المشيئة والإرادة

السؤال: ورد في القرآن الكريم أن ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾(الكهف:17). وهناك أيضاً ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف:29) أي أن الله قد منح الإنسان العقل والتفكر وله إرادته وهداه الله السبيلين أيما شاء سلك. كيف يمكننا أن نؤلّف بين كلا الأمرَين؟

الجواب: هناك شقان في هذا السؤال: جريان الأمور هل هو حسب الإرادة الإلهية الكلية، أم حسب الإرادة الإنسانية؟

ففي الآية الواردة ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ (الكهف:17) معنى الهداية هو الطريق الصحيح والرشد، وهو طريق الأنبياء. أما الضلالة فهو الطريق المنحرف، وفقدان الطريق الصحيح، والابتعاد عن الاستقامة.

إن أمْعنا النظر نرى أن كلا منهما عمل وفعل، ويعدان من الوجهة البشرية فعلاً عاملاً. لذ أوجب إرجاعهما إلى الله تعالى لأن كل فعل -كما قلنا سابقاً- يرجع إلى الله تعالى، وليس هناك أي عمل لا يرجع إليه. أجل، فالضلالة مرتبطة باسمه "المضل" والهداية مرتبطة باسمه "الهادي". فهو الذي يعطي كِليهما.

ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد للعبد أي دخل وأي كسب، إنما يدفع إلى الضلالة من قبل الله جبراً، أو يساق إلى الهداية سوقاً، فيكون ضالاّ ومنحرفاً في الحالة الأولى، ومهتدياً وراشداً في الحالة الثانية. نستطيع أن نفهم بإيجاز هذا الأمر كما يلي:

إن كان الوصول إلى الهداية أو السقوط في الضلالة عملاً بوزن عشرة أطنان مثلا، فلا يملك الإنسان منه عشر المعشار، بل العمل كله لله تعالى.

لأذكر مثالاً ملموساً: إن الله يهدي، وللهداية وسائلها مثل الذهاب إلى الجامع... الاستماع للنصائح... تنوير العقل وتثقيفه... كلها من وسائل الهداية. الاستماع إلى القرآن الكريم وتدقيق معانيه والتعمّق فيها من وسائل الهداية أيضاً. التتلمذ في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستماع إلى أقواله بقلب حاضر، والاسترشاد بمرشد وأخذ الدروس منه، والدخول إلى الجوّ الروحي للرسالة وللنبوة وفتح القلب لكل نسائم تجلياته طريق من طرق الهداية، حيث يستطيع الإنسان المباشرة بالطرق المؤدية إلى الهداية. أجل! مع أن المجيء إلى الجامع مباشرة بسيطة إلا أن الله تعالى يجعلها وسيلة للهداية، أي أن الهداية من قِبل الله، ولكن للعبد "كسب" معيّن في طرق باب الهداية.

وقد يطرق الإنسان أبواب الخمارات والبارات والأصنام، أي يطرق باب اسم "الْمُضِلّ" ويطلب الضلالة لنفسه. فإن شاء الله أضله وإن شاء جعل أمامه عوائق تمنعه من الانحراف والضلالة. إذن يتضح أن ما في يد الإنسان من شيء ضئيل لا يكفي ولا يستطيع أن يكون سبباً للهداية أو للضلالة.

لأضرب هذا المثل: قد تُصغي إلى القرآن الكريم وإلى المواعظ والنصائح وقد تَقرأ كتاباً علمياً جيداً فتحس وكأن الأنوار تشرق في قلبك. بينما عندما يستمع شخص آخر إلى الأذان المحمّدي أو إلى المواعظ أو إلى المناجاة والأدعية الضارعة الخارجة من القلب يحس بضيق ويقول "ما هذه الأصوات المنكرة؟" أي يشكو من أصوات الأذان.

إذن فإن الله تعالى هو الذي يعطي الهداية أو الضلالة. ولكن إن سلك أحد طريق الضلالة بعناد فإن الله تعالى يخلق له ما يتبقى من 99,9% من العمل العائد له تماما كعملية الضغط على زر لتشغيل آلة ضخمة ثم يقوم بمحاسبة الإنسان لكونه مال إلى الضلالة ورغب فيها ويعاقبه أو يعفو عنه.

المصدر: مسجد "بُورْنُوَا"، 14 أكتوبر 1977؛ الترجمة عن التركية: اورخان محمد علي.