، فلا بد إذن من الاحتفاظ بحالة الحذَر الدائم والاستعداد المستديم.

فالمخاطب بهذا الحديث الشريف، فضلاً عن الصحابة الكرام، هم الذين يأتون من بعدهم، ونحن منهم بالذات. ولهذا ينبغي أن نظل حذرين جدًّا في استعمال هذا الميزان. فإن كان الإنسان يوجه حركاته في الجهاد إلى الخارج وحده بعيداً عن مراقبة النفس، فهذا يعني أنه على شفا جرف من الخطر الجسيم.

جـ-ما يخصه صلى الله عليه وسلم

كان أناسي خير القرون -عصر النبوة- كالأُسد في الوغى، ولكن ما إن يرخى الليل سدوله حتى تراهم كالرُّهبان المتبتّلين يقيمون الليل كله في عبادة وذكر وتسبيح إلى الفجر، وكأنهم كانوا فارغين في النهار وليسوا أولئك المجاهدين الذين اقتحموا المهالك، بل زهّاداً منقطعين للعبادة وحدها..

نعم هكذا شاهدوا الأمر من رائدهم ومرشدهم ونبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم. ولنعرض هنا بضعة نماذج:

كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنموذجاً ومثالاً للشجاعة فيَروي سيدنا علي رضي الله عنه وهو البطل الشجاع ويقول: "..كُنّا إذا احْمَرَّ البَأْسُ ولَقِيَ القَومُ القَومَ اتّقَينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منّا أحدٌ أَدنى من القَوم منه".[6]

ومثلاً في غزوة حنين "..طَفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْكُض بَغلَتَه قِبَلَ الكُفّار قال عبّاسٌ وأنا آخذٌ بلجام بَغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكُفُّها إرادةَ أنْ لا تُسْرِعَ... وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطّلب يقُودُ به فنـزل فاستَنْصر وقال:

أنا النّبيُّ لا كذِبْ        أنا ابنُ عبدِ الـمُطَّلب.."[7]

فهذا المثال الرائع صلى الله عليه وسلم والأنموذج الكامل للشجاعة والإقدام والبطولة، كان في عباداته كذلك في منتهى العبودية حتى يُسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء[8] ويدفع مَن حوله إلى رقّة القلب كلما سكب الدموع،[9] وكان يصوم أياماً حتى يقال إنه لا يفطر[10] بل كان يصوم حتى صوم الوصال،[11] وكان يقيم الليل كله أحياناً حتى تتورم قدماه. "عن عائشةَ رضي الله عنها أنّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقومُ من الليل حتّى تتَفطّرَ قَدَماه، فقالتْ عائشةُ: لِمَ تَصْنعُ هذا يا رسولَ الله وقد غفَر اللهُ لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أُحِبُّ أنْ أكون عبدا شَكورا!".[12]

وفي أثناء وجوده في غار ثور من دون مبالاة بما يخفيه من حيّات وهوام، وقد بلغ المشركون باب الغار، فجزع أبو بكر رضي الله عنه خشية أن يطّلع عليهم أحد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الاطمئنان والسكينة: "يا أبا بكرٍ ما ظنُّك بِاثنَين اللهُ ثالثُهما.. لا تَحزَن إنّ الله معنا".[13]

فهذا الإنسان الذي لا يعرف الخَوف قطعاً عندما يسمع القرآن يرق قلبه حتى تنهمر الدموع منه وتكاد تتقطع أنفاسه. "عن عبد الله بنِ مسعود قال: قال لِي النّبي صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ علَيَّ. قلتُ: يا رسول الله آقْرَأُ عليك وعليك أُنْزل؟ قال: نعم. فقرأتُ سورةَ النّساء حتّى أتَيتُ إلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا﴾ قال: حسْبُك الآنَ. فالتفَتُّ إليه فإذا عَيناه تَذرِفان".[14]

إنه إنسان القلب الحيّ والضمير اليقظ، وهو السابق الأول دوْماً في الجهاد المادي والجهاد المعنوي. فحينما يحث أمته على الاستغفار يكون هو في المقدمة ويقول: "واللهِ إنّي لأَستغفرُ اللهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّةً"[15] ألا ما أعظم هذا الكلام في حثّه على التأمل والتدبر.

