ملاحظة حول ليلة النصف من شعبان

ملاحظة حول ليلة النصف من شعبان

سؤال: ما هي ليلة البراءة وما مكانتها وفضلها؟ وكيف يكون إحياؤها؟

الجواب: ليلة البراءة هي ليلة النصف من شعبان التي تتوسط الرابع عشر والخامس عشر من هذا الشهر المبارك، ويرى بعض المفسرين أن الليلة المذكورة في سورة الدخان وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ (سورة الدُّخَانِ: 44/3) هي ليلة البراءة، ورغم أن هذه المسألة هي محل نظر وخلاف بين العلماء فثمة أحاديث كثيرة تذكر فضل هذه الليلة وثوابها.. والحقيقة أن بعض المفسرين قالوا إن الليلة المذكورة في الآية الكريمة هي ليلة القدر انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القَدْر: 97/1)، ووفقًا للرأي القائل إن الليلة المذكورة في سورة الدخان هي ليلة البراءة يكون القرآن الكريم قد نزل بتمامه إلى سماء الدنيا في هذه الليلة، بينما بدأ يتنزل منجّمًا في ليلة القدر، ولكن نظرًا لعدم وجود نص قاطع في الكتاب والسنة حول هذه المسألة فإننا نحيل معرفة ماهيتها وتفاصيلها إلى علم الله تعالى.

ومن الأحاديث الشريفة التي تبين فضل هذه الليلة قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ[1].

وفي حديث آخر يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا يَوْمَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلَا كَذَا، أَلَا كَذَا..؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ[2].

لكن ما المقصود بسماء الدنيا؟ وما ماهية النزول الإلهي فيها؟ وما كيفيته؟ إنَّ هذا أمرٌ يتجاوز حدودَ إدراكنا، وإنّ محاولةَ البحث عنه في المجرات ودرب التبانة وكوكبة هرقل أو في أغوار الفضاء؛ ما هو إلا تخبّط في المجال الضيق للعالم المادي؛ لأن الوجود ليس محدودًا بالفضاء الثلاثي أو الرباعي الأبعاد، فلربما لا تكون السماء الدنيا مكانًا يتيسر لنا معرفته، وقد تكون أفقًا لا يطّلع عليه سوى ساكني الملإ الأعلى، أو هي تجلٍّ آخر للحق تعالى بِبُعْدٍ مختَلِف، والكلّ يستفيد منه بحسب جهودِه ومساعيه.

ورغم أن هناك روايات تتحدث عن فضل أداء مائة ركعة في هذه الليلة فإن علماء الحديث لا يأخذون بها ولا يقرّونها، ومع ذلك فلا حرج أن ينهض المسلم لإحياء هذه الليلة ويصلي مائة ركعة؛ فهو على أقلِّ تقدير سيتحصّل على ثواب أكبر؛ وعليه أن يعرف أن هذا ليس معلومًا من الدين بالضرورة، وألا يرغم أحدًا على القيام بمِثل فِعله بحجة أن ما يفعله من محكمات الدين.

إن مثل هذه الليالي تُعدّ مغنمًا عظيمًا للجميع، وخاصة لمن يريدون قضاء صلواتهم الفائتة أو الذين يريدون جبر القصور والخلل الذي اعترى صلواتهم الماضية، فمثلًا من الممكن أن تجزئ مائة ركعة عن قضاء صلوات خمسة أيام في الذمة، فلو أن الإنسان استغل الليالي المباركة الأخرى على الشاكلة نفسها، وصلى في كل ليلة منها ما يعادل خمسة أيام قضاءً، وجعل هذا إلفَه وعادته؛ فإنه يكون بذلك قد قضى صلوات أأعوام مديدة على مدار حياته، ويكون أيضًا قد سدّ النقص وجَبَرَ الخلل.

إنّ الصلوات التي تُؤَدَّى في هذه الليالي تُكسِب صاحبَها ثوابًا أكبر، مقارنة بالصلوات التي تؤدَّى في الأوقات العادية؛ وذلك لأن بعض العبادات تكتسب قيمة خاصّة وفقًا للزمان والمكان الذي تؤدَّى فيه، فمثلًا يُثاب الإنسان على تصدُّقه في الأوقات العادية، ولكن إذا أُخرِجَت هذه الصدقة يوم الجمعة أو في شهر رمضان أو في مثل هذه الليالي المباركة فإن ثوابها يكون أكبر؛ فقيمةُ الظرف تُعمِّق قيمةَ المظروف.

وبالمثل فإن العبادات التي تؤدَّى على جبل عرفات وفي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى لها ثواب أعظم من غيرها التي تؤدّى في الأماكن العادية، فهذه القيمة الخاصة بهذه الأماكن تنعكس بالتالي على الأعمال التي تُقام فيها، فهذه الأعمال هي أدعى للقبول نظرًا لعظم قيمة الظرف الذي وُضِعَتْ فيه.

ويُستنبط من الأحاديث الشريفة المذكورة أن لله تعالى معاملات خاصة وتجليات مختلفة في هذه الليالي، ولا خطأ ولا مشاحة في التشبيه إذا قلنا: إن سلاطين الأرض حين يجلسون على العرش يُغدِقون عطاياهم على كل المحيطين بهم، دون النظر إلى أهليّتهم وأحقّيتهم من عدمها، فكلُّ مَن شارك في حفل الجلوس السلطاني -صالحًا كان أم طالحًا- ينال نصيبه من عطايا السلطان، وعلى الشاكلة نفسها فإن هذه الأيام والليالي المباركة هي آفاق مواتية لتنزُّل رحمات الله تعالى، يخصّ الله تعالى بفضله وبرحمته كلَّ من توجَّه إليه فيها، بِغَضِّ النظر عن استحقاقه لذلك أم لا.

