1- الشفقة

إن المبلغ هو بطل الشفقة والرحمة قبل كل شيء، لا يتوسل لدفع الآخرين إلى قبول الحق الذي يدعو إليه بالوسائل الخاطئة كاستعمال القوة والخشونة والإكراه. لأن استقرار الإيمان بالله في القلوب ليس بهذه الوسائل قطعاً. بل الشفقة في الإرشاد تليّن القلوب وترقق الوجدان، وتجعلهما تستأنسان وتتهيآن لقبول الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

المبلّغ يدفع مخاطبه إلى التصديق بالإقناع، فيحيطه بعلمه ويجذبه إليه بفضائله. فكل مَن يتعرّف ويشاهد المبلّغ، يشاهده أنموذج شخصية مجهزة بالفضائل. فلا شك أن تسليمه له ورضاه عنه، له أبلغ الأثر في قبول كلامه، بينما الجموع التي قُذف في قلوبهم الرعب، يتوجسون خيفة من شخص المبلّغ الذي يعرض المسائل في جو من الإكراه والاستبداد، فيتهيبون حتى الحقائق التي يعرضها. والحقائق التي يراد تبليغها مهما كانت حيوية وودّية، فالفتور لدى المبلّغين سيترك طابعه على السامعين. فمثل هذه الأطوار لا تأتي بخير قطعاً. علماً أنه لا يحق لأحد كائنا من كان أن يدفع الناس إلى الفتور عن الإسلام والخوف منه نتيجة أخطائه.

لقد اعتلت الشفقة الذروة في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم كما هي في جميع خصاله الأخرى. فلقد أسس صلى الله عليه وسلم دعوته العظيمة على ركائز جليلة كالشفقة، وبلّغها في جو دافئ من الحنان والعطف. حيث يقول: «إنّما أنا لَكم مِثلُ الوالِد»[1] وكيف لا، وهو الوالد الرؤوف الرحيم الذي قال حين ولادته: أمّتي…أمّتي.. وبقوله لأمته "أولادي" كأنه يضم إلى صدره الحنون فلذات كبده، فلئن كان ليعقوب وحيده يوسف عليهما السلام، فكل فرد من أفراد أمته يوسفٌ له. نعم، إنه يفتح صدره ليضم كل فرد من أفراد أمته، فرداً فرداً كما يضم الأب الرحيم ابنه الوحيد إلى صدره، وبالمقابل كل فرد من أفراد أمته يحبه أكثر من حبه لوالديه بل حتى من نفسه. بمعنى أن الصفة التي تلازم المبلّغ هي: المحبة النابعة من الشفقة والحنان، والسلوك الذي يقابل بالاحترام. هذه الصفة لها امتياز خاص، لأنه لا محل للمحبة والاحترام فيما يخلو من الشفقة والرأفة..

نعم ربما يُدفع الناس بالقوة إلى إطاعة أمور معينة، إلا أنكم لن تدفعوا أحداً إلى محبة الحقائق التي تريدون تبليغها. وفي الحقيقة ليس أمام الشفقة والرحمة باب مسدود لا يمكن فتحه. فجبال الثلج التي لا تذوّب بالشفقة والرحمة لا يذوّبها شيء قطعاً. لذا إن كنتم تريدون ربط الناس بعضهم ببعض بمحبة دافئة عليكم أن تطووهم تحت جناح الرحمة والشفقة أولاً. وما لم تعفوا عن تقصيرات الناس وأخطائهم، وما لم تظهروا لهم الحقيقة ملفعة بالشفقة والحنان، لن تحلّوا حلاً جذرياً أية مسألة من مسائل الناس الفردية والجماعية. يعلّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية سلوكنا أمام أخطاء الأمة وتقصيراتهم بهذه الصورة التمثيلية: "إنّما مَثَلي ومَثَل أمّتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدّوابّ وَالفَراشُ يَقَعْنَ فيه فأنا آخِذٌ بحُجَزِكم وأنتم تَقَحَّمون فيه".[2]

يفتح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا المثال طريقاً واسعاً جداً للإرشاد، ويوضح أن من سار في هذا الطريق يوصل التبليغ إلى جموع عظيمة في المجتمع، بينما النظرات المخالفة والأفكار المباينة لهذا الطريق تؤدى إلى التردي والاضمحلال، وأدهاها دفع الناس إلى الهلاك، وهذه حقيقة.

