من أسباب الهزيمة والانتصار

السؤال: انتشر الإسلام بسرعة، ولم تستطع أية قوة التغلب عليه مدة 1400 سنة، فما أسباب هذا؟ وما سبب الهزيمة الحالية؟

الجواب: هناك وجهات نظر متعددة حول الفرق بين معنى "الإسلام" ومعنى "الإيمان". ونحن لا نريد الدخول في مثل هذه التفاصيل، فإن عبرنا عن الإسلام والإيمان معاً قلنا إن المسلم هو الذي آمن بالله وبجميع أسس الإيمان والمستسلم لله تعالى، أي أن المسلم هو الشخص المرتبط بكل اخلاص بجميع أوامر الله تعالى فيما يتعلق بتنظيم حياته وحياة اسرته وبحياته الاجتماعية. لم يجد المسلمون في بعض العهود فرصة تطبيق الإسلام من الألف إلى الياء، ولكن إن كانت حماستهم للإسلام والشوق إلى عيشه موجوداً في قلوبهم، فنحن نأمل من الله ألاّ يؤاخذهم. لأن الابتعاد عن الإسلام قطع مسافة كبيرة بحيث لا يمكن الرجوع إليه دفعة واحدة ولابخطوة واحدة. فإن كانوا قد صمموا على الرجوع إلى الإسلام بعزم أكيد وبشوق عارم وبدأوا بوضع الخطط والافكار لمثل هذا الرجوع أنقذوا أنفسهم من المسؤولية: ذلك لأن هناك سبيلين للخلاص من المسؤولية يوم القيامة: أما عيش الإسلام كاملاً أو المجاهدة لإرجاع الإسلام إلى الحياة.

فإن لم يتم أحد هذين الأمرين فلا مهرب من المسؤولية يوم القيامة. كما ستكون حياتهم في الدنيا حياة ذليلة لأن البعد عن الإسلام سيؤدي إلى تسلط الكفر على شعب وساحات حياتهم جميعها سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو التجارية أو العسكرية. كما سيكونون مغلوبين في الساحة العلمية والتكنولوجية ثم يؤدون حساب تقصيرهم يوم القيامة.

قد لا تكون عدد السنوات (1300) سنة، ولكن كان دور صعود المسلمين لا يقل عن ألف سنة حيث وصلوا إلى ذرى عالية ولاسيما في عهد الخلفاء الراشدين الذي كانت فيه سرعة الصعود مذهلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخبر عن هذا العهد فقال: «يأتي على الناس زمان يغزون فيقال لهم فيكم من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح عليهم. ثم يغزون فيقال لهم هل فيكم من صحب من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم، فيفتح لهم».[1]

وفي حديث آخر يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه القرون الثلاثة السعيدة فيقول: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».[2] وعندما نلقي نظرة على تاريخنا يتبين مدى صدق هذا الحديث النبوي.

استمر عهد الخلفاء الراشدين ثلاثين سنة فقط، ومع هذا فإن المسلمين في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا قد انتشروا في أرجاء الارض. فمن جهة وصلوا إلى "أرضروم" ومن جهة أخرى وصلوا إلى بحيرة "آرال". كل هذا بسبب روح الجهاد الذي كانوا يحملونه كانت افريقيا قد فتحت من أقصاها إلى اقصاها، حتى أن عقبة بن نافع وهو أول قائد إسلامي ذهب إلى هناك واستطاع أن يتم فتح افريقيا في حياته، وعندما توفي كان عمره خمسين عاماً، أي استطاع في سنوات قليلة اكمال فتح افريقيا حتى وصل إلى المحيط الاطلسي الذي كان العرب يطلقون عليه اسم بحر الظلمات ثم خاض البحر قائلاً: "يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك".[3]

كما استطاع جلب البربر إلى صفه في جهاده هذا. لم يكونوا يملكون آنذاك عابرات القارات ولا السفن من حاملات الطائرات، ولا سفناً تستطيع مقاومة العواصف في البحار. بل كانوا يصلون إلى هذه البلدان على ظهور الجمال، وإذا احتاج الأمر للوصول إلى بلد وراء البحار، قطعوا هذه البحار على ظهر سفن صغيرة وبدائية. ومع كل هذا استطاعوا فتح بلدان عديدة في الشرق والغرب وفي زمن قصير. وإذا اردنا عرض الموضوع من الناحية الحسابية قلنا إن ما فتحه المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين يعادل وقد يزيد على ماتم فتحه في عهود الامويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين مع أن فتوحات عهد الراشدين كانت تستهدف في المقام الأول فتح القلوب ونشر الإسلام.

