العبودية الـمُمنْهجَة

السؤال: بما أن الله لا يحتاج إلى عبادتنا فلماذا لا نقوم بعباداتنا كما يحلو لنا؟

الجواب: إن عبادة الله تعالى فعْل مترتب على معرفته سبحانه وتعالى، أي إن الإنسان يشاهد لوحات الجمال في هذا الكون ودلائل النظام فيه. وهكذا يتنقل هذا الإنسان من هذا النظام إلى واضع هذا النظام. ومَن يتأمل هذا الكون بدقّة وإمعان يرى أنه ما من شيء فيه وضع عبثاً أو دون نظام أو دون غاية، لذا يرى أن عليه أيضا أن يتحرك ضمن هذا النظام.

كذلك إن نظر إلى الوجود من زاوية الجمال يرى جمالاً مُذهلاً وخارقاً بحيث لا يستطيع تخيل جمال أعظم منه. فمن جمال وجه الإنسان إلى جمال الأرض إلى جمال السماء وجمال النجوم. وأمام مثل هذا الجمال الرائع الذي يأخذ بألباب الإنسان ويسحر قلبه، لا يمكن ألا يعرف ويرى وراءه صاحب كل هذا الوجود والجمال ومالكه.

وسواء أكان هذا تأملاً آفاقيا أم تأملا أنفسيا[1] فإنه يملأ نفس الإنسان وروحه بالنشوة والفرح والإثارة مثل طفل صغير يريد أن يثب ويقفز ويطلق صرخات الفرح كلما رأى أجمل الأسماء (الأسماء الحسنى) وهي تلمع مثل فراشات مضيئة فوق أجمل الأعمال والإجراءات والتقديرات، فلا يملك الإنسان نفسه من الإعجاب والتقدير والتبجيل لهذه الصفات التي هي منبع كل خير وجمال، ويكاد الإنسان أمام صاحب كل الوجود أن يغيب عن وعيه من الذهول والإجلال.

ويبدو كل شيء في الكون من زاوية أخرى وكأنه هيئ وحُضّر في مكان آخر ثم عُرض لخدمة الإنسان. فهناك نعم مقدمة له في علب محفوظة أو على شكل ثمار وفواكه حتى بدت الأرض وكأنها مائدة عامرة بكل الأصناف. وعندما يمد الإنسان يده لهذه النعم يحس بالصاحب الحقيقي لها، ويجد من هذا الإحساس إعجاباً واندهاشاً ولذة أخرى. فلو عقل الطفل وهو يمص ثدي أمه -منبع الرحمة له- لأحس أن مثل هذا الغذاء المفيد جدّاً له كأنه مقدم لنجدته من عالم آخر، ولأحس أن هناك وراء مظاهر الأحداث جميعها مُنعماً ورزّاقاً كريماً، ولكان عليه آنذاك أن ينحني تعظيماً وتبجيلاً له.

أجل! كل نعمة وكل إحسان يدل من جهة على صاحب هذه النعمة وهذا الإحسان، ويسوق إلى إجلاله وتوقيره من جهة أخرى. فأينما شاهدنا نعمة أو جمالاً أو نظاماً يجب أن تكون هناك عبودية تجاه صاحب هذه النعم والجمال والنظام. أي متى ما جعلنا الله تعالى نحس بوجوده، علينا أن نقابله بالعبودية فوراً. وانطلاقاً من هذه النقطة يقول المعتزلة وكذلك الماتريدية على نحو من الأنحاء بأنه لو لم يُرسل أي نبي، ولو لم يقم أي مرشد بإرشاد الإنسانية إلى الله لكانت الآيات والأدلة التي يزخر بها الكون كافية لتوجيه الإنسان إلى الله، ولكان الإنسان مكلفاً آنذاك بمعرفة الله والسلوك حسبما تقتضيه هذه المعرفة. ويمكن إيراد أمثلة عديدة على وجهة نظر الماتريديين. فمثلاً نرى أن بعض المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنهم نشأوا بجوار الكعبة المملوءة آنذاك بالأصنام والأوثان وعلى الرغم من عدم قيام أحد بتلقينهم حقائق التوحيد، فإنهم كانوا يحسون إحساس ذلك البدوي كما جاء في الرواية:

«قيل لأعرابي: بم عرفتَ ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير... فسَماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل على العليم القدير؟!»[2]

هذا ما كان يقوله ذلك البدوي الذي لم يكن يرى في الصحراء سوى الرمال الممتدة أمامه، فكيف بغيره إذن؟!. جاء رسولنا بمفهوم سامٍّ لإنقاذ البشرية. ولو جاز التعبير لقلنا إنه كان إنسانا فوق الإنسان. فقد وصل إلى إدراك المعنَى الحقيقي للكون قبل نبوته وحدس وجود الله تعالى وبدأ بالبحث والتأمّل في غار "حراء" والتحنث (أي التعبد) فيه.