إن الذي ظفر في الجهاد الأكبر يمكن أن يُنظر إلى أن جهاده الأصغر -على الأغلب- محقق ظفره فيه، بينما لم يُشاهد أحد خسر في الجهاد الأكبر وظفر في الجهاد الأصغر إلا نادراً جداً. فهؤلاء لا يبلغون النتيجة وإن أمكنهم قَطع بعض المسافة إليها.

"عن ابن عمر -يخاطب أمنا عائشة رضي الله عنهما-: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وقالت: كلّ أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي، ثم قال: ذريني أَتَعبَّدْ لربي [ألا ما ألطفه صلى الله عليه وسلم يستأذن زوجته ليتعبّد ربه]. قالت: فقلت: والله إني لأحب قُربَكَ وإني أحب أن تعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء. ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر. فقال: ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أُنـزل عليّ في هذه الليلة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آل عمران:190) ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".[16]

وأحياناً كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم -دون أن يوقظ أهله- ويتوضأ ويقف لعبادة ربه. تقول أمنا عائشة أيضا رضي الله عنها سمعتُه يدعو: "اللهم أعوذ برِضاك من سخَطك وبمعافاتك من عُقوبتك وأعوذ بك منك (أي من قهرك بلطفك ومن جلالك بجمالك ومن جبَروتك برحمانيّتك ورحيميّتك) لاَ أُحْصي ثناءً عليكَ انتَ كما أثنَيتَ على نفسك».[17] وهذا هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا هو جهاده الأكبر وهذه هي عظمته.

د-والذين اتبعوه

لقد سعى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين سعياً حثيثاً لاتباع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خطوة فخطوة، وبذلوا وسعهم ليعيشوا حياتهم كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعيشها، لأنهم كانوا مدركين جيداً أن رفقته في الدار الآخرة إنما تكون باتباعه في هذه الدار اتباعاً تامًّا. حتى كان منهم من أمثال "ثوبان" الذي خطر بباله يوماً مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم فانقطعت شهيّته واستولى عليه الهم والغم. وفي إحدى الغزوات لم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم. وعند عودته صلى الله عليه وسلم كان الجميع يتتابعون إلى زيارته، وكان من هؤلاء ثوبان وقد نحل جسمه واصفر لونه حتى كأن لم يبق منه غير الجلد والعظم. فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم: ما هذا يا ثوبان؟ قال ثوبان: لقد أهمني أمر فأوقعني فيما ترون، إذ قلت في نفسي: إنني لا أطيق فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فكيف أقوى على فراقه في عالم خالد، حيث يكون هو في مقام رفيع وفي جنته الخاصة به، بينما أنا واحد من عامة الناس فلا يمكن أن أدخل جنته حتى لو دخلت الجنة. (بمعنى إنني سأفارقه إلى الأبد..) ففكرت في هذا يا رسول الله فوقعت في هذه الحالة. فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجواب الشافي الخالد: "المرءُ مع من أحبّ".[18]

إن محبة المرء تكون بالتشبُّه بالمحبوب، وجعل حياته أنموذجاً يقتدى به في حياته. والصحابة الكرام كانوا حقًّا على هذا الشعور تماماً.

