الفصل الثالث: علاقة الجهاد - المُؤمِن - الكَون

1-الجهاد واجب كل مؤمن

لا شك أن لكل فرد من الأفراد وظيفة تناط به في هذه الحياة الدنيا التي لا قرار فيها لشيء. فالأموال تنفد والعمارات تخرب، ولا ينفع الإنسان إلاّ ما أرسله من ههنا إلى هناك. فما عليه إلاّ العمل الدائب والسعي الجاد ليتمكن من إرسال شيء إلى هناك قبل الرحيل إليه.

ومما ينبغي أن يُعلم قطعاً: أن كتاب أعمال الإنسان يغلق بموته، وسينفرد بما عمل، ولا يستثنى من هذا إلاّ من دافع عن دينه وأمته وعرضه وشرفه وعن كل ما يجب أن يحافظ عليه. فالذين نذروا أنفسهم لله وبذلوا ما يملكون في سبيله وفي سبيل نشر الإسلام العظيم، لا يغلق كتاب حسناتهم قطعاً، وقد ورد في حديث شريف ما يوضح هذا بجلاء:

"كلُّ الميِّت يُختم على عمله إلاّ المُرابِط، فإنه يَنْمُو له عملُه إلى يوم القيامة ويُؤَمَّن من فَتَّانِ القَبر".[1] فإنه سنّ سنة حسنة وشق نهجاً وسبيلاً إلى الخيرات، فكل حسنة يعملها من يأتي بعده يُكتب مثلها في كتاب حسناته، فضلاً عن ذلك فهو آمن من فتنة القبر وعذابه، لأنه لم يمت موتاً حقًّا حتى يرى عذاب القبر، بل بدّل مكاناً بمكان فحسب، فما تركه من جليل الأعمال يعيش كل حين في قلوب الناس.

فالذي يقول إن محمداً صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قد ماتوا وانتهوا، فهو الميت حقاً، ذلك لأنهم قد سنّوا سنناً حسنة عظيمة. وفتحوا سبلاً منيرة لا نعرج على شيء في طريقنا في الحياة إلاّ ونرى ما يخصّهم من آثار جليلة. وكلما رأينا آثارهم سجدنا سجدة شكر لله قائلين: ليرفع الله ذكركم، ويرضَ عنكم أجمعين... فقد مهّدتم لنا السبيل إلى الله تعالى ويسّرتم لنا الطريق إليه لنلجها بأمان واطمئنان.

ولهذا تتضاعف حسناتهم وفضائلهم ومزاياهم وترتفع حتى تبلغ العرش الأعظم. فهؤلاء بلا شك آمنون من عذاب القبر، لأن هذا العذاب يخص الأموات. نعم، إن عذاب القبر لأموات الروح وأناسي الجسد الذين لم يصبغوا حياتهم بالدين الذي هو صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة:138). فهؤلاء لم يحتسبوا حياتهم للحقيقة الأحمدية، ولم يتخذوا القرآن دستور حياتهم. أما الذين نذروا حياتهم لهذه الحقائق وبذلوها في سبيل الله، فهم في منجاة من عذاب القبر. يقول سيد الكونين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الجهاد:

"مَن رابَط ليلةً فى سـبيل الله سـبحانه كانتْ كألْف ليلةٍ صيامِها وقيامِها".[2]

فعليكم إذن أن تصوموا ألف يوم وتقيموا ألف ليلة كي تبلغوا ثواب المرابط ليلة واحدة في سبيل الله تجاه العدو الذي يريد الحلول في بلدكم وتخريب أمتكم. بل هذا أرضى لله وأكثر قبولاً عنده.

من المؤمنين من يوفي بمهمة الجهاد حق الوفاء فينال الفضائل التي ذكرناها آنفاً. ومنهم من يعجز عن القيام الفعلي بالجهاد ولكن ينال جزاء عمله مثل أولئك فضلاً منه سبحانه وتعالى. بمعنى أن من يعمل في سبيل الإيمان والقرآن -ولو حمل حجَرا للبناء- لا يضيع عمله هباءً قط.

فمن يتبنَّى القضية التي يشاور بشأنها ويعمل على إنجازها ويصبح وسيلة في خدمتها يكافأ -كلٌّ- حسب نياته ويثاب على عمله. فبدءً من الكاتب الذي يجاهد بقلمه وحتى الناشر له. كلٌّ يأخذ ثوابه كاملاً غير منقوص.

ولهذا ينبغي على كل مسلم أن يشترك في هذه المأدبة العظيمة بما منحه الله سبحانه من إمكانات وقابليات، ليغنم النتيجة الحاصلة من عمل الجميع.

يروي أبو هريرة رضي الله عنه في حديث المعراج:

".... فسار وسار معه جبريل عليهما السلام. قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا! قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يُخلفه، وهو خير الرازقين".[3]

بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ارتقى بالمعراج سماءً سماءً بعبوديته وعبْديته إلى الله منسلخاً من عالم الناس مرتقياً إلى عالم الملكوت، فرأى مناظر شتى، واطلع على مشاهد كثيرة. فشهد في هذه الأثناء أن قوماً يزرعون في اليوم ويحصدون ما يزرعونه في اليوم نفسه. وما أن يجنوا الحاصل حتى تزرع البذور مرة أخرى وتثمر مرة أخرى. وعندها استفسر الرسول الكريم من جبريل: يا جبريل من هؤلاء؟...

ومن هنا فالمؤمن إذ يضحّي بحياته كلها وأذواقه وراحته وشبابه في سبيل الله، عليه أن يعتقد أنها لا تذهب هباءً منثوراً ولا تفنى فناءً قط بل ما إن يرحل إلى العالم الآخر يرحل إليه مطمئن القلب حيث سيرى أنه لم يهدر مثقال ذرة من عمله قط. نعم، إن الله الحفيظ على كل شيء والرقيب على كل شيء سيحافظ على ما بذله المؤمن في سبيله. نعم، الله يحفظ عمل المؤمن ويجازيه خير الجزاء كما لو خرَّ له ساجداً –إن كان السجود وارداً في الجنة- لا يرفع منه رأسه إلى الأبد فأنه لا يوفي شكره لله على ألطافه العميمة وإنعامه السابغة عليه. وأعتقد أن اللذة الروحية الحاصلة من هذه السجدة لا تتخلف عن لذات الجنة الأخرى.

والرسول صلى الله عليه وسلم يبيّن في حديث شريف الشركة في ثمرات الجهاد فيقول:

"مَن جَهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزَا ومن خَلَفَ غازياً في سبيل الله بخَير فقد غزَا".[4]

نعم، إن من لا يقدر على الإشتراك في الجهاد بالذات ولكن يستطيع أن يعاون من هم في الجهاد ويحتضن بمؤسساته المجاهدين ويقيهم، فإنه يكون معهم في الجهاد فعلاً. فالذين عاونوا مجاهدي بدر وجهّزوا مجاهدي أحد وبذلوا أموالهم لمجاهدي تبوك سيسيرون معاً إلى الرب الجليل ويحشرون معاً. ذلك لأنهم استجابوا لأمر الله ورسوله في الجهاد وإن لم يشتركوا مع المجاهدين فعلاً لأعذار لهم، إلاّ أنهم لم يتخلفوا عن الجهاد.

