الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

الفواعل والطلائع.. قادة الفكر والروح

يرى كولن في الإنسان أبرز فواعل البناء الحضاري، وأهم وسائله ومرتكزاته؛ لذا شدّد على وجوب تكوينه التكوينَ الذي يجعل منه قوة فاعلة، ومرَشَّدة، وموقنة من أن ما تبذله من كدّ وكدح، هو عطاء يندرج ضمن روحية الحمد التي لا ينبغي أن يغفل الإنسان عنها حيال ربه، المنعم بالوجود، والمتكرم بالمنن. وفي غياب النظام السياسي الراشد، الذي يجعل من بناء الإنسان وتكوينه غايته الأولى، يتحتّم على المجتمع أن يتولى أمر إعداد نُخَبه بذاته.

ولا ينبغي أن تُصاب الأمة باليأس؛ إذ العناية الإلهية تدخر لها دائمًا صالحين، ينهضون ضميرًا يحدو الناس إلى الهدى.

ما اكفهرت الحياة واشتدت حلكتها بالأمم، إلا هيَّأ الله لعباده منارة تضيء الليل، وصوتًا يشدو بالسُّرَاة. إن التمحيصات الدامغة التي تتعرض لها الشعوب حين تجثم عليها المُلِمّات، تعمل حتمًا على إظهار القوة المضادة التي تتصدى للكابوس.. فالأمم كالأفراد تُبدِي من القوة والتفجر حين يُطبِق الخطبُ الداهمُ عليها، ما لا قِبَلَ لها به، ومن حيث لا تحتسب، حتى لكأن هناك طاقات خارجية انضافت فجأة لقواها، وساندتها في لحظة الخطر، وردَّت عليها الشر.

ومن المؤكد أن قابلية الخير في الشعوب، هي التي تجعل الأسماع تعاود الإصغاء إلى أصوات الخيرين، وهي تهيب بهم أن يثبتوا، وأن يصمدوا في وجه الكواسر.

وكل فذّ من الخيرين إنما يكون مَطْلَعُه في قومه بمثابة الفجر بعد الظلمة، أو كالماء العذب ينبجس في قلب الفلاة، بل إن ظهور الأفذاذ الذين هيَّأهم القدر لأن يكونوا صُناعًا للتاريخ، وبُناة للمدنية، لا يكون إلا وقْت اشتداد العتمة واستفحال الخطوب؛ إذ لا يجود بالنفس، ولا يبذل الروح حين تنتكس الرايات وتنحني الهامات، إلا جبابرة الروح، أولو العزم، ورثة الأنبياء.

لكأن ظهورهم في قلب البأس، وبروزهم في عتمة المحنة، إنما يندرج ضمن ما هيَّأ الله من قانون توازن تَطَّرد به الحياةُ والعمران. أجل، إن سعي العظماء، قادة الفكر والروح، إنما هو مظهر من مظاهر الشِّرْعة الإلهية التي ما أوجدت داءً إلا أوجدت له دواءً يقاومه ويزيله.

يتحول الأفذاذ إلى جذوة متأججة، ويتنامى جهدهم فيغدون مشكاة فيها مصباح، ثم لا يلبثون أن يضحوا عامود نور يضيء القارعة، وما يعتمون أن يصيروا فَلَقًا في السماء، وشمسًا تحضن المدى، وتستقطب الورى من حولها.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)(الأَنْعَام:95).. كذلك هو شأن الصالحين في أممهم، ينبلجون من عمق الظلمات، وينجمون من صميم النسيج البشري الذي استلبته سلطةُ البغي، وصيَّرتْه مجردَ جموع من الموات، هنالك ينتصبون في الميدان، شاهرين سلاح الإيمان وحده في وجه الباطل، فُرادى في المُنازَلة، كل شيء ينكرهم ويدفعهم، لا يكادون يجدون حانيًا ولا شفيقًا، لكأن قومتهم كانت تناصب الحقَّ العداءَ، ولم تكن للحق مُناصِرة ولا عن الكرامة باحثة! حتى عموم المستضعفين يقفون من أولئك الشُّهُب موقف المتفرج والخاذل، بل وأحيانًا -وتحت تشويش أهل الباطل- يبدون النُّكر والعداء لمن نهضوا يحامون عنهم ويدافعون، فلا يُحزِن أهل العزم ويُدمِي قلوبهم إلا أن يروا السهام تختلف إليهم من كل حدب، والحراب تتناولهم من كل صدد، لكنهم يستميتون في المواجهة، يخوضون المعركة كرًّا لا فرًّا، يثبتون ولا ينثنون.