مثال آخر: "عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: خرَجنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ فأُصِيبَتِ امرأةٌ مِن المشرِكِين فلما انصرف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قافِلاً وجاء زَوجُها وكان غائِبًا فحلف أنْ لا ينتهِيَ حتّى يُهْرِيقَ دَما فِي أصحابِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم فخرج يَتبعُ أثَر النبِيِ صلى الله عليه وسلم فنَـزل النبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنـزِِلاً فقال: من رجلٌ يكلؤنا ليلتنا هذِهِ فانتدب رجلٌ مِن المهاجِرِين ورجل مِن الأنصارِ فقالا: نحن يا رسول اللهِ. قال: فكونوا بِفمِ الشِّعْبِ. قال: وكانوا نزلوا إِلى شِعْبٍ مِن الوادِي فلمّا خرج الرجلانِ إِلى فمِ الشِّعْبِ قال الأنصارِيُّ لِلمهاجِرِيّ: أيُّ الليلِ أحبُّ إِليك أنْ أَكْفِيَكَهُ أوَّلَه أو آخِرَهُ؟ قال: اكْفِنِي أوّلَه. فاضْطجع المهاجِرِي فنام وقام الأنصارِيُّ يصلّي وأتى الرجلُ فلمّا رأى شخص الرجلِ عرف أنّه ربِيئَةُ القَومِ فرَماه بِسَهْمٍ فوَضعه فِيهِ فنَـزَعه فوَضعه وثَبَت قائِمًا ثم رماه بِسَهمٍ آخرَ فوضعه فِيهِ فنـزعه فوضعه وثَبَت قائِما ثم عاد له بِثالِثٍ فوَضَعه فِيهِ فنـزَعه فوضعه ثمّ رَكَع وسَجَد ثم أهبَّ صاحِبَه فقال: اجْلِسْ فقد أُوتِيتَ. فوَثَب فلمّا رآهما الرجلُ عرف أنْ قَد نَذَروا بِهِ فهَرَب فلمّا رأى المهاجِرِيُّ ما بِالأَنْصارِيّ مِنَ الدماءِ قال:سبحَان اللهِ ألا أهبَبْتَنِي. قال:كنتُ فِي سورةٍ أَقرَؤها فلم أُحِبَّ أنْ أَقطعَها حتى أُنْفِذَها فلما تابعَ الرّمْيَ ركعتُ فأُرِيتُكَ، وَايْمُ اللهِ لَولا أنْ أُضَيِّعَ ثَغْرا أَمرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لَقَطَعَ نفسي قبل أنْ أَقْطعَها أو أُنفِذَها".[19]

بمعنى أن الاطمئنان وسكينة القلب قد غمراه، وكأن القرآن ينـزل عليه وهو يتلوه في الصلاة، وكأن جبريل عليه السلام ينفثه في روعه، فينتشى بنشوة الوجد حتى لا يجد ألَم السهم الذي انغرز في جسده.

وهذا هو موقف من جمع بين الجهادين، الأصغر والأكبر. بل هذا هو الوجه الحقيقي للجهاد.

"قالت حفصة بنت عمر لأبيها: يا أبت إنه قد أوسع الله الرزق وفتح عليك الأرض وأكثر من الخير فلو طعمت طعاما ألين من طعامك ولبست لباسا ألين من لباسك فقال: سأخاصمك إلى نفسك أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش. قال فما زال يذكرها حتى أبكاها ثم قال إني قد قلت لك إني والله لئن استطعت لأشاركنهما -أي الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر- في عيشهما الشديد لعلّي ألقى معهما عيشهما الرخي"[20] هذا هو سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. إنهم في حضور دائم مع الله واتصال مستمر وثيق معه. فكانت عباداتهم وأذكارهم من الكثرة والعمق بحيث من يشاهدهم يحسب أن ليس لهم شغل يشغلهم غير العبادة والذكر، هذا مع كمال إيفاء أمورهم الدنيوية والمعيشية حقهما من الاهتمام.

نعم، إنهم يمثلون خلاصة الإخلاص ولبّه، إذ ما كانوا يعملون عملاً إلاّ وفق مرضاة الله سبحانه، فكان كل عملهم في مراقبة عميقة دائمة لله. فها أمامنا مثال الإخلاص سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إنه قطع الخطبة يوماً دون سبب. وقال: كنتَ يا عمر راعياً لإبل أبيك الخطّاب.. ونـزل من المنبر. فعندما سئل: ما الذي دفعك إلى هذا القول؟ أجاب: خطر ببالي أنني خليفة!