نعم إن الذين خرجوا للجهاد في تبوك سيجدون أزواجهم وأولادهم وشيبهم وشبابهم معهم يوم القيامة. إذ الصبيان أتوا بسكاكينهم وحرابهم ووضعوها أمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأتت العرائس بقراطهنَّ، وحتى الشيوخ أتوا بما لديهم من عصي.. فبذل كلٌّ ما لدَيه لله ووضعه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين لتكن لنا مشاركة في الجهاد.[5] فهؤلاء جميعاً سيعاملون معاملة من جاهد جهاداً فعليًّا. يذكر ذلك الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:

"إنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرتم مَسيرا ولا قطعتُم واديا إلاّ كانوا معكم حَبَسَهم المرَض"[6] وفي رواية أخرى "إلاّ شارَكوكم في الأجر".

بمعنى أن الأعذار كالشيخوخة والعجز والفقر والأنوثة أو ما شابه، مما يقيد المرء عن الاشتراك في الجهاد الفعلي، لا تنقص من ثواب المجاهدين، حيث سيَقبلهم الله الجليل كالمجاهدين فعلاً ويثيبهم على عملهم حسب نياتهم. وهذا ما نفهمه من بشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق. ونعدّ إيماننا هذا -كما هو الوارد في الحديث الشريف- من قبيل الدعاء بحقنا. ولاسيما في الوقت الحاضر الذي تُرك فيه الجهاد كليًّا. فنحن نعتقد يقيناً أن من اشترك جزئيًّا أو كليًّا في هذا العمل -العمل للإيمان والقرآن- سينال ثواب الجهاد كاملاً، ونسأل الرب الكريم ألاّ يخيبنا في يقيننا هذا.

2-لنستعد للجهاد كل آن وحين

على المؤمنين أن يكونوا على استعداد كامل لما قد يداهمهم من أخطار حقيقية في قابل الزمان، ولا يدّخروا شيئاً من صحتهم وشبابهم إلا وبذلوه في هذا السبيل، وعليهم أن ينسّقوا حياتهم وفق ذلك لئلا يقعوا في ورطة وحرج أمام ما يستجد من أحداث فيقلقوا ويضطربوا ويحاروا تجاهها.

فالقرآن الكريم يحثّنا إلى هذا بالآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اَللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60). والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يأمرنا: "مَن احتَبَس فرَسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوَعده فإنّ شِبَعَه ورِيَّه ورَوثَه وبَوْلَه في مِيزانه يَومَ القيامة".[7]

فالحديث الشريف يحث على الاستعداد للجهاد بهذا الأسلوب الملائم، وكذلك عندما سأل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخيل قال: "الخَيلُ لِثلاثَةٍ: لِرجُلٍ أَجرٌ، ولِرجلٍ سِترٌ، وعلى رجل وِزرٌ، فأمّا الذي له أجرٌ فرَجلٌ ربَطها في سبيل الله، فأطالَ في مَرْجٍ أو رَوْضَةٍ، فما أصابتْ في طِيَلِها ذلك مِن المَرجِ أو الرَّوضَة كانتْ له حسناتٌ، ولو أنّها قطَعتْ طِيَلَها، فاسْتَنَّتْ شرَفا أو شَرَفَينِ، كانتْ أَروَاثُها وآثارُها حسَناتٍ له، ولو أنّها مَرّتْ بنَهرٍ فشَرِبتْ منه ولم يُرِدْ أنْ يَسْقيَها كان ذلك حسَناتٍ له. وأمّا الرّجُلُ الذي هي عليه وِزرٌ فهو رجُلٌ رَبَطَها فَخْرًا ورِياء ونِواءً لأهل الإسلام فهي وِزرٌ على ذلك".[8]

وقد ذُكر الخيل في الحديث لأنها أَسرع واسطة للنقل والحرب لعصر معين. أما في الوقت الحاضر فقد تغير الزمان، والناس يستعملون السيارة وغيرها من وسائط النقل والحرب، لذا يمكن أن ينسحب الحكم الوارد للخيل على وسائط النقل المستعملة في وقتنا الحاضر.

نعم، قد تكون سيارة وزرًا على صاحبها، حيث يستعملها في السفاهة والآثام، وربما وسيلة للعداء للإسلام. وسيارة تكون ستراً لصاحبها حيث يستعملها في أمور مشروعة، وربما واسطة لرزقه ولا ينسى حق الله فيه. وسيارة أخرى نُذرت في سبيل الله. يتنقل بها صاحبها من قرية إلى أخرى ويصطحب فيها المرشدين والوعاظ إلى مواضع المحتاجين إليهم. فكل قطرةِ وقودٍ تحرقها هذه السيارة، وكل قرش يصرف عليها، وحتى الغازات العادمة الخارجة منها، والأصوات الصادرة منها، والطين الذي الْتصق بعجَلاتها.. كل ذلك يُكتب حسنات في سجل حسنات صاحبها، وكأن حركة العجلات تولد الحسنات وتسجلها كتروس المعمل. فكل ما يدخل فيها وما يخرج منها وحتى الآثار التي تتركها على الأرض تؤدي وظيفة قلم يكتب الحسنات باستمرار.

فنحن نقدر فائق التقدير ذلك المحظوظ الذي نذر سيارته لخدمة الإيمان والقرآن وحمّلها أعباء دعوة الحق، ولسان حاله يقول: إن الغاية من شرائي هذه السيارة هي نشر الحقائق. وغني عن التعريف أن هذا تهيئة وتحضير ومقدمة للأعمال الجليلة التي تتحقق بإذنه تعالى في المستقبل.

3-الجهاد يتّحد به المؤمن كل آن

إن الجهاد -المادي والمعنوي- أعظم دافع ودستور للحياة الإسلامية، فإذا خبا في المؤمن روح الجهاد يذبل وينطفئ أيضاً عشق الإيمان والإسلام رويداً رويداً، فتحيطه شرارات الفتن من كل جانب، حتى تمسه ألسنة لهيبها. والفتن تولّد فتناً أخرى، فتغدو بيوت هؤلاء ومحالهم وأزقّتهم وأسواقهم في النهاية أوكار لعنة وفساد. حتى تخور قواهم أمام الأحداث الرهيبة فلا ينبض لهم عرق تجاه حادث أو فعل.