إن من أسرار القدر أن البلدان التي يوجد فيها المسلمون حالياً فتحت كلها في عهد الصحابة. فمع أن الاندلس بقيت تحت ظل الإسلام ثمانية قرون تقريباً لا تجد فيها الآن ما يشبع فؤادك. أما بلدان تركستان وداغستان ومانغوجيستان واوزبكستان فلا تزال المساجد والمآذن والمدارس الدينية موجودة فيها ذلك لأن هذه البلدان فتحت من قبل الصحابة، واعطت هذه البلدان رجالاً عظماء للعلم وللإسلام كالبخاري ومسلم والترمذي وابن سينا والفارابي. لقد عاش الإسلام في هذه البلدان بحق.

ونحن نتمنى أن تعود هذه البلدان "التي اسست قواعدها على الاخلاص وبذرت بذورها بصدق وامتزجت دماء الصحابة بملاطها" إن شاء الله إلى الإسلام وإلى يده البيضاء مرة أخرى.[4] أجل! فنحن كافة ننتظر مثل هذا اليوم ونشعر ونحس بوجودنا في هذه البلدان، ونحن نؤمن بأنه سيأتي اليوم الذي يعود فيه الإسلام الذي غاب عن هذه البلدان إليها... يعود كموجات متلاحقة الواحدة منها إثر الأخرى. وهذا موضوع آخر وموضوع حيوي لا نتناوله حالياً، بل نرجع إلى الصدد.

إذا كان الصحابة قد نجحوا في فتح العالم في مدة قصيرة فلا بد أن لهذا الأمر أسبابه وتقييمه. لقد كان أيُّ واحدٍ من الصحابة محبًّا للدعوة الإسلامية إلى درجة العشق والوجد. ومن نظر إليهم من الخارج ولم يعرف حقيقة الأمر ظنهم من المتهورين إلى درجة الجنون، لأن ما فعلوه كان يذهل العقل فعلاً.

نام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة من مكة إلى المدينة. وهذا يعني أنه رضي منذ البداية بأن يقطع بضربات السيوف ارباً ارباً ولكن ايدي المشركين بقيت معلقة في الهواء عندما علموا بأن الراقد في الفراش ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو ابن عمه علي كرم الله وجهه. أما سبب تجمد ايديهم في الهواء فهو من الدهشة. لأن عقولهم لم تستوعب هذا الأمر.

فكيف يقوم شاب في السابعة عشرة من عمره بمثل هذه التضحية التي قد تُودِي بحياته بأبشع صورة؟ لقد ذهل المشركون -ومن بينهم أبو جهل- من هذا المنظر. ثم توجه أبو جهل إلى بيت عبد الله بن جحش وصعد إلى سطح البيت وهناك سمع ثغاء الغنم من داخل البيت فلم يخف عجبه، لأنه لم يكن قد بقي في البيت أي إنسان إذ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اسرع الجميع بالهجرة.

وفي أحد الأيام مرة عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة وأبوابها تصطفق يَبابا ليس فيها ساكن. فلما رآها كلك تنفس الصعداء ثم قال:

وكل دار وإن طالت سلامتها  يوما ستدركها النَكْباء والحُوب

ثم قال عتبة: "أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها!"[5] كانوا يتركون كل شيء ويهجرون بيوتهم وعيالهم وأموالهم وأغنامهم... كل شيء... إذن فكيف يمكن للمشركين أن يفهموا هذا الأمر؟

أجل! فعندما هاجر أبو بكر رضي الله عنه من مكة إلى المدينة لم يأخذ أحداً من أهل بيته... لم يأخذ معه زوجته ولا والده ولا أحداً من أولاده، بل تركهم جميعاً في مكة وهاجر وحده. أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم يأخذ معه حتى زوجته رقية رضي الله عنها وهي بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ونور عينه، ولو قيل لأي منا إن رقية بحاجة إلى من يضحي في سبيلها بنفسه، لاسرع الجميع إلى التضحية بنفسه في سبيلها. ولكنها بقيت في مكة وهاجر عثمان رضي الله عنه وحده إلى المدينة.