وإذا ما شملتم قلب إنساننا اليوم بالعطف والحنان، سمعتم صدىً حزيناً منه، لأنه لن يسعد إنسان يغوص في الآثام ويخوض في الرذائل. ولا جرم لا يبقى إنسان برضاه ورغبته في هذه الحياة الآسنة، سوى الذين أظلمت قلوبهم واسودّت وجداناتهم نهائياً وتفسخ عالمهم المعنوي، إلاّ أنه قد زلّ ووقع فيما هو فيه الآن فلا يجد مخرجاً له. فأنتم بأيديكم الشفيقة الحنونة تدلونهم على طريق الخروج الذي يبحثون عنه. فإذا تقربتم إلى هؤلاء بالإشفاق عليهم وبينتم لهم المسائل ضمن رحمة ورأفة موزونة، فسينظرون إليكم وإلى ما تقدمونه لهم من مسائل بعين اللطف، وإن لم يتقبلوها، هذه حقيقة مشاهدة، حيث إنه قد انشرح بالإيمان قلوب من لا نتوقعه من أناس وفيما لا ننتظره من زمان، ولهذا مئات الألوف من الأمثلة. ولأنكم أصبحتم سبباً لهدايتهم فسيظلون طوال عمرهم في شكران لجميلكم، فضلاً عن أنه يسجّل في دفتر حسناتكم مثل ما يقومون به من أعمال صالحة.

ولنوضح المسألة بمثال: تَفَكَّرْ في نشوب حريق في دار فيها عائلة كاملة بأفرادها وأولادها، ولكنك تكرههم، أو تصوّرْ باخرة غرقت وأفرادها -ممن لا تعرفهم- منتشرون على سطح الماء يستنجدون بمن ينقذهم من الموت المحقق؛ فأمام هذا المنظر، لا شك أنك تهرع لإنقاذ أفراد تلك العائلة الذين تكرههم من النار، وإنقاذ أولئك الذين لا تعرفهم من الغرق، بل قد تخاطر حتى بحياتك في سبيل إنقاذهم، ولو أراد أحدهم صرفك عن عزمك هذا فلا تعير له بالاً ولا سمعاً قط، لأن صوت وجدانك أقوى تأثيراً من أي صوت آخر، والحال أن مَن تريد إنقاذهم إنما تنقذ حياتهم التي لا تتجاوز الخمسين أو الستين سنة، فكيف يجب إذن أن يكون موقفنا تجاه أناس نريد إنقاذ حياتهم الأبدية الخالدة. فالقضية تكمن في إدراك هذا السر، بل أرى أنه من واجب كل ذي وجدان ألاّ يغضب ويسخط على أولئك الأشخاص بل حتى لا يعاتبهم على ما يعملون.

وهكذا على مبلّغي اليوم ومرشديه أن ينظروا من هذه الزاوية إلى الإنسانية الملطخة بالمهالك المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، و ينظروا في ضوئها لما يقع من الآخرين من أمور حياتية، فلا تليق بالمرشد الحدّةُ والضرب والشدة والفظاظة. أما الكذب والمنافع السياسـية فبعيدة عنه بفراسخ عديدة. فالمرشد ليس إلاّ مثال الحب والشفقة والرحمة وفدائيَّ المحبة. ومن تنتظره القلوب الظمآى إلى الإرشاد هو هذا المرشد. وقدوتنا في هذا سيدنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. انظروا إليه؛ إنه لأجل أن يقول الناس "لا إله إلاّ الله" مرة واحدة، تعرّض إلى مهالك كثيرة وعانى معاناة شديدة، والحال أن الذين رشقوه وأدموه، وضيقوا عليه الخناق ووضعوا الجزور على رأسه وهو في الصلاة، والأشواكَ على طريقه، ما كان يريد لهم إلاّ هدايتهم و دخولهم الجنة، يريدها حتى لأعدائه. فما كان ينتظر منهم شيئاً لنفسه قط؛ فلقد رُشق بالطائف وأدميت قدمه الشريفة ووجهه المبارك حتى احتمى إلى بستان، كان معه زيد رضى الله عنه، وسعى المَلَك لإمداده قائلاً: "إِن شئتَ أن أُطبِقَ عليهمُ الأخشبَينِ"، ولكن هذا الرؤوف الرحيم رفع يديه قائلاً: "أرجو أَن يُخرج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئا"[3] ولم يرد أن تصيبهم أية مصيبة.