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا. فقال: أتاني الوفود سامعين مطيعين فدخلتْ نفسي نخوة فأردت أن أكسرها".[21]

وقطع عمر بن عبد العزيز الخطبة على المنبر إذ خاف على نفسه العجب. وكتب مرة كتابا فخاف فيه العجب فمزقه وقال: اللهم أني أعوذ بك من شر نفسي.

إن جهاد هؤلاء الأطهار الذين بلغوا الكمال روحاً وتكاملوا بها، لن يبقى بلا ثمر، لأنه في سبيل الله. وعلى هذا فالذين يتباهون ويتفاخرون بأعمالهم باسم الجهاد هنا وهناك، ولم يصلحوا شؤونهم الداخلية ولم ينجوا من الرياء والعجب والغرور والكبر، أعمالهم تخريب أكثر من أن تكون تعميراً. بل حتى لو بلغوا مبلغاً معيّناً في مرحلة ما، فلن يبلغوا الغاية والنتيجة قطعاً.

هـ-جلب العناية الإلهية ودعوتها

الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تجمع الجهادين معاً كثيرة جدًّا. ومما لا شك فيه أن سورة النصر في مقدمة هذه الآيات:

﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾(النصر:1-3).

فهذه السورة تبشر بمجيء نصر الله وفتحه حينما يدخل الناس أفواجاً في دين الله. وهكذا كان. فحينما أزيلت العوائق أمام الجهاد الأصغر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الحق، ودخل الناس في الإسلام أفواجاً، ففي هذه المرحلة يكون الأمر الإلهي هو:

﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفرهُ﴾ لأن جميع هذه الأمور ما هي إلاّ إحسانًا ونعمة إلهية بحتة، إذ هو الذي خلقها كلها.

فعلى الإنسان الذي ظهر على الأعداء في الخارج، أن يظهر على نفسه أيضا في عالمه الداخلي، ليتم جهاده ويكتمل.

وفي ضوء هذا تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نـزول هذه السورة يردد باستمرار: "سُـبحان الله وبحَمْده أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه سُبحانكَ اللّهم أستغفرك وأتوب إليك".[22]

وفي حديث آخر يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذين الجهادَين معاً فيقول: "عَينان لا تَمَسّهما النارُ عَين بكتْ من خشية الله وعيْن باتتْ تَحْرسُ في سبيل الله".[23]

نعم، إن جهاد من يسهر على الحدود والثغور ويرابط في ميدان الحرب، وفي أخطر المواقع جهاد مادي. فالذي يؤدي هذا الجهاد لا تمس النار عينه.

وعين أخرى تحقق الجهاد المعنوي الأكبر، عين تبكي من خشية الله.

فهاتان العينان -في هذه البشرى النبوية- سواء في عدم مسهما النار.

نعم، محال لدى الرحمة الإلهية ووعد الله القاطع أن تمس النار هاتين العينين كمحالية عودة اللبن إلى الضرع! وواقع من يجاهد في سبيل الله أشعثَ أغبرَ لا يختلف عن هذا، فقد بشّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن النار وهذا الغبار والتراب في سبيل الله لا يجتمعان.

نعم لا تمس النار تلك العيون التي تذرف الدموع ساخنة من خشية الله، وتحرس وتراقب مواقع دخول العدو مرابطة في الثغور والمواقع الخطرة. فالذي ينذر نفسه لهذه الأمور ويجابه المهالك التي تحدق بالبلاد ويتصدى لها بإنشاء مؤسسات يتربى فيها أبناء أمته بمستوى يليق بالإنسان، ويتجافى عن حظوظ نفسه وأذواقها لأجل الآخرين ويهتم براحة الآخرين وعيشهم الهنيء.. فهؤلاء لا تمس عيونهم النار. وعلى هذا فالذين يرون الجهاد جدالاً ونقاشاً هنا وهناك إن لم يراقبوا أعمالهم ويقوموها بموازين الجهاد الذي ينادون به، فإنهم لا يعملون إلاّ لقتل الوقت وخداع أنفسهم. فالذين لم يحسموا الأمر مع نفوسهم ولم يلجموها بالمراقبة الدائمة ولم يرغموا أنف الرياء ولم يسحقوا روح الافتخار ولم يجعلوه تحت أقدامهم، ولم يقلعوا من أرواحهم الكبر على الآخرين والتظاهر أمامهم.. فأعمالهم لا تنفع شيئاً سوى كونها مصدراً لإحداث القلاقل والاضطرابات.