وكذلك تزول من القلوب بركة الوحي بنسبة زوال الرغبة في الجهاد والشوق إليه، وينمحي الشوق والعشق لإدراك المقاصد الإلهية، حيث القلوب باتت بعيدة وغريبة عن أن تكون مهبط الإلهام الرباني، فيحرمون من الأسرار الإلهية. فنَهار هؤلاء مظلم كلَيلهم، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى إنما يتفضل بالتجليات والفيوضات على قلوب الذين يتحملون أعباء الجهاد ويتعهدون بإعلاء كلمة الله بما يوافق عظمته سبحانه، فلا يتحول المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء إلى أنقاض وخرائب.

نعم، إن تكامل الفرد والأسرة والمجتمع، بأكمله مرهون بالجهود التي تبذل في سبيل إعلاء كلمة الله في الحياة والمجتمع. فإن قدّم المؤمنون شيئاً من الهمة والجهد بتجوالهم في القرى والأرياف، قرية تلو الأخرى، قصبة إثر قصبة، يبلّغون الناس دعوة الله الحقة، فهذا يعني أن الله سيحيي ذلك المجتمع من نواحيه كافة، أما إن كان المجتمع محروماً من هذه الروح وهذا العشق، فإنه يتهاوى على رؤوس أفراده. إما اليوم، أو غداً، أو بعد غد. وإنّ غداً لناظره قريب. والتاريخ يشهد كم من أعزّاء أصبحوا أذلاء، وكم من أغنياء وأثرياء غدوا فقراء معدمين عندما حرِموا الجهاد. فالذين كانوا يتوّجون الملوك أصبحوا أذلاّء بعد أن دارت الأيام، وصاروا يتوسلون بتقبيل الأقدام. ونحن نتلو اليوم عليهم الآية الكريمة: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾(الدخان:25-27). وربما يأتي يوم -حفظنا الله منه- من يتلوا علينا الآية الكريمة نفسها!

نعم، لقد قُرئتْ "الفاتحة" على أرواح الأمويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين. فإن كنا لا نريد أن تتحول الأناضول، آخر معاقل الإسلام تجاه غزو الغرب، إلى مقبرة تقرأ فيها "الفاتحة"، علينا الابتعاد عن أحوال الموتى وأوضاع المقابر، بمعنى أن نكون أحياء حياة تليق بالإنسان.

فنحن نعظمُ بنسبة تعظيمنا لدين الله، فنكتسب قدرا وحالا لدى الله بقدر عظمة اسمه الجليل في قلوبنا، أما إذا تهاونّا بالأمر وأهملنا واجبنا في التبليغ والدعوة، وتركنا مهمتنا فنصغُر بقدر ذلك أمام الله، ونُدَمَّر ونـزول.

فإن كنتم تريدون أن تكونوا أحياء أعزاء، عليكم أن تضعوا اسم الله في سويداء قلوبكم، وتجعلوه سبحانه غاية حياتكم، وتُزِيلوا كل ما ليس له صلة بالله من حياتكم، بل حتى من أحلامكم. قولوا معاً: إن القبر الذي هو رواق الآخرة خير لنا من حياة لا أتمكن أن أحبّ الله فيها ولا أستطيع من تبليغ دعوته سبحانه، ولا أقدر على إنفاذ أوامره في الحياة. فالموت خير لي من أن أحمل قلباً لا ينفتح لتجلّياته جل وعلا لتغسل أدرانه.. اسعوا لبعث هذا الشعور السامي وهذه الفكرة الطيبة في قلوب الأمة جميعاً. وحاولوا أن يقف المجتمع على قدميه بعد أن انهارت فيه كثير من المقومات. وذلك لينجيكم ربكم من أن تكونوا كالقطعان الضالة.

المؤمن يعرف ما ينبغي أن يفضّل وكيف يفضّل، وفق الموازنة المطلوبة بين الدنيا والآخرة ويستشعر في وجدانه بأهمية الآخرة وإيثارها على أمور الدنيا الفانية، فهو دائماً على استعداد لتفضيل أمر الله على أمور الدنيا. وبحسب هذه المفاضلة لا يُضحّي بالأمور والأشياء الباقية السرمدية لأجل أمور زائلة تافهة، بل يهتمّ بالدنيا بقدر مكوثه فيها وبالآخرة بقدر بقائه فيها. فلا يقع في إفراط اليهود بتعلّقهم بالدنيا، ولا في تفريط دين النصارى بها.

والمؤمن يعدّ التذلل تجاه أمور دنيوية هو المرتبة الأولى للتعرض للذل والخزي في العقبى. لأن الذين جعلوا الدنيا أكبر همّهم ومبلغ علْمهم يحرمون منها فضلاً عن تضييعهم للآخرة. فالذي يهاب الموت يفقد لذة الحياة، كذلك والذي يفقد صوابه تجاه العدو في جبهة القتال ويفرّ من الزحف خوفاً على حياته وعشقاً لها أو يعتريه الاضطراب والقلق على حياته ومعيشته فيجد الحل في الفرار من ساحة الجهاد، يُحرم من الحياة عينها والعيش نفسه. وحتى الذي ينـزوي في صومعته تاركاً الدنيا وما فيها، متخلفاً عن الجهاد المقدس، يحرم من تلك الصومعة أيضاً. فساقطو الهمة سيفقدون يوماً كل ما لديهم، وينقلبون رأساً على عقب. بينما ذوو الهمة العالية ممن يهدفون إلى إعمار الكون بنجومه وكواكبه يستصغرون الدنيا ويأبون أن يروا العالم يقوده حاكمان إثنان بل يجدون في أنفسهم الأهلية لحكمه من دونهما فيعيشون برؤى حاكمية العالم طوال عمرهم.

نعم، إن الذين فضّلوا الموت على الحياة، قد كشفوا عن سر الخلود، ووجدوا الطريق إلى العيش الأبدي. وأما الذين افتتنوا بسحر الدنيا وجمالها فيتشبثون بها بما لديهم من طاقة تاركين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهملين ما يجب عليهم في هذا الصدد.. هؤلاء يدفعون بالأمة إلى التهلكة فضلاً عن أنفسهم. ويتركون الجيل المقبل ضائعاً تائهاً دون صاحب أو حامٍ.

فجهاد المؤمن يتوقف على تلافي هذه العواقب الوخيمة.. نعم إن الشوارع والأزقة تتنور بجهاد المؤمن، ولا يندفع الفوضى والإرهاب الذي أغرق الدنيا في بحر من الدماء إلاّ بجهاد المؤمن. والسلام الدائم للإنسانية قاطبة وسعادتها إنما تستقر على الأرض بجهاد المؤمن.

فالمؤمن هو هذا الإنسان الذي يسير نحو هذه الغاية السامية. ولربما يبلغ الغاية أو لا يبلغها، ولكن في كِلا الحالتين ستحتضنه الرحمة الإلهية وسيحشر مع السعداء الأبرار الذين قضَوا نحبهم في سبيل هذه الدعوة، وتمسكوا بتلابيب الرحمة الواسعة.