كان ذلك العهد عهداً للذين ارتبطوا بصدق واخلاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. لقد كان اتباعهم وحبهم له مذهلاً حتى أن عروة بن مسعود بعدما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا اخذوه، رجع إلى مكة فقال: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكا قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. واللهِ إنْ تنخَّم نُخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفَضوا أصواتهم عنده وما يُحدّون إليه النظر تعظيما له".[6]

أجل كان هذا هو درجة إكبار الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن يقوم له: «لا تقوموا كما تقوم الاعاجم يعظّم بعضهم بعضا».[7] ولكنهم كانوا يقومون له مع هذا، إذ كلما تواضع لهم عظم في أعينهم وزاد حبهم له. يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جفل عندما رأى جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وكان هذا في بداية الوحي. يقول أحد عشاق الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أن جبريل عليه السلام راى الحقيقة المحمدية من وراء الأستار إذن لغاب عن وعيه". كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكبر ويكبر كلما ازدادت صلته بالله تعالى ولكنه كان كلما كبر زاد تواضعه وتعمق، إذ كان يعد نفسه إنساناً من الناس ولا يقبل أي معاملة تتجاوز هذا المفهوم ويتضايق منها.

كان هذا هو العهد الذي توحدت فيه قلوب الصحابة وارواحهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «المَحْيا مَحْياكم والممات مماتكم».[8] لم يقل هذا الكلام لجبر خواطرهم. بل للتعبير فعلاً عن هذه الوحدة القلبية والروحية. وعندما جاء اليوم الذي قيل لهم أن يهاجروا في أرض الله الواسعة لنشر الإسلام لم يعترضوا ولم يقولوا: لماذا؟... بل هاجروا وانتشروا في أرجاء الأرض من أجل الإسلام ولم يفكروا في العودة إلى وطنهم القديم، بل فضلوا الموت في أوطانهم الجديدة لكي لا يقع أي ظل من الشك على هجرتهم هذه.

عندما حمّ سعد بن أبي وقاص في مكة حزن كثيراً فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب حزنه فقال: "يا رسـول الله أُخلَّف بعد أصحابي؟" وفي رواية أخرى "أتخلَّف عن هجرتي؟"[9] يقول أخشى أن أموت هنا في مكة وليس في المدينة التي هاجرت إليها والتي أصبحت مدينة مباركة بوجودك هناك فيصيب هجرتي بعض الخلل أو النقص. وسبب تعلق الصحابة الكرام بالمدينة المنورة يعود إلى حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم الذي قرر البقاء هناك. وكانوا محقين في هذا الحب وهذا التعلق. ولكن ما أن صدر إليهم الأمر بالهجرة إلى أرجاء الدنيا لنشر الإسلام لم يبد أحد منهم أي بادرة تردد أو رفض أو إمتعاض. لأنهم كانوا عشاق الحقيقة المتجلية في الإسلام. فعلى مثال مجنون ليلى الذي كان يحوم على الدوام حول ليلى، كان هؤلاء الصحابة متعلقين بوجد وعشق بموضوع نشر الإسلام في أرجاء المعمورة للحصول على مرضاة الله تعالى ومرضاة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

أجل! ما أن صدر إليهم الأمر حتى توزعوا في أرجاء الدنيا فمنهم من ذهب إلى تبوك ومنهم من هاجر إلى اليمن ومنهم من توجه إلى حضر موت بحماس منقطع النظير.

وعندما جاء اليوم الذي حاولت فيه الدول والامبراطوريات عرقلة مسيرة الإسلام وتوسعه والوقوف أمام المجاهدين، اضطر المسلمون إلى جرد سيوفهم، إذ كانت تقع على عاتقهم مهمة مقدسة وهي مهمة نشر النور في الارض. وعندما استعمل اعداؤهم القوة المادية لصدهم اضطروا إلى اتباع القوة ضدهم.

لقد آن الأوان للجهاد والقتال، ولم يتوانوا عن هذا بل اسرعوا إلى ساحة الحرب... فقاتلوا وقتلوا، ولكن لم يترك أحد منهم الميدان. وابلوا في كل حرب خاضوها بلاء حسناً حتى وصلوا إلى الصين... كانوا كافراد وكمجتمع مثال البطولة التي لا تستوعبها سوى الاساطير.