ومن جهة أخرى فالذين ينسحبون من الميدان ويقبعون في زاويتهم آخذين نصيبهم من الجهاد من جهته المعنوية وحدها ويقولون: لا يصح الانشغال مع الغير قبل جهاد النفس.. فهؤلاء الذين يروْن إحراز درجات معنوية لأنفسهم وبلوغ المراتب الرفيعة التي يرونها فوق كل أمر، ويعزفون عن إرشاد الناس، هم بلا شك على خطأ واضح حيث يخلطون الإسلام بالروحانية الصوفية (ميستيزم).

إن الفكر المهيمن على القائلين بإصلاح أنفسهم قبل دعوة الآخرين مكتفين بالجانب المعنوي من الجهاد فحسب وهو: أن كل إنسان يحاسب بمفرده "فكل شاة برجلها ستناط" أو "كل شاة معلقة من عصبتها"، كما هو المثل العامي المشهور. وإن من لم يصلح نفسه أعجز على إصلاح غيره. لذا على المرء أن يلتفت إلى إصلاح نفسه أولاً.

فنقول لمن يستغرقه هذا الفكر: اعلم أن الإنسان حينما يظن أنه أنقذ نفسه فقد وقع من فوره في أخطر دوامة، فمن يطيق أن يدعي خلاص نفسه والقرآن الكريم يقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99).

نعم إن الإنسان مكلف بالعبادة حتى الرمق الأخير، فلا يستطيع أن يحجم عن أي عمل كان في معنى العبودية لله، حتى يُرفع الستار ويُدعى إلى العالم الآخر. فكيف يمكن لمن تستمر عليه مهمة التكليف هكذا، أن يقول: أكملت إنقاذ نفسي. إذن فإن جهاد الإنسان مع نفسه وسعيه لتطهيرها وتزكيتها من الأخلاق الرذيلة، ومحاولته إصلاحها وتقويمها سيدوم مادامت فيه الحياة.

نحن إذن مضطرون إلى العيش الدائم بين الخوف والرجاء، فكما لا يخطر ببال المؤمن الاطمئنان إلى النتيجة فليس من صفاته القنوط أيضا، إلاّ أن الخوف لا بد أن يكون أرجح في ميزانه في الدنيا. تأملوا في حال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في أنفاسه الأخيرة فيضطرب خشية الحساب، ولم يخفف قلقه واضطرابه هذا إلاّ بشارة ابن عباس له إذ قال: أشهد لك يوم القيامة بأنك صالح.[24] نعم ألم يذكّرنا القرآن الكريم بـ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾(الرحمن:46)؟

و-فهم السلف

لم يفهم الجهاد على وجه واحد من هذين الوجهين أحد من المرشدين الحقيقيين العظماء الذين ربّاهم الإسلام. فلم يتخلفوا عن نشر الحق والصدع به قط حتى لو كانوا وراء قضبان السجون. وكذلك لم يرخوا عنان العلاقة القوية مع ربهم ولم يهملوا قطعاً دائرة القلب مهما بلغ ميدان عملهم من التوسع. بل أصبح كل ما أفيض عليهم في هذا المجال جزءً من تكامل زلال المعرفة والعرفان عندهم فعاشوا دوماً بشعور الإحسان الإلهي، مستحضرين مراقبة الله لهم كل آن ومتقربين إليه سبحانه بعملهم هذا. إلى أن صار الرب جل وعلا بصرهم الذي يبصرون به ويدهم التي يبطشون بها.. فبارك الله فيهم حتى عُدّ الفرد منهم بألف.