ومما لا ينبغي أن ننساه هو هذه الحقيقة: أنه بحسب المؤمن أن يسلك طريق الحق ويثبت عليه، وليس من الضرورة بلوغ النتيجة دائماً. فبلوغ كل إنسان إلى الهدف غير وارد، وإنما على كل واحد أن يتحرك ويسكن ويعمل ويسعى ويجدّ لبلوغ الهدف. أما حصول رضى الله في هذه السبيل فقد لا يتيسر إلاّ لمن وفّقه الله لنيل رضاه.

نعم، إن ما كان يخفق به قلب الغازي عثمان ويضطرب له ويقلق عليه لسنين طويلة قد تحقق بيد أحفاده. فكانت كل خطوة خطاها سلطان إثر سلطان عظيمة بقدر النتيجة الحاصلة منها. ولها نفس القيمة والأهمية عند الله. فأعمالهم كلها جهاد، والذين اشتركوا معهم جميعاً في هذا الجهاد يسجَّلون في سجل المجاهدين. نعم، إن كل من امتطى جواده وهيأ فرسه وحمل قوسه وشدّ الرحال إلى ديار الكفر لتبليغ دعوة الإسلام يسجل في سجل المجاهدين. فلا فرق بينهم وبين القائد الذي قاتل في المعارك، ولا فرق بينهم وبين من ضم البحرين العظيمين ضمن سلطنته وحاكميته فأصبح عنصر توازن في الأرض حتى سكّت النقود باسمه... ذلك لأن كلاً منهم كان يستهدف الحقيقة نفسها ويتحرك ويسعى لها.

نعم إن الدنيا التي سينشؤها فِدائيو المحبة هي أساس السكينة ومنبع الطمأنينة ومرتكز السلام الذي سيعمّ الإنسانية قاطبة. فكل خطوة تُقدّم في هذه السبيل لإنشاء مثل هذه الدنيا خطوة مقدسة، وكل هِمة تدفع في هذه السبيل جليلة عظيمة مهما كانت صغيرة، فإن كان باستطاعتكم أن تخطو خطوة واحدة فاخطوها قَبل أن تنقطع أنفاسكم.. تسابقوا في السير إلى الله تعالى مع الملائكة الكرام كي يعزّكم الرب الجليل ويرفعكم إليه تعالى، حتى إذا ما توفاكم قبل إنجاز المسابقة، فقد فُزتم.. نعم لا تضيع عنده حَبة من خردل من الأعمال.

وتأملوا هذا المعنى في قوله تعالى:

﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي اْلأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيماً﴾(النساء:100).

ولعل إيراد سبب نـزول هذه الآية الكريمة يوضح المسألة أكثر:

كانت القلوب تتحرق شوقاً إلى الإيمان بالله. والناس بدأوا يرِدون إلى منبع الفيض الإلهي في المدينة المنورة زرافات ووحداناً، حيث ذابت الحواجز بين القلوب وأصبح الجميع يفدون إلى الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، حتى أصبح الأعداء السابقون أصدقاء وأولياء.. وكان منهم جندب بن ضمرة الذي قال: علَيّ أن أذهب إلى المدينة.. وانسلّ من بين الكفار متوجهاً إلى المدينة المنورة، فكان يستشعر بنسائم المدينة من بعيد.. ولكن أصابه مرض شديد أقعده عن الذهاب والهجرة، فلم يستطع أن يبلغ غايته.. ولما أحس أنه سيموت مَدّ يديه إلى السماء بقلب ملتاع. وقال: يا رب! اِقبل إحداها يدك والأخرى يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فأنا أبايعك، بمثل ما بايعك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وتوفى قبل وصوله المدينة المنورة. ونُقل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض الصحابة إن جندب لا يعدّ مهاجراً ولا يفوز بثواب المهاجرين.[9] فنـزلت الآية الكريمة، مبشّرة بأن جندب من المهاجرين. وأن من ترك بيته بنية الهجرة إلى الله ويموت في الطريق ينل ثواب المهاجر.

نعم، إن سالك طريق الحق، هو على الحق. فالذي يوصل إلى الحق، حقٌّ مثله. أجل، قد لا يتمكن كل أحد أن يبلغ الكعبة والطواف حولها واستلام الحجر الأسود وتقْبيلها ثم التطهر من الذنوب على عرَفة. ولكن من كان يحمل عشقاً لهذا الطريق والسلوك فيه، وكان همه وفكره يدور حول هذا، فلا يدَعه الرب الجليل سبحانه وتعالى وهو الرحمن الرحيم ولا يترك ذلك القلب الواله العاشق محروماً من الثواب.

إنه لا فرق بين الصغير والكبير من الأعمال التي تؤدَّى في سبيل الله. ألا فليعلم أولئك الذين يقولون: "إنني لا أتمكن من أن أجاهد بمثل ما تعرّفون الجهاد" و"لا أستطيع أن أبلّغ تلك المسائل" و"لا لي من طائل الأموال ما أنفقه في سبيل الله"... وأمثالها من المعاذير.. فليعلم هؤلاء أن من يشترك في هذه المأدبة الربانية ولو بملعقة صغيرة ينل -من دون أن يشعر- ثواب من اشترك فيها بملء الوديان والبحار.

نعم لا عبرة بصغير العمل وكبيره ما دام في سبيل الله، فرُبّ عمل بقدر ذرة في سبيل الله يرجَّح على الأطنان من الأعمال، ورُبّ خطوة واحدة في تلك السبيل تجلب من البركات والخيرات ما يعمر بها الإنسان آخرته، ولهذا عليكم بخلوص النية في العمل لله. وابذلوا ما لديكم وما تستطيعونه من عمل، ولا يساورنكم شيء من الظن فإن عناية الله ورعايته معكم.

4-الربانيون ممثلو الحاكمية

إن الجهاد الذي بدأ منذ آدم عليه السلام واستمر بالأنبياء الآخرين، قد أدامه مئات من الربانيين المعروفين والمجهولين لدينا، في كل فترة من فترات التاريخ. والقرآن الكريم يعلّمنا هذه الحقيقة بالآية الكريمة الآتية:

﴿وَكَأَيِِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمْ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران:146-148).

فالآية الكريمة تذكر "الربّانيين" الذين يستحقرون الحياة ولذائذها كافة، وكل ما يعود إليها، وهم لا يسكنون ليل نهار في ابتغاء مرضاة ربهم ويبذلون كل غال ونفيس في سبيله، فقد نذروا أنفسهم لله، ينشدون الحق دوماً، ولسانهم رطب بذكره الجليل. فهؤلاء يرتبطون بالله ربهم بأوثق رابطة، وجهادهم نابع من صميم قلوبهم.. نعم إنه جهاد الربانيين الذين لا يهنون لما أصابهم في سبيل الله ولا يستكينون ولا يضعفون. فلا يؤثّر فيهم شيء حتى لو انشقت السماء عليهم وانشقت الأرض وابتلعتهم ودارت رَحى المصائب على رؤوسهم. فهؤلاء يسيرون في سبيلهم لا يبالون بالبلايا لا يفت جلل في عضدهم وعزمهم وإقدامهم في طريق الحق الذي آمنوا به. فهم أبطال الصبر ورجال الثبات. فالصبر مغروز في فطرتهم بل هو اشتهاء وشوق فيهم. فهذا الشوق والشهية من أهم الوسائل لجلب رحمة الله عليهم. ذلك لأن الله يحب الصابرين.