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يكلف أي فرد شيئاً فوق طاقته. ومع ذلك كان كل صحابي يأخذ على عاتقه وظائف تكاد تكون فوق طاقته ويتسابقون في هذا الأمر. كان علي رضي الله عنه يشكو من رمد في عينيه عندما عزم الرسول صلى الله عليه وسلم التوجه إلى خيبر، لذا فقد أراد أن يبقي علياً في المدينة، فلم يرض علي رضي الله عنه وقال وهو يبكي: "يارسول الله، أتخلّفني في الصبيان والنساء؟ يا رسول، الله ما كنت أحب أن تخرج وجها إلا وأنا معك".[10] وهكذا اشترك في وقعة خيبر وفتح الله خيبر على يديه.

في إحدى المرات التي خرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة ولّى أمر المدينة ابن أم مكتوم الذي كان من اقرباء امنا خديجة الكبرى رضي الله عنها. إذن فمثل هذا الشخص هو الذي يعفى عن ساحات الجهاد لأنه أعمى ومعذور. وكان من الممكن ألا يشترك في الجهاد طوال حياته. ولكنه خرج إلى الجهاد في أرض الله الواسعة مع الذين خرجوا في سبيل الله، وذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثنه أحد عن الخروج بحجة أنه ضرير، إذ اشترك في الجيش المتوجه إلى القادسية على الرغم من تقدمه في العمر. تقول الروايات التاريخية أنهم حاولوا ابقاءه في الصفوف الخلفية في يوم القتال ولكنه استطاع الوصول إلى القائد سعد بن أبي وقاص وطلب منه بإصرار السماح له بحمل اللواء، وقتل شهيدا في تلك المعركة حسب إحدى الروايات رضي الله عنه.[11]

هذا مثال على الذين هبوا للتضحية بارواحهم في سبيل الله بكل شوق ووجد. لقد كان غياب رسول لله صلى الله عليه وسلم فرصة كبيرة لابن أم مكتوم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حياً لمنعه من الجهاد بسبب عذره، ولم يكن هناك الآن من يمنعه من الجهاد، لذا كان فرحاً لاشتراكه في الصفوف الأولى.

كان أبو طلحة قد شاخ كثيراً وأصابه الضعف، وذات يوم عندما كان يقرأ سورة براءة أتى على هذه الآية ﴿انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ استدعى أهله وأبناءه وقال لهم "أرى ربي يستنفرني شابا وشيخا، جهزوني". فقال له بنوه "قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبض، ومع أبي بكر ومع عمر، فنحن نغزو عنك". ولكن أبا طلحة أصر على طلبه قائلا "جهزوني". لم ينفع معه كلام ولا إصرار. لذا قاموا بإركابه على حصان وربطه به جيداً، ولكن جسده الضعيف لم يتحمل عناء السفر الطويل فأسلم روحه رضي الله عنه في وسط البحر.[12] ولعله شكر ربه قبيل وفاته على هذه الفرصة التي أنعمها عليه.

واشترك خالد بن زيد (أبو أيوب الأنصاري) رضي الله عنه في عهد يزيد بن معاوية في الحملة التي توجهت لفتح القسطنطينية مع أنه كان شيخاً كبيراً. فقطع هذه المسافة الطويلة حتى وصل إلى أبواب القسطنطينية. عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أبو ايوب الأنصاري متزوجاً وصاحب أولاد. وكان قد مرّ ما يقارب خمسين سنة عند خروجه مع الجيش الإسلامي لفتح القسطنطينية في عهد معاوية تحت قيادة يزيد بن معاوية. فإذا أخذنا هذا بنظر الاعتبار علمنا أنه كان يقارب الثمانين من عمره عند خروجه للجهاد في هذا الجيش، وقطع كل هذه المسافة الشاسعة من المدينة المنورة إلى اسطنبول على صهوة الجواد. هنا أحب أن أتساءل: ما الهدف الذي كان يسعى وراءه هؤلاء الصحابة وأمثالهم؟ لقد وردت في مدحهم الكثير من الآيات والأحاديث.