يقف هؤلاء الربانيون في قلب المعمعان، ومنهم ومن صبرهم واحتسابيتهم تتولد المقاومة، هيِّنة، ضعيفة كالبذرة في رحم الأرض. قليلون من يوقنون أن تلك المصابرة المطوقة من كافة الجهات، سيُكتب لها أن تصمد وتستمر، لكن أهل الإيمان يزداد يقينهم في الانتصار على قدر اشتداد الضراوة التي تستهدفهم، وشيئًا فشيئًا تنجُم الأكمام، وتتفتح البراعم، ثم يلوح الربيع.

لكن كيف يهيئ المصلحون المستقبل، وفي أي صورة يتمثلونه، وبأية خطة يمهّدون له؟

من احتراقهم المتواصل ينشأ الدفء، وتسري الحياة، فمن بيضة مفردة يُولد طائر، ثم آخر، ثم سرب.. وعند ذاك يتهيأ للشعلة أن تضحى مشعلاً يتصاعد في السماء، ولا يلبث أن يشد إليه الأنظار من الأرجاء كافة.

حين ينغرس مصل الإيمان في وجدان الناشئ، تسكن الرحمةُ قلبَه، فيشبّ على المحبة، وينطبع بها مزاجه، بل ويصطبغ بها كيانه وشخصيته، وعلى قدر ما يَرْقى به العمرُ، تتأصل فيه خميرة الخير؛ لأن نزوعات النفس تكون قد هُيِّئت للانجذاب نحو السمو ونشدان الفضيلة، نتيجة ما تلقحت به في المنشأ من عشق، فتتمكن في روحه قابليات الكمال، وتترسخ طبيعة النفور من النقص والرذيلة، ومن كل ما يسيء إلى القيم وشموخ الروح.

على هدي هذه التنشئة الصالحة تدأب الحلقات والمنابر والصفوف والمكتوبات على التوسع في توفير المدود وتكبير الاحتياطات.. إنها ترسم في الأفق خَطًّا نورانيًّا تجعله سقفًا للمريدين والأتباع والخيرين، يبلغونه ويستوفون به أهليتهم للحياة البرّة.

فقادة الروح ومهندسو الكمال الإنساني يدركون أن مراقي الكمال شاقّة، تستغرق العمر كله، وإن مهام البناء الملحّة لا تتيح للاحتياط أن يتهيأ، ويتوفر بالحد المناسب والسرعة المطلوبة، فلذا هم يعوّلون على منهج التنشئة الذاتية؛ إذ يدركون أن النفس الكريمة حين تنجذب إلى محافل البر، تكتسب سريعًا قابلية الحياة، فهي تزدهر بالحظ التنويري الذي أُتيح لها أن تحصّله، ثم تمضي حيثما مضت، وقد ضربت جذورها في التربة، تستمد أسباب الحياة بذاتها، كشجرة الغاب، تتعالى بالطبيعة، وتهيئ من حولها مشاتل تلتف بها، وتخلفها حين الهرم.[24]