ومن جهة أخرى تراهم يتسابقون مع الملائكة في الطهر والعفة، متخذين طور الأنبياء قدوة في تجنبهم الآثام والمعاصي. فهم على علم من أن الإثم وقساوة القلب تعرّضان الإنسان إلى الخور وقلة العزم وضعف الثبات. لذا يستمرون في حياتهم وهم يحملون عزماً وإقداماً وثباتاً، ويلتجئون إلى ربهم كل حين راجين غفرانه لذنوبهم وإسرافهم في أمرهم.

نعم، إن الإثم مانع وعائق لنـزول الرحمة الإلهية بمعناها الكامل. لذا فلا بد من التوبة من الإثم فوراً، ولعل تقديم التوبة والمغفرة على النصر في الآية الكريمة هو من هذا الأمر: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمْ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران:147-148). إن القرآن الكريم يبين لنا طريقاً سويًّا لجلب محبة الله ورضاه، وهو يرشدنا: إن كنتم تريدون ذلك، فها هو الطريق.. كونوا من الربانيين. ومن هنا كان كل نبي من الأنبياء يربِّي في أمته الربانيين الذين يمثّلون دعوته ويسلّم أيديهم راية الجهاد. فلكل نبي ربانيون من هؤلاء قلّوا أم كثروا.

فلقد مضت هذه السنة الإلهية هكذا حتى بلغت رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. والذين أنشأهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الصحب الكرام كلهم ربانيون. فكل صحابي رمز للجهاد والبطولة والثبات. وكل صحابي كأنه على صورة حواري، فهو أزهد الزهاد وأعبد العبّاد ليلاً، وهو في النهار بطل يلقي الرعب حتى في قلوب الأسود الضارية. فأقوى الجيوش الجرارة ينهزم أمامهم ويهربون كالأطفال الصغار. ذلك لأنهم عشاق الموت، في حين أنَّ أعداءهم يهربون خوفاً من الموت وهلعاً منه.

وإليكم أمثلة من خير القرون:

آ-أنس بن النضر رضي الله عنه

لم يشترك في بدر، وهو الذي التحق مع أهله أجمعين بالنور، وحظي بالنور وأصبح نوراً منوراً، وولج طريق النور لنشر نور الحقيقة... ولكنه مع هذا لم يقدّر له الاشتراك في بدر لأسباب خارجة عن طوقه. فشقّ ذلك عليه ولهذا كان دائماً يتألم ويتحرق، ولاسيما عندما عاد أُسُود بدرٍ من الغزوة فأخذ يضرب يده على ركبته متألماً وقال: "يا رسول الله غِبْتُ عن أوّلِ قتال قاتلتَ المشركين لَئن الله أَشهدني قتال المشركين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أَصنَعُ".[10]

وبعد مضي سنة واحدة، أتت قريش -انتقاما لمعركة بدر- بقوة تفوق أضعاف أضعاف قوة المسلمين، وبلغت أبواب المدينة المنورة، فاستقروا على سفح جبل أُحد -الذي يبعد عن المدينة المنورة ما يقرب من خمسة كيلومترات- فأنس بن النضر رضي الله عنه الذي لم يقدر له أن يشترك في بدر، هو الآن في معركة أحد بكل طاقاته وهمته، فلما حمي الوطيس كان أنس رضي الله عنه يضرب أعناق كل من يقابله من الكفار يمنة ويسرة، ويغِير على الموت نفسه في كل موضع في سبيل إعلاء كلمة الله، ولكن الموت الذي سيبتلع هذا التوّاق إليه لا يتراءى في الأفق بعد.

أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، وأنس محزون متألم من عدم فوزه بالشهادة.. وفي هذه الأثناء إذا بخالد بن الوليد يغير فجأة على المسلمين، فيقع الاضطراب في صف المسلمين، ويتشتتون حتى أُشيع أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد قتل، مما سبّب شدة الاضطراب في صف المسلمين، إلاّ أن أنس هو الوحيد من بين الصف لم يحرك قدماً إلى الخلف قط. إذ كان يلقى بنفسه على العدو، وهو يقول إن كان حقًّا قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلِمَ تعيشون أنتم؟!... أنس بن النضر رضي الله عنه العاشق للموت، التوّاق لشراب كأس الشهادة.. رفع يديه قائلاً: "اللهم إني أَعتذرُ إليك ممّا صنَع هؤلاء -يَعْنِي أصحابَه- وأَبرأ إليك ممّا صنَع هؤلاء -يَعنِي المشركين-".[11]

نعم إن أنس بن النضر يبرئ ذمته ويبعد نفسه عما يعمله هؤلاء الكفار ويلتجئ إلى ربه تعالى. ثم ألقى نظرة إلى صفوف المسلمين المضطربة فاغرورقت عيناه، كان المنظر مؤلماً جدًّا بالنسبة إليه. صحيح أن العدو لم ينل منهم شيئاً ولكن ما شاهده من تفرق الصف وتشتُّته كأنه سهم مسموم أصاب صدره. فقال: "اللّهم إني أَعتَذر إليك مما صنَع هؤلاءِ..". ثم اندفع في صفوف العدو ولم يعقب، فلم يكن يدور في خلده لحظةً الخوف وليس في قاموسه كلمة "الخوف"، إذ كان يحب الموت أكثر من الحياة. فدارت رحى الحرب مرة أخرى. ورغم كل ما جرى فالنتيجة كانت أيضا لصالح المسلمين. إذ ترك العدو الساحة وولّى بعدده وعُدده. وما ترك غير الخسران والخذلان والضياع الكثير.. فولّى هارباً بنفسه لا يلوي على شيء، إذ ما كان لهم أن يفكروا بالعودة مرة أخرى للحرب وقد تعقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثلّة من المسلمين.

بلغ عدد شهداء أحد ما يقرب من سبعين شهيداً.. وكان من بينهم أنس بن النضر رضي الله عنه فوُجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم... حتى قالت أخته: فما عرفتُ أخي إلاّ ببنانه.[12] ونال أخيراً مرتبة الشهادة. والقرآن الكريم يذْكره ومن معه في هذه الآية الكريمة: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾(الأحزاب:23). وكان أنس بن النضر رضي الله عنه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.[13]

بـ-البراء بن مالك رضي الله عنه

لم يولّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه البراء بن مالك قيادة الجيش على الرغم من بطولاته الفائقة وبلائه الحسن في المعارك. ولما سئل عن السبب: قال: شجاعته.