ز-ما يجب على إنساننا اليوم

إن إنساننا في الوقت الحاضر، إن كان يريد أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده وبما يرضيه -وهذا ما يجب عليه- عليه أن يراقب نفسه مراقبة جادة ويحاسب رغباته حساباً عسيراً، في الوقت الذي يزاول نشر الحق وتبليغ الحقيقة للآخرين. وإلاّ فهناك احتمال قوي أن يخادع نفسه، وعند ذلك لا ينتفع بعمله ولا ينتفع به غيره.

المجاهد يحمل من الإخلاص ما يجعله يختار الله على كل ما سواه، فهو إنسان خالص مخلص، ذو قلب حيّ.. وبذلك يكون الجهاد مثمراً وباقياً. فهو بدلاً من أن يملأ عقول الآخرين بأكوام من الغث والسمين من المعلومات، عليه أن يقرّ في قلوبهم وعقولهم الإخلاص وحسن النية وروح المحاسبة الداخلية والشعور بأن يكونوا من رجال القلوب.

نعم، الجهاد موازنة بين فتح الداخل والخارج. ففيه بلوغ الكمال ودفع الآخرين إليه. فبلوغ الإنسان ذاته جهاد أكبر ودفعه الآخرين إلى الكمال جهاد أصغر. فإذا ما افترق أحدهما عن الآخر ينتفي معنى الجهاد عملياً. فيتولد من أحدهما الذل والمسكنة ومن الآخر العنف والإرهاب. ونحن ننتظر ولادة روح محمدي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمكن إلاّ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر كما في كل أمر.

فما أسعد أولئك الذين يبحثون عن وسائل لإنقاذ غيرهم مثلما يبحثون عنها لإنقاذ أنفسهم. وما اسعد الذين لا ينسون أنفسهم في خضم العمل لإنقاذ غيرهم.

الجهاد ماض إلى يوم القيامة. لأنه مهما بذلنا من جهد في سبيل إنقاذ الإنسانية فلا بد أن يظل كفار يصرّون على كفرهم. وهذا يعني استمرار الجهاد، إذ نحن مكلّفون بتعريف ربنا الجليل إلى الناس كافة. فإن اعترض أحد سبيلنا في التبليغ، وأراد أن يصرفنا عن مهمتنا الخالصة النقية، فلا مفر من اللجوء إلى الجهاد الماديّ. نحن مضطرون إلى الانتصار والظهور في كلا الجهادَين المادي والمعنوي، إذ بخلافه نفقد حق الحياة ومتطلباتها كبشر. فلقد ضحى أجدادنا في فترة من الزمن بحياتهم لأجل هذا، إذ لما أراد "الصليب" أن يعترض هذا المفهوم الإنساني الذي يحملونه، وجدوا إزالة المانع في إعداد القوة. وهذا هو معنى الحروب التي خاضها أجدادنا وهذا هو مغزاها.

وحاشا أن تكون لهم غاية سوى التبليغ، وحاشا أن يكون الدافع عندهم حب الاستيلاء والسيطرة على الأماكن، بل كانوا عشاق "إعلاء كلمة الله" وما كان يهمهم شيء إلاّ إبلاغ حقيقة "لا إله إلاّ الله" إلى أرجاء الأرض كافة، حتى لا تبقى عليها نقطة مظلمة لم تتنور بنور الإيمان. فكأنهم كانوا مؤذّني أزمانهم على منائر، رافعين صوتهم بالأذان معلنين الإيمان إلى أرجاء الأرض كافة. نعم إن كلمة "لا إله إلاّ الله" هي التي رنّت في الآفاق من منائر هذه الأمة بلسان الجيش وقرقعة الأسلحة، فلم يك فينا يوماً حب الاستيلاء والسيطرة على الأقوام. فالأذان الذي رفعه السلطان محمد الفاتح وأمثاله من منائر الدولة العثمانية قد بلغت أصداؤه أقصى الظلمات في العالم فنوّرها بـ"لا إله إلاّ الله" حتى إننا نشاهد من لبّى هذا النداء وشهد هذا الأذان الرفيع في ميدان واسع يمتد من غابات بلغراد إلى سفوح هملايا، بل نسمع صداه حتى من موجات المحيطات المتلاطمة.