كل مَجْمع يصنعه الأبرارُ يتحول إلى دينامو يولّد الإضاءة، وكل منتسب لمدرسة الإيمان، يكتسب من عناصر النماء ومن كيمياء العشق ما يكفل له أن يسير على الطريق، متدرجًا بذاته عبر مدارج السمُوِّ، ويعزز فيه مكاسب الروح؛ إذ تتحول مسيرة حياته، في خضم ما ينذر له العمر من خدمة وبذل، إلى رحلة للترقي؛ حيث سيتعمق ارتباطه المعنوي بعهود العز الخوالي، فيضحى في كل آنٍ يعيش بمواجده أجواء الوحدة الجامعة، فلكأنه وهو من صحابة هذا العصر، واحد من زمرة الصحابة العظام، نشَّأََهُ هو توجيه يستمد تسديداته من منابع النبوة المحمدية، ونشأهم هم خير الخلق محمد بن عبد الله، أفضل الورى، وسيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.[25]

حين نسِقي الناشئَ برشفات الإيمان العِذاب، نكون قد وضعنا قدمه على طريق بناء وتأصيل المدنية الحق؛ إذ من شأن العبد المؤمن أن يتصلب في وجه الاختراقات، ويمتنع عن ملابسة التلويثات التي تعج بها الحياة، فبدل أن ينضم إلى هَوْجة أهل الفساد الذين تفرزهم المجتمعات حين تغفل عن الفضيلة، يضحى هو عامل نقاء ونظافة، يشمله الطهر في ذاته، باعتباره حاملاً من حوامل الأخلاق والإحسان، ويشمل بالتبعية محيطَهُ، بدءًا من أسرته ومخالطيه، فالعنصر النجيب الذي تصقله مهذّبات الدين، يُعَدُّ من أهم فاعليات بثّ الخير والطمأنينة والاحتساب في المجتمع، ذلك أنه بعد أن يسلخ مرحلة الشبيبة في الاستقامة والرعاية والتطوع، يغدو عنصر صلاح، يقضي العمر في العمل الصامت والقنوت المتواصل، أشبه بملائكة الله (ولقد رأينا نماذج من هذا الصنف الألماسي بين شباب الخدمة)، أو يقوم -بدوره وهو مرابط في الجبهة- بتأسيس خلية أُسرية لا يكون عناصرها -كلاً أو بعضًا- إلا آخذين بشمائل الصلاح والتهذب الروحي، فينشأون على التخلق والشهامة ونشر المحامد، وهكذا تتسلسل منهم القوامة الإيمانية والأخلاقية، ويتسع من خلالهم نطاق الفضل والجمال، وتسترسل تجذرات الخير عموديًّا وأفقيًّا، وتتنامى مساحات الاستنارة والفلاح، وتخضرّ أرضية الواقع الاجتماعي، وتتداعى الأجيال في مسيرة الحياة الكبرى إلى نهج الرشد والتمدن الفضيل، فيتعزز الإنتاج والإبداع، وتتناسل أنواع الاجتهادات التأصيلية الأخرى في سائر ميادين الحياة، الأمر الذي يتكرس معه بروز النموذج الحضاري المتفرد الذي يكون له أهلية التأثير والريادة والأستاذية العالمية.[26]

إن الحضارة تكون أكثر عمقًا وعراقة إذا تمت على هذا المنحى الإنشائي، ووفق هذا المنهاج الاستزراعي الذي يبدأ نقطيًّا، ثم تتسع حدوده، وتترامى أفضيته ومجالاته؛ إذ إن التأثيلات المدنية حين تتجذر، تكتسب قدرة متصاعدة على التسارع، بحيث تخرج وتائرها عن وضعية البطء والريث والتراجع التي تدأب عليها في مراحل النشأة، إلى حال من الإقدام والمضاء والسرعة، ما يجعل قيم الأصالة تشع وتكتسح الأرجاء؛ إذ يغدو ضوءها مطلب الإنسانية جمعاء.

إن العراقة تعني اكتساب المجتمع قيم الاستحفاظ، وتطَبُّعَ أفرادِهِ على خُلُق اللباقة، وانطباع أرواحهم بالفاعلية والتوليد الإبداعي المتكاثر.

كل ناشئ في المدرسة المؤهلة تربويًّا وعلميًّا، هو حبة مباركة، تنبت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وبذلك يقع التراكم، ويزداد الاحتياط المفَرِّش لميلاد مدنية الخير.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.