نعم إنه كان شجاعاً وجريئاً إلى درجة قد يورد الجيش المهالك بإقدامه، فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يولّـه الجيش مع حبه الشديد له، خشية أن تؤدي جسارته الفائقة إلى عدم الأخذ بالحذر.

هكذا البراء لا يَعرف الخوف. وقد شهد جميع الغزوات فضرب أعناق الكفار، فكان يتعقب الموت في كل مشهد، فإن لم يجده يتألم ويحزن ويرجع مهموماً من ميدان الحرب!

ولقد أصبح قاب قوسين من الشهادة في اليمامة، إذ لما لم تفتح أبواب القلعة، تسلق الأبراج ورمى بنفسه منها إلى داخل القلعة، والعدو يمطره بالنبال، فجرح جروحاً بالغة.. ولكن لم ينل في اليمامة أيضاً ما أراد.

إنه صحابي مستجاب الدعاء. وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بين جمع من الصحابة الكرام رضي الله عنهم "كَمْ مِن أشعَثَ أغبَر ذيِ طِمرَينِ لا يُؤبَهُ له لَو أَقسَم على الله لأَبَرَّه، منهم البَراءُ بنُ مالكٍ".[14]

فكان الصحابة الكرام إذا تعسّر عليهم أمر لجأوا إلى البراء بن مالك للدعاء. وحدث هذا كذلك في الأهواز، المعركة التي وقعت بين المسلمين والفرس. إذ لما حدث التشتت في صفوف المسلمين كان الناس يرقبون البراء وينتظرون منه الدعاء للنصر، فرفع يديه قائلاً: اللهم اهزم العدو وانصرنا عليهم وأبلغني نبيك. فردد ألوف المسلمين آنذاك: آمين آمين لهذا الدعاء. فنظر نظرة وداعٍ لأخيه في الله أنس رضي الله عنه بعيون تبرق كالبرق الخاطف لشدة فرحه وبهجته، فرمى الدرع ودخل صفوف العدو بسيفه المسلول، فهزم الله العدو وبدأوا بالفرار ونصر المسلمين عليهم. ولما عم الفرح المسلمين كان في أرض المعركة أسد هصور مضرج بالجروح يتملى المنظر الذي حدث بابتسامة رقيقة على شفتيه.. إنه منظر الوداع من الدنيا منظر الإنتصار الذي أطبق جفنيه عليه.. كان هذا الأسد الجريح البراء بن مالك رضي الله عنه ينتظر استجابة الشطر الآخر من دعائه، بلوغه الرسول صلى الله عليه وسلم.. وبعد قليل التقى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحبه أكثر من نفسه.

5-الجهاد وسيلة لحاكمية الأرض

إن في يد المؤمن كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويهديه إلى سبيل الرشاد، فهو منبع عزّه وسؤدده. وأمامه القدوة الحسنة للبشرية جمعاء وهو سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فهو بهذا الكتاب المبين وبهذا الرسول الكريم، ذو حظ عظيم أكثر من أي أحد كان على ظهر الأرض قاطبة. ولهذا فهو المرشح الوحيد ليحكم الأرض كلها. والقرآن الكريم يعلّم المؤمن هذا المفهوم، والله سبحانه وتعالى ينتظر منه هذه النتيجة.

فالمؤمن هو الذي يردد دائماً: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن كتابي، والجهاد في سبيل الله أسمى أمانيّ... لذا استقر في قرارة نفسه هذا المفهوم: إنني لا بد وأن أجعل من أمة الإسلام عنصر توازن بين أمم الأرض جميعاً. فإن لم يؤخذ كلامي أساساً بين القرارات التي تُتّخذ بين طبقات البشر، تُرتكب إذاً مظالم شنيعة، ويُذلّ الأعزاء، ويُعزّ الأذلاء.. ولهذا فلا بد أن يكون القرار والحكم صادراً مني، وأكون أنا عنصر الموازنة. وعلى الدول أن تحدق في اجتماعاتها إلى إصبعي أنا حيثما أشير، وأن يُقَدّم كلامي على الكلمات التي تطلق هنا وهناك. ولا يُتخذ قرار إلاّ بعد أخذ رأيي فيه...

فإذا ما بلغ المؤمن هذا الشعور والمفهوم فلا تستغل أية قوة استعمارية المسلمين، ولا يؤخذ ضدهم قرار الحصار. وهذا ما يريده سبحانه وتعالى من المؤمن وهو القائل: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105).

فالذكر يعني: النصيحة، أما هنا فيأتي بمعنى التوراة، أو اللوح المحفوظ في معنى أشمل. وعلى هذا المعنى يمكن أن توضح الآية الكريمة كالآتي: إن الله سبحانه بعد ما كتب في اللوح المحفوظ ما كتب، كتب في الكتب المرسلة إلى الأنبياء مستنسخات من اللوح المحفوظ وهي: إن عباد الله الصالحين يرثون الأرض، أي العباد الصالحون هم الوارثون الحقيقيون الدائمون في الأرض. أما حاكمية الآخرين للأرض فهي عابرة خاطفة؛ إذ الحاكمية الدائمة على الأرض بالتجدد المستمر، إنما هي حاكمية العباد الصالحين، وما يتشكل منهم من أمم صالحة ومجتمعات صالحة. ولقد تقرر هذا قانوناً في اللوح المحفوظ، وسجّل في الزبور نقلاً منه. نعم، إن الزبور غير المحرف الذي أُرسل إلى سيدنا داود عليه السلام فيه هذا القانون.

أجل، ربما تظهر نظم -مما لا يرضى به الله- في الشرق والغرب ويظهر فراعنة ومتمردون في كل مكان، ولكن لفترة معيّنة ولمدة عابرة. فهذا لا يخالف القانون المكتوب في اللوح المحفوظ وفي الزبور، والذي أخبر عنه القرآن الكريم. لأن الميراث المذكور هو الميراث الدائم والحاكمية المستمرة لمدة طويلة. أما ظهور حاكميات غير الصالحين بين فترة وأخرى، فهو مبني على حكمة إلهية وهي إيقاظ المسلمين وتذكيرهم ليبادروا إلى الاتفاق فيما بينهم. وهذا قانون إلهي لا يقْدر على تبديله أحدٌ قط.

فذوو الأخلاق الفاضلة في عصرهم أو من لهم نصيب وافر منها هم الذين يكونون حكّاماً في الأرض. وجدير بالملاحظة أن المقصود بالأخلاق الفاضلة لا يعني التردد إلى المسجد أو ما شابه ذلك فحسب، بل هو الاتصاف بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في كافة مرافق الحياة. وبهذه الأخلاق يدرك الإنسان معنى الأشياء والحوادث وعلاقة الإنسان بالكائنات. وفيها أيضاً المحافظة على التوازن التام بين أغوار الأنفس والتفكر في أغوار الآفاق... وبمعنى أوسع: فالمصلحون في الأرض هم المرشّحون دائماً لإدراك الخلود.