نعم، الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لأجل إنارة كل زاوية مظلمة، وحمل نور اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بقعة، وإضاءة كل ناحية في العالم بنور القرآن المبين، والمؤمنون سيمضون بالجهاد المادي أيضا ليحققوا دورهم في إقامة التوازن بين الأمم والدول ليحظوا باسم "الأمة الوسط".

ونحن كأمة مكلفون بإحراز هذا الموقع الرفيع.. وهدفنا هو هذا لا غير.. لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَـطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾(البقرة:143).

هذا يعني: إننا جعلناكم وسطاً لما يحدث بين الدول، وعنصر توازن بين الأمم وشاهداً للاستقامة.. فهو سبحانه يدعونا لنرتقي قمة هملايا ونبلغ ذروة "حراء" لنشارك مشاركة شعورية بما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشعر به، فيدعونا إلى التكامل بذاتنا وفطرتنا الموهوبة لنا. ونحن بدورنا إما أن نعقد العزم ونجدده لنرتقي تلك القمة، أو نتقاعس راضين بما نحن فيه فنتردى إلى أسفل سافلين وننسحق تحت الأقدام.

الهوامش

[1] مسلم، الإمارة 103-106؛ البخاري، الإيمان 26؛ النسائي، الجهاد 30؛ ابن ماجه، الجهاد 1.

[2] البخاري، الجهاد 73؛ المسند للإمام أحمد، 5/339.

[3] البداية والنهاية لابن كثير، 2/64.

[4] البداية والنهاية لابن كثير، 2/167.

[5] تاريخ بغداد للبغدادي، 13/523؛ كشف الخفاء للعجلوني، 1/424 - 425.

[6] المسند للإمام أحمد، 1/156؛ مسند أبي يعلى، 1/258.

[7] البخاري، الجهاد 52؛ مسلم، الجهاد 78-80؛ الترمذي، الحهاد 15.

[8] انظر: المسند للإمام أحمد، 4/25؛ النسائي، السهو 18؛ ابن ماجه، المقدمة 3.

[9] انظر: مسلم، الجنائز 12؛ أبو داود، الجنائز 77.

[10] انظر: المسند للإمام أحمد، 3/124.

[11] انظر: البخاري، التمني 19؛ مسلم، الصيام 60.

[12] البخاري، التهجد 6؛ مسلم، المنافقون 79-81؛ الترمذي، الصلاة 187.

[13] مسلم، فضائل الصحابة 1؛ الترمذي، تفسير سورة التوبة (9) 1؛ المسند للإمام أحمد، 1/4.

[14] البخاري، تفسير سورة النساء (4) 9؛ المسند للإمام أحمد، 1/433؛ دلائل النبوة للبيهقي، 10/231.

[15] البخاري، الدعوات 3؛ الترمذي، تفسير سورة محمد (47) 1؛ ابن ماجه، الأدب 57؛ المسند للإمام أحمد، 2/282.

[16] صحيح ابن حبان، 2/386؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4/310؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2/164.

[17] مسلم، الصلاة 222؛ أبو داود، الصلاة 147؛ الترمذي، الدعوات 75؛ النسائي، الطهارة 119.

[18] مسلم، البر 165؛ الترمذي، الزهد 50؛ المسند للإمام أحمد، 1/392.

[19] المسند للإمام أحمد، 4/90؛ دلائل النبوة للبيهقي، 3/378-379؛ حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/481-482 أبو داود، الطهارة، 78.

[20] حلية الأولياء لأبي نعيم، 1/48-49؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/277-278.

[21] مدارج السالكين لابن القيم، 2/330.

[22] مسلم، الصلاة 220؛ المسند للإمام أحمد، 6/34.

[23] الترمذي، فضائل الجهاد 12؛ كنـز العمال للهندي، 3/141.

[24] الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/352.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.