ومن المعلوم أن أسماء هذه الأيام والليالي المباركة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعنى المطوي فيها، فمن أحيا هذه الليالي بحقها نال المسمّى الذي يدلّ عليه اسمها؛ فحريٌّ بمن يتوجّه إلى الله تعالى بإخلاص في ليلة المعراج ويتقرب إليه بالعبادات والطاعات أن يكون مظهرًا لمعراج معنوي، وحقيقٌ بمن أحيا ليلة البراءة بغرض التطهّر من ذنوبه أن ينال البراءة من النار بفضل من الله وعنايته، وكذلك الحال بالنسبة لمن أحيا ليلة القدر أن يرفع الله قدره ودرجته.

وبما أن الله تعالى قد خصّ هذه الليالي بأفضال خاصة فعلينا أن نجتهد في اقتناص هذه الفرصة على أكمل وجه، وعلينا أن نعمِّر آخرتنا بتخصيص هذه الليالي بعبادات وطاعات أكثر من الليالي الأخرى، وتحقيق أقصى استفادة من هذه الأوقات المباركة، وكما ذكرنا آنفًا فلا بد أن نخصّ هذه الليالي بمزيد من الصلوات والعبادات والحمد والثناء لله عز وجل والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن نتوجه إلى الله بإخلاص، ونعبّر له عن خلجات أنفسنا، ونتضرّع إليه بالدعاء لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص.

خلاصةُ القول ينبغي لنا حتى لا نفوِّت الفرصة في هذه الليالي المباركة أن نعمل على إحيائها بالعبادة وقراءة القرآن والدعاء والذكر، وإن لزم الأمر فَلْنُقمْ برامجَ واحتفالاتٍ تُحيي القلوب، وتُبكي العيون، وتوقظ العواطف والمشاعر، ولكن يجب علينا إلى جانب هذه البرامج العامة أن ننفرد بأنفسنا ونتوجه إلى الله بدعائنا وبثّ همومنا.

ويا حبذا لو صلينا صلاة الحاجة وتضرَّعْنا بدعاء الحاجة في هذه الليالي رجاءَ أن يدفع الله عنا البلايا والمصائب، ونصل إلى الغايات المثلى التي نحلم بتحققها.. وبعد صلاة الحاجة والدعاء المأثور[3] عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى، ونسأله حاجاتنا، قد يسأل البعض ربه سبحانه وتعالى زواجًا مباركًا، أو ولدًا صالحًا، أو توفيقًا في العمل، أو وفرةً في المال وسعةً في الرزق، كل هذا لا حرج فيه شرعًا، فإننا لا نُدين الذين يحصرون تفكيرهم وآمالهم بأنفسهم فقط، ويرغبون في أن تسير حياتهم الدنيوية في وفاق ووئام.

ولكن هناك أرواح عالية الهمّة ليس لها أيّ مطالب شخصية أو دنيويّة، وتنحصر جميع مطالبها في خدمة المسلمين والإنسانية جمعاء، وهذه مسألة تتوقّف على رحابة الأفق، وعلوّ الهمة، وسعة الوجدان، فلا ينبغي للإنسان أن يضيّق على نفسه طالما هناك مثل هذه الآفاق الرحبة التي يمكن الإبحار إليها.

إن أصحاب الهمم العالية يرفعون أيديهم في هذه الليالي قائلين: “اللهم ألِّف بين قلوبنا! ووحّد بين أفكارنا ومشاعرنا! واجمع شملنا! وهيئ لنا الفرص للانبعاث من جديد! اللهم خلِّص أمة محمد صلى الله عليه وسلم من البؤس والشقاء! وارفع الراية المحمدية في كل بقاع الأرض! واستعملنا في هذه الوظيفة المقدسة! اللهم إن كانت أرواحنا ثمنَ انبعاثٍ جديد فاقبض أرواحنا قبل أن نقوم من سجادتنا هذه!”، وفَّقَنا الله جميعًا لبلوغ هذا الأفق، وجعلنا من أصحاب الهمم العالية.

وأريد أن أنوه أخيرًا بالمسألة التالية: إذا أراد العبد أن يستفيد من فيض هذه الليالي وبركتها فعليه أن يؤمن يقينًا أن الله تعالى يخص هذه الليالي بمزيد من الإقبال والرحمة العامة، وأنه سبحانه وتعالى يشمل كل من يتوجه إليه في هذه الليالي بمغفرته وفضله بغض النظر عن أهليته من عدمها، كما ينبغي له أن ينهض لإحياء هذه الليالي متحمسًا، ويتوسل إلى الله ويتضرع إليه عسى أن يكون من بين المغفور لهم في تلك الليلة.


[1] سنن الترمذي، الصوم، 39؛ سنن ابن ماجه، الإقامة، 191.

[2] سنن ابن ماجه، الإقامة، 191.

[3]  انظر: حديث عثمان بن حنيف: سنن الترمذي، الدعوات، 136؛ مسند الإمام أحمد، 28/478؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 1/458، وكذلك انظر: حديث عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي: سنن ابن ماجه، إقامة الصلوات، 189؛ البيهقي: شعب الإيمان، 4/546.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.