ولا يمكن أن يحقق هذا المعنى الواسع للحاكمية، الذين يثيرون الإرهاب والفوضى في أنحاء العالم ويرتكبون الجرائم تلو الجرائم ويستغفلون الناس -ولاسيما الشباب- بمشاكل سياسية، ويختلقون شعارات سياسية لجذب الرأي العام، ويعتدون بعقولهم تاركين الشورى فيما بينهم... هؤلاء لا يمكنهم قطعاً أن يؤسّسوا هذه الحاكمية -بمعناها الحقيقي- وسيفيقون من غفلتهم يوماً من الأيام عند شروق شمس الإسلام، وعندها يَندمون، حيث يدركون تخبطهم في ظلمات دامسة، فيعترفون بخطئهم.

نعم، إن الإنسان الذي خلق مكرماً سيجد الطريق السوي يوماً ما، إذ بخلافه يكون هذا القانون خطأ -والعياذ بالله- ومن المعلوم أن القانون لا يتبدل إذ: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾(الروم:30) إلاّ أنه سبحانه له قانون آخر وهو ﴿إنَّ اللهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11). فالله سبحانه لا يُذلّ أمة عزيزة كانت تاجاً على الرؤوس إلاّ إذا غَيرت الأمة ما في داخلها. فهذا القانون سار في المعنى الإيجابي والسلبي على السواء. لذا ينبغي الحفاظ على النفس، والتعمق فيها، والسعي لإدراكها. فمن كان يريد إحراز لقب الفاتح فليَفتح قلعة النفس أولاً، ومن استعصى عليه فتح الداخل لا يمكن أن يفتح شيئاً في الخارج.

إن بطرس الأكبر المعروف بجنونه، رسم للروس خطة مثالية، كانت خطته هذه موضع اهتمامهم دائماً، ويمكن أن نلخص قسماً منها بالآتي:

تجاوزوا حدود البلقان، أوقفوا توسع العثمانيين واقطعوا السبيل عليهم، بثوا الفتنة والشقاق في صفوفهم. إنـزلوا إلى البحار الساخنة.. استولوا على أفريقيا وممالك خليج البصرة.. لا تفسحوا المجال للأوروبيين أن يستغلوا العالم الإسلامي ضدكم حتى لو دخلتم معهم في مفاوضات..

تمضى الوصية هكذا عموماً، وأصبحت هذه الوصية إلى أيامنا الحاضرة غاية الروس وهدفهم، حتى في عهد الشيوعيين.

أما وصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، فهي القيام بدعوة سامية ولغاية جليلة، تلك هي حاكمية الإسلام على الحياة كلها لضمان سيادة الدنيا والآخرة.

فامتثال هذه الأمانة المقدسة ونشرها في آفاق العالم اليوم دَين في أعناقنا. فالمؤمن يعيش طوال حياته لأجل الغاية وسينطلق لبلوغها إلى البحر الساخن والبحر البارد، وسيُشعر بقوته وحاكميته في كل بقعة من الأرض حتى لو كانت منجمدات سيبريا ومجاهل أمريكا الجنوبية وصحارى أمريكا الشمالية. ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل منه أن يظل تحت سيطرة الكفار ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾(النساء:141)، إذ لو رضي المؤمن بها فهذا يعني أنه فقد كل ما يملكه من إسلام وإيمان. وعند ذلك لا حقّ له في الحياة، إذ تصبح حياته كلها ذلاّ ومهانة وبؤساً وشقاء، وستكون آخرته كذلك خزياً وعاراً. ولهذا فإن أقدس شعور يمتلكه المؤمن ويستحوذ عليه هو حاكميته على الأرض كافة.

ولقد كنا ردحاً من الزمن حكام الأرض، فما تحقق بالأمس يمكن أن يتحقق غداً، وما علينا إلاّ بذل الجهد والسعي المتواصل وحصر الهمة به، وفي الأقل نثير همة أُولي العزم من الرجال لوضع أهداف من أجل تحقيق الحاكمية.

آ-الحاكمية عند سيدنا موسى عليه السلام ومن قبله

لقد أظهر سيدنا موسى عليه السلام هذا الهدف، لبني إسرائيل المؤمنين به وهو المسؤول عن تربيتهم وتنشأتهم، ولكن لم تكن تلك الفئة أهلاً لهذا الهدف، إذ كانت أعينهم لا تبصر وآذانهم في صمم عن الحقائق التي نبعت من تلك الروح السامية، وهو الرسول المشحون بتجليات ربه الجليل في طور سيناء. والقرآن الكريم يبين موقفهم هذا بالآية الكريمة:

﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾(المائدة:24).

إن هذا الكلام كان يخاطَب به نبيّ كريم من أولى العزم من الرسل. وبنو إسرائيل قد نشأوا وترعرعوا بمفهوم الأرض الموعودة.. وقد حان الآن الوقت وسنحت لهم الفرصة فلو بذلوا شيئاً من الجهد والتضحية لبلَغوا الهدف، ولكنهم أخلدوا إلى الأرض فآثروا الراحة والقعود. فلم تكن في نيتهم حتى التحرك من مواضعهم، ويتحاشون بذل أي جهد وجهاد. ولا شك أن لما يريدون نواله ثمناً، ولكن عزّ عليهم دفع الثمن. ولهذا التجأ سيدنا موسى عليه السلام إلى ربه الجليل عاجزاً عن القيام بشيء ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(المائدة:25). وكأنه يقول: لقد ضجرتُ من هؤلاء وسئمتُ منهم، فهم ذوو أرواح ميتة فاقدة لروح الجهاد، يفضّلون الدعة والراحة، خائرو العزيمة والغيرة. فأدعو ملتجئاً إليك يا ربي: فَافرُق بَيننا وبَين القَوم الفاسقين. فجعلهم الله يتيهون في صحراء التيه أربعين سنة ضائعين حائرين.

وهكذا تجري دعوة الرسل الذين يأتون من بعد موسى عليه السلام على نفس الشاكلة فنبي الله يوشع عليه السلام قد مضى على المنوال نفسه في الجهاد. وسيدنا داود عليه السلام كذلك.

نعم إن داود عليه السلام الذي كان جندياً في جيش طالوت قد تصدى لجالوت، وقتَله في ميدان الحرب. ولكن مع هذه النتائج كلها نرى أن الكثيرين من جنود طالوت يتخلفون في الطريق، ﴿قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾(البقرة:249)، وما بقيَ غير قلة من المؤمنين الذين قالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة: 249) ينطلقون مندفعين نحو الموت مستحقرين الحياة الدنيا، فصدّقهم الله في دعواهم ولم يكذبهم وألحق الهزيمة بجيش جالوت، فطردوا العمالقة من مواضعهم، وتحققت أمنية بني إسرائيل، وهي الدخول إلى البيت المقدس.