وكذا في ساحة الحرب، عندما انكسرت سنّه الشريفة، ودخل جزء من مغفره في وجهه المبارك وقعت قطرات من دمه الطاهر إلى الأرض، فرفع يديه إلى السماء كأنه يريد أن يصّد غضب الله بالدعاء فقال: "اللهمّ اغفر لقَومي فإنّهم لا يعلمون"[4] فصّد بذلك البلاء الذي قد ينـزل على الكفار. وواضح جداً تفجّر الرحمة والشـفقة من كل كلمة من هذا الدعاء.

أريد أن أشرح ما له علاقة بالموضوع وقد ذكرته في مناسبات عدة، وهو:

شاب اهتدى حديثا، وعندما وجد نفسه في هالة من نور، تردد كثيرا إلى مجالس الذين يغمرهم ذلك النور. وفي إحدى المرات عندما ذكرت تعديات قاسية لا تخطر على بال من الجبهة المخالفة، قام أحد الشباب المتحمسين وقال: "يجب أن يُذبح جميع هؤلاء". وما إن سمع ذلك المهتدي الجديد هذا الكلام حتى اصفرّ واكْفَهَرَّ وجهه. وقال للمتحمس: لا تقل هذا يا صديقي، فلو كنتَ قد نفّذت هذا القرار قبل أيام لما كنتُ الآن بينكم وكنتُ من أهل النار. والحال ترونني الآن واحداً منكم. وإنسان تلك الجهة المخالفة لنا محتاج أيضاً إلى ما شاهدتُه من طيب المعاملة وحسن المعشر. وإلاّ ما نكون إلاّ هدّامين لآخرتهم فحسب. وهذا لا يكسبنا ولا يكسبهم شيئاً.

هذا الكلام الذي أوردته باختصار، كأنه كلام صادر من جميع الشباب الذين يتلوون من آلام الإلحاد والكفر. وأنا أصرخ مثل ذلك الشباب أيضاً وبكل ما آتاني الله من قوة وأقول: إن الشباب الذي يضطرب بآلام الكفر محتاج إلى إسباغ رحمتكم ورأفتكم عليه، فلن تحصدوا شيئاً بالقوة والإكراه. نحن مضطرون إلى العمل بعقولنا ومنطقنا وليس بعواطفنا. والأصل في القضية أن الذين نجدهم مواجهين لنا وفي الصف المخالف، علينا إقناعهم وتوجيههم إلى عالم القلب والمعنى. وأعتقد أنه إلزام المقابل أيضاً ليس أسلوباً يلتمس به المرشد طالما لا ضرورة في الأمر.

نعم، إن جيلاً كاملاً قد فُني ومُحي، ووضعت على الطرق المؤدية إلى المساجد حواجز وعقبات من الشهوات والأهواء، وجُعلت الأمور الجسدية محراب الجيل؛ فلم يعلّموه شيئاً عن الدين والإيمان والقرآن. والآن هذا الجيل يضطرب في هذه الدوامة. وهذه نتيجة طبيعية جداً ومنتظرة. فليس هذا الجيل النكد وهذا الشباب البائس يُغضب عليه ويُحنق عليه، بل الذيـن يستحقون لعنة المؤمنين هم الذين دفعوا هؤلاء إلى هذا المجرى القذر. فإن كان هناك تقصير في شيء فيعود إلى هؤلاء. ولا أقول أن الجيل الناشئ أو الشباب مبرأ عن الذنوب والآثام إلاّ أن مواجهته بذنوبه مباشرة بحدّة وخشونة لا يعنى شيئاً لإنقاذه، وأملنا أن يُنقَذ هذا الجيل من هذا المستنقع في أقرب وقت. وهذه غاية وجودنا و مبتغانا.

الهوامش

[1] أبو داود، الطهارة 4؛ النسائي، الطهارة 35.

[2] مسلم، الفضائل 17-19؛ البخاري، الرقاق 26.

[3] البخارى، بدء الخلق 7؛ مسلم، الجهاد 111؛ البداية لابن كثير، 3/166-168.

[4] البخاري، الأنبياء 54؛ مسلم، الجهاد 105؛ الشفاء للقاضي عياض، 1/105.