ففي رواية وردت في صحيح البخاري عن أمّنا خديجة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار "حراء" وأنه لم يكن ينـزل إلى مكة إلا للتزود بالزاد.[3] وهذا يدل على أن الإنسان يستطيع بإدراكه اكتشاف بعض الأشياء ثم -على نحو من الأنحاء- مظاهر العبودية لله تعالى.

كما أن ما قاله زيد بن عمرو بن نفيل وهو على فراش الموت يستحق التأمل. كان زيد عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبيل وفاته استدعى جميع أفراد عائلته وجمَعهم حوله وأخبرهم بما يعلمه عن صفات النبي المرتَقب الظهور. ولم يقدَّر له أن يرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، أي أنه قاد فرسه حتى الشاطئ، ولكنه لم يتيسر له ركوب سفينة الإسلام، غير أنه أحسّ بكل روحه بجوّ رسولنا صلى الله عليه وسلم وحدس الحقيقة الأحمدية بكل جوارحه، ولكنه لم يستطع أن يطلق اسماً على ما أحسه. «عن عامر بن ربيعة قال سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيّا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه وأنا أُومن به وأصدقه وأشهد أنه نبيّ... فإن طالتْ بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام (...) قال عامر بن ربيعة فلما أسلمتُ أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو وإقرائه منه السلام، فردّ عليه السَّلامَ وترحم عليه».[4] وكان يقول: «اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته».[5] وهكذا يظهر أن هذا الضمير النقي لو لم يكن في مجتمع وثني لاستطاع بتأمل هذا الكون والنظام الموجود فيه الوصول إلى أداء وظائف العبودية لله تعالى.

إذن فبجانب معرفة الله تعالى تبدأ العبودية فوراً بعد هذه المعرفة. أجل! فما دام يوجد هناك من ينعم علينا بكل هذه النعم إذن فالعبودية موجودة أيضا. لذا فقد وضع الله تعالى في فطرة الإنسان وفي قلب الإنسان شعوراً بالعبودية وإحساساً بها. أي كما قال زيد: «اللهم إني لو أعلم أحبّ الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم!».[6] والوحي السماوي هو الذي يستطيع تعيين وبيان الشكل الصحيح للعبودية ويحول بذلك دون انحرافها بل بقائها ضمن إطار الأوامر الإلهية. أي إن الله تعالى يقول إنني أنا الله وأنت عبدي، عرفتني من النعم التي أنعمتها عليك، وأنا سأعلّمك آداب العبودية التي تستطيع بها الحضور تجاهي. تتوضأ أولاً ثم لكي تناضل نفسك تذكر أن الله عز وجل هو الأكبر وأن كل شيء آخر صغير وضعيف، ثم تعقد يديك أمامك علامة الخضوع ثم تحاول أن تتعمق قدر استطاعتك في الفهم فتظهر عندك الرغبة في سمو روحك إلى المكان الذي عرج إليه سيد الأنبياء، ثم تركع شاكراً، وكلما انحنيت في الركوع وَصَلْتَ إلى أبعاد أخرى، ثم تنتقل إلى السجود لتَصِل إلى أعماق من التواضع، وتقوم وتأخذ نفَساً لكي تعيد السجود مرة ثانية حيث تكثر من الدعاء فيه لأن «أَقربُ ما يكون العبْدَ مِن ربِّه وهو ساجدٌ».[7] وتتذكر فيه الآية الكريمة: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ (الشعراء:219) أي يرى تواجدك بين الساجدين. وبقدر انسجامك وامتزاجك في جو السجود وقابليتك يكون مستوى ارتفاعك في درجة المعراج الذي هو الغاية من الصلاة.

إذن فالعبادة هي الإيمان بالله وحصول المعرفة بخصوص الذات الإلهية ثم القيام بالعبودية إزاء هذه المعرفة في جو المحبة والإجلال وتحت ظل من إرشاد الله تعالى وحسب أوامره.

أكون بهذا قد شرحت وجهاً من أوجه هذه المسألة. أي إننا أمام معرفة ربنا يجب ألا نتصرف بطيش وألا نعمل أعمالاً غير مناسبة، بل نتبع الأنوار التي شعها النبي صلى الله عليه وسلم في ظل إرشاد الآيات البينات ونبحث دائماً عن الرضا الإلهي.