بـ-مفهوم الحاكمية على الأرض لدى الأمة المحمدية وجغرافيتها

لنُلق نظرة على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، نراه قد أشعل في روح الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين نور تلك الغاية المُثلى -الحاكمية على الأرض- والتي أوردنا أمثلة منها. وتسبق تلك الغاية، إقامة الحياة الشخصية على الحياة الدينية دوماً، وقد حقق الله لهم هذا العزّ والظهور بفتحه أبواب العالم أمامهم. وفي الحقيقة إن هذه الغاية والهدف هو معنى رسالة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فلقد بعثه الله بالقرآن الكريم ليُظهره على الدين كله. كما تبيّنه الآية الكريمة:

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾(الفتح:28). فلقد وعده الله سبحانه بفتح مكة –ولا يُخلف الله وعده- وفُتحت مكة. ويفهم من الآية الكريمة أيضا أن الله سبحانه سيفتح له العالم كله، متى ما حان وقته. لأن ذلك ضمن وعد الله له أيضا، إذ يسود الإسلام على القلوب وتكون كلمة الله هي العليا في الأرض. ذلك النظام الذي يسبغ على الإنسانية جمعاء السكينة والأمان والاستقرار.

نعم إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله بهذا الدين الذي تتنور الأرض بنوره وتُعمّر الخرائب بهدايته.

فاالشاعر يحيى كمال يعبر عن هذا الشعور بالأبيات الآتية:

الأجَل لم يمهل السلطان العظيم
لكان فتح العالم للمجد والشأن المحمديّ
تغرق الأرض في أنوار ألوف المنائر
كلما فتح جناحاه بالروْح والريْحان المحمديّ

فمن يوقِد نار هذا التوق والاضطرام والوجد والشوق في وجدانه، يجعل الجهاد أسمى غاياته في الحياة وأعظمها بل يجعل الموت في هذه السبيل نعمة عظمى. ولا جرم إن لم يكن الفناء فلا بقاء. فالطريق الموصل إلى البقاء يمر من الفناء، والنهار يعقب الليل والربيع يعقب الشتاء، ومن ليس لهم ليل ولا شتاء في حياتهم إذن لا ربيع لهم ولا نهار.

نحن في انتظار أن ينشق النهار في أمتنا.. نعم تقيمون الليالي الطوال وتقتحمون المصاعب والعسير من الأمور، وتعبرون أنهار الدماء وتدعون وراءكم أمثال أحد من الجبال ثم تنعمون بفتح مكة والنصر في واقعة "جَالْدِرَان". ثم سيموت كل ذلك بعد شتاء قارس، بعد ليل بهيم، بعد اختلاج آلاف الأوجاع واجتراع آلاف الآلام. ولا جرم أن لكل وِلادة مخاضا، فالذين يريدون أن يذوقوا لذة الولادة عليهم أن يرضوا بآلام المخاض.

إن الله سبحانه وتعالى قد وعد بظهور دينه، فالذين يحملون هذا الدين سيكونون أعزاء ظاهرين على الناس ما تمسكوا بدين الله، وسيظهر الله دينه حتماً، إن لم يكن في هذه الديار ففي ديار أخرى من العالم. لأن وعده قاطع لا ريب فيه. ولكنه متعلق بمدى ما تبذله الجماعة من الجهاد والعزم والثبات لتطهير الأرض من الفتن؛ يقول تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾(البقرة:193) أي جاهدوا وقاتلوا حتى تُزال من فوق الأرض القلاقل والاضطرابات ويبلغ الإنسان إقليماً آمناً وسعادة دنيوية وأخروية معاً. بمعنى إن الجهاد لا يمكن تركه ما لم يعم الإسلام الأرض كلها، ولم تنعم البشرية بالأمن والأمان.

إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أوقد هذا الشعور النوراني في روح الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. ولنلق نظرة إلى جغرافية الأرض المنورة بنور هذا المشعل الوضيء.

إنه لم تمض على خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه خمس سنوات إلاّ وقد خضع معظم شمالي أفريقيا كله لحكم الإسلام. ومن الجهة الأخرى اجتاز جيش المسلمين بحر الخزر وفتحوا طبَرستان وعقب ذلك فتح ما وراء النهر. أي أن الإسلام بلغ سدّ الصين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على مسلمي ذلك العصر دولة تسع خمسين مرة مساحة تركيا. ذلك لأنهم لم يحرصوا على هذه الحياة وابتسموا في وجه الموت. وأنتم كذلك متى ما استهنتم بالحياة وضحّيتم براحتكم وجعلتم الدين حياة لحياتكم وقال كل واحد منكم الموت خير لي ما دام الإسلام لم يحكم الحياة كلها، عندها سيتفضل الله سبحانه وتعالى عليكم ويجعلكم حاكمين على الأرض. فالجماعة التي تكابد المشاق لأجل نصب الراية على قمم الأبراج وتعقد العزم على ذلك بنية خالصة لله، وتنشر على سطح الأرض حاكمية الإسلام ستندفع إلى السماء لنصب راية الإسلام هناك. فتكون بذلك قد أحرزت عناية الله ولطفه، فيرزقها سبحانه حاكمية العالم.

نعم إن حاكمية العالم لا تتحقق إلاّ بعد استكمال هذه النفوس الربانية بناءها وبذل أرواحها ثمناً لها.

الهوامش

[1] الترمذي، فضائل الجهاد 2؛ أبو داود، الجهاد 15.

[2] ابن ماجه، الجهاد 7.

[3] تفسير القرأن العظيم لابن كثير، 5/31.

[4] البخاري، الجهاد 38؛ الترمذي، فضائل الجهاد 6؛ النسائي، الجهاد 44.

[5] المغازي للواقدي، 3/991-992؛ حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/421، 422.

[6] مسلم، الإمارة 159؛ البخاري، المغازي 81.

[7] البخاري، الجهاد 45؛ المسند للإمام أحمد، 3/374.

[8] البخاري، الجهاد 48؛ الترمذي، فضائل الجهاد 10.

[9] أسد الغابة لابن الأثير، 1/412-413؛ الدر المنثور للسيوطي، 2/650-654.

[10] البخاري، تفسير سورة الأحزاب (33) 146؛ مسلم، الإمارة 148.

[11] البخاري، تفسير سورة الأحزاب (33) 146؛ مسلم، الإمارة 148.

[12] البخاري، تفسير سورة الأحزاب (33) 146؛ مسلم، الإمارة 148.

[13] البخاري، تفسير سورة الأحزاب (33) 146؛ مسلم، الإمارة 148.

[14] الترمذي، المناقب 54؛ ابن ماجة، الزهد 4.