وقد تحدث عنهم القرآن كمهاجرين وأنصار وورد مثلهم في التوراة والانجيل. ولكنهم كانوا قد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لتفتحن القسطنطنية، فلنِعم الامير اميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش».[13] إذن فقد كانت غايتهم أن يكونوا جنوداً في مثل هذا الجيش المبارك ويحصلوا على رضا الرسول صلى الله عليه وسلم. وإلاّ فما الداعي لكل هذه الرغبة العارمة ولكل هذه المعاناة؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المرتبة العليا للجيش الفاتح للقسطنطينية وكان هؤلاء الصحابة يريدون الفوز بها ويتسابقون من أجلها.

كانت هذه هي غاية أبي ايوب الأنصاري رضي الله عنه وهدفه، لذا قام وقدم من المدينة المنورة وقطع كل هذه المسافة الطويلة في سفر مرهق ومتعب. ومرت الاسابيع والاشهر ولم يتيسر الفتح. وداهم المرض والتعب هذا الصحابي الشيخ فكان دائم السؤال هل تم الفتح؟ وعندما حضرته الوفاة سأله قائد الجيش يزيد بن معاوية عن حاجته الأخيرة قال: "حاجتي إذا أنا مت فاركب بي ثم سغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغا، فإذا لم تجد مساغا فادفني ثم ارجع"، فلما مات ركب به ثم سار في أرض العدو حتى لم يجد مساغا فدفنه بأصل حصن القسطنطينية ورجع.[14]

ومرت ما يقارب ستة عصور فاعطى الله تعالى شرف تحقيق هذه البشارة إلى البطل محمد الفاتح الذي كان بعمر 22 سنة آنذاك. أي كان من نصيبه نيل بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضاه والقيام بعمل كبير أنهى عهداً وفتح عهداً جديداً في تاريخ البشرية، وبتمثيل الروح الإسلامي على أبواب أوروبا. ومن تجليات القدر الإلهي أن اسمه أيضاً كان من اسم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان اسمه محمداً ولقب بالفاتح بعد فتح إاسطنبول. لقد طاب روح أبي أيوب الأنصاري وهو يسمع هتاف محمد الفاتح وهو يحمد الله على الفتح ويدخل المدينة على صهوة جواده... لقد كان هو الفاتح... وكان جيشه هو ذلك الجيش.

وهكذا فالذين نذروا أنفسهم سواء لمثل هذا الجهاد والقتال أو للجهاد في ساحة الإرشاد والدعوة والتبليغ عندما يفتحون البلدان تبقى هذه البلدان بأيديهم عصوراً وعصوراً. ولكن عندما يصيب الوهن أي الخوف من الموت قلوب المسلمين -كما اخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة- يبدأون بفقد هذه البلدان بلداً بلداً.

لقد كنا نملك قبل عصرين أو ثلاثة ثقلاً كبيراً ومكانةً بارزةً في التاريخ الإنساني وفي الميزان الدولي. ولكننا فقدنا اليوم هذه المكانة وهذا الثقل. وليس هناك إلا إيضاح واحد لاغير لهذا الأمر، وهو أننا كنا نحمل روحاً إسلامياً في عهد التفوق وننقاد إلى الله تعالى ونستسلم لأوامره بشكل جدي. أما في عهد التراجع والتخلف فقد احاط الوهن بقلوبنا، أي داخلنا الخوف من الموت والضعف وحب الحياة والتعلق بها والخشية من المستقبل.

لقد حكم المسلمون أرجاء العالم -التي انتشروا فيها بسرعة مذهلة- مدة الف عام تقريباً وأداروها إدارة جيدة. فهل يمكن عزو أسباب هذا النجاح الكبير إلى أي عامل غير عامل واحد وهو أن المسلمين كانوا قد نذروا كل ما يملكونه -سواء أكان مادياً أم معنوياً- في سبيل الله تعالى؟

ونحن نرى الروح نفسه عند جميع المجاهدين والابطال في العالم الإسلامي، إذ لم يتشبثوا ولم يتعلقوا بحب الحياة، بل بحب هبة الحياة للآخرين. لقد كان هدفهم شيئاً واحداً وهو اعلاء كلمة الله في الارض.