وإذا أتينا إلى المسألة الثانية فإننا نقول بأن الإنسان يحتاج دائماً في جميع الساحات -سواء أكانت ساحة تجارية أو علمية أو فنّية أو زراعية أو صناعية- إلى مرشد وإلى تعلم كثير من الأمور منه. ولنفرض مثلاً أن لكل واحد منكم عملاً، فأحدكم يملك مصنعاً للنسيج والآخر يعمل في تصنيع البلاستيك، والآخر له معرض للتحف... ولنفرض أن هناك شخصا يريد مصلحتنا ويريد ألا نتعرض للخداع، ولكونه يعرف الأصول والأساليب التجارية فهو يريد منا أن ننجز أعمالنا بشكل جيد، لذا يجمعنا ويقف أمامنا ليقول لنا: "أنتم تستطيعون تنفيذ هذا العمل، لأن هذا العمل ضرورة من جهة وحاجة من جهة أخرى. ولكن لكي تنفذوا هذا العمل بشكل جيد، عليكم أن تستعملوا العنصر البشَري وعنصر الرّأْسمال استعمالاً جيداً وتتخذوا تدابير الاقتصاد وعدم الإسراف وكذلك الإهتمام بكذا وكذا من الأمور..."

والآن إن كانت لدينا ذرة من الإنصاف فإننا سنهتمّ بما يقوله هذا الشخص الذي لا يرمي من وراء إرشاده أي منفعة له، ونستمع إلى نصائحه وندقق تقاريره بكل اهتمام، وننظم أمورنا حسب إرشاداته. ومثيل هذا فإننا لا نتصرف في عباداتنا وطاعاتنا لله تعالى حسب أهوائنا ورغباتنا، بل حسب النظم والقوالب والأشكال -التي توجد في كل منها روح العروج والسمو- التي يرشدنا إليها خالقنا ومعبودنا. وهكذا تحصل البركة في عباداتنا، وتكون كمثل سنبلة أنبتتْ سبْع سنابل. فمن يدري لعلنا نلمس الزر الذي يفتح أمامنا أبواب الرحمة الإلهية عندما نقول "الله أكبر"، ولعل أرواحنا تنفتح أمامها أبواب الإلهام آنذاك. ومن يدري فلعلّنا عندما نقرأ سورة الفاتحة نستعمل مفتاحاً سرّيّاً لفتح قفْل ذي شفرات سرّية. ومن يدري أي أبواب سرية تنفتح أمامنا في كل ركن من أركان الصلاة التي نؤدّيها.

أجل! نستطيع القول إن الطرق جميعها ستنتظم وتستقيم وتنفتح جميع الأبواب حينما نسجد، وإن أَدْعِيتَنا سترتفع إلى مقام الألوهية وسنحاط آنذاك بالملائكة الكرام.. ومن يستطيع أن ينكر حدوث كل هذا؟ إن المخبِر الصادق صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببيانه البليغ النوراني حدوث كل هذا. إذن فإن أفضل شكل للعبادة هو الشكل الذي عرّفه لنا ربّنا. ذلك لأن الله تعالى الذي خلق ماكينة الإنسان أَدرَى كيف يمكن أن تشتغل هذه الماكنة، وهو أدرى كيف يمكن استحصال أفضل ثمرة منها سواء في سبيل الحياة الدنيا أو في الآخرة. إذن فمن خلق وصنع هذه الماكنة وهذا المعمل عمل "كَتَلُوكاً" لها ووضعه في موضع منها. إذن يجب أن يؤخذ هذا الكَتَلُوك بنظر الاعتبار إن كان المطلوب إدارة هذه الماكنة إدارة عقلية وصحيحة. إذن فإن العبادة لا تؤدَّى كيفما اتفق، بل ضمن إطار إرشادات وتعليمات رسولنا صلى الله عليه وسلم. وعندئذ تتم العبادة في أفضل صورها. وهذه نعمة من النعم التي أنعمها الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. لذا نقول إن هذا من فضل ربنا. ونحن ندعو الله تعالى بدعاء رسولنا الكريم سائلين ألا يكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين.[8]

الهوامش

[1] إشارة إلى الآية الكريمة ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاَقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت:53).

[2] نفح الطيب لأحمد بن محمد المقري التلمساني، 5/289؛ روح المعاني للآلوسي، 26/62؛ زاد المسير لابن القيم الجوزي، 1/362.

[3] البخاري، بدء الوحي 1؛ مسلم، الإيمان 252؛ الترمذي، المناقب 13.

[4] البداية والنهاية لابن كثير، 2/240.

[5] البداية والنهاية لابن كثير، 2/237.

[6] البداية والنهاية لابن كثير، 2/237.

[7] مسلم، الصلاة 42؛ أبو داود، الصلاة 152.

[8] «اللهم رَحمَتَك أَرجُو فلاَ تَكِلْني إلى نفْسي طَرفَةَ عَينٍ». (أبو داؤد، الأدب 110؛ المسند للإمام أحمد، 5/42؛ المستدرك للحاكم النيسابوري 1/730.

المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 4 فبراير 1977؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.