نرى هذا عند "آلب ارسلان" وعند "كلج ارسلان" وعند السلطان مراد الأول وعند "محمد الفاتح" و "ياووز سليم"... وفي غيرهم وغيرهم. في معركة "مالازغيرت" الشهيرة لبس "آلب ارسلان" جبة بيضاء ثم وقف أمام جيشه وخطب فيهم خطبة نارية قال فيها إنه يدعو من الله أن تكون جبته البيضاء هذه كفناً له. أي كان يبتغي الشهادة اكثر من ابتغائه النصر، لذا فقد لبس كفنه والتحم دون تردد مع جيش يبلغ اضعاف جيشه، وفي آخر النهار كان قد انتصر ولكن كانت هناك غصة في حلقه، إذ لم تقدر له الشهادة في تلك المعركة.

أما السلطان "مراد الأول" فقد دعا من الله قبيل المعركة أن ينصر جيش المسلمين وأن يرزقه الشهادة. وقد قبل دعاؤه فانتصر جيشه ورزق هو الشهادة.[15] وعندما تلقى ضربة الخنجر على صدره وتهاوى إلى الأرض سألوه عن آخر رغبة له فقال جملته الاخيرة بعد النطق بالشهادتين: "لاتنـزلوا عن صهوات الجياد".

كان للدولة التي انشأها امثال هؤلاء ثقل دولي في جميع العهود، فالانظار كانت مصوبة إليها على الدوام. أجل إن مثل هذه التضحيات التي أبداها هؤلاء الابطال، ووضع رضا الله في المرتبة الأولى هو الذي أمن عيشنا بعزة وحفظ حدودنا.

وعندما فقدنا هذا الروح أحاط الاعداء بنا من الجهات الأربع وبدأوا بالتهامنا تدريجياً. أجل! لقد متنا أولاً في مستوى الروح ثم في مستوى الكرامة ثم في المستوى المادي. والآن بدانا ننتظر المعونة من الدول الكبرى، وأصبحنا نعد تأخير سداد ديوننا لهذه الدول انجازاً كبيراً.

فإن أرادت هذه الأمة الرجوع إلى سابق مجدها فعليها أن تطبق جميع العوامل التي رفعتها إلى الأعالي في السابق دون إهمال أي منها، لأنه ﴿وَأَنْ لَيسَ لِلإنْسَانِ إلاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعيَهُ سَوْفَ يَرَى﴾ (النجم:39-40).

الهوامش

[1] البخاري، المناقب 25، الجهاد والسير 76؛ مسلم، فضائل الصحابة 208-209.

[2] البخاري، الشهادات 9، فضائل أصحاب النبي 1، الرقاق 7؛ مسلم، فضائل الصحابة 210-211.

[3] الكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/106.

[4] كتب المؤلف هذا قبل تحرر هذه البلدان من الاستعمار الروسي. (المترجم)

[5] السيرة النبوية لابن هشام، 2/114- 115.

[6] البخاري، الشروط 15؛ السيرة النبوية لابن هشام، 3/328؛ البداية والنهاية لابن كثير، 4/175.

[7] أبو داود، الأدب 151؛ المسند للإمام أحمد، 5/253.

[8] مسلم، الجهاد 86؛ المسند للإمام أحمد، 2/538.

[9] البخاري، مناقب الانصار 49؛ مسلم، الوصية 1.

[10] البخاري، المغازي 78؛ مسلم، فضائل الصحابة 32؛ المسند للإمام أحمد، 1/173، 184، 185.

[11] أسد الغابة لابن الأثير، 4/264.

[12] أسد الغابة لابن الأثير، 6/181-182.

[13] المستدرك للحاكم، 4/422؛ المسند للإمام أحمد، 4/335.

[14] الإصابة لابن حجر، 2/274؛ الطبقات لابن سعد، 3/484.

[15] انتصر العثمانيون في هذه المعركة وهي معركة "قوصوه" الشهيرة تحت قيادة السلطان مراد الاول ضد الجيش الأوروبي المتألف من البلغاريين والصرب والبولنديين. وبعد انتهاء المعركة تجول السلطان مراد في ساحة المعركة فقيل له ان أحد نبلاء الصرب يرغب في اشهار إسلامه امامه وانه ضمن الجرحى فذهب السلطان اليه. ولكن كان هذا خدعة من هذا النبيل الذي قام بطعن السلطان بخنجر كان يخفيه بين ملابسه، وهكذا استشهد السلطان مراد. (المترجم)

الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.