(أ) الصحابة الكرام

الصحابة هم الذين نقلوا السـنة النبويـة بـل حتى القـرآن الكريم. فالأمانة الكبرى التي أرسلها الله المؤمن والمهيمن بوساطة جبريل الأمين إلى أفضل الخلق قاطبة وأكثرهم أمناً.. إلى الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.. ثم كان الصحابة هم الذين نقلوا إلينا هذه الأمانة الكبرى كما هي تماماً. لذا، نرى القرآن الكريم والسـنة النبويـة يتحدثان عنهم بكل ثناء، [1] بل مدحهم وأثنى عليهم الإنجيل والتوراة كذلك. [2]

عاشوا حياة مستقيمة، لم يكونوا مثال البطولة في بدر ومؤتة واليرموك فقط، بل كانوا في كل صفحة من صفحات حياتهم مثالاً يحتذى، إذ نظموا حياتهم وأوقفوها لحساب الدار الآخرة، وكانت كل خطوة من خطواتهم في سبيل نيل الرضا الإلهي. وعن طريق هؤلاء الذين ضربوا المثل الأعلى في الطهر والاستقامة وصلت إلينا السنة النبوية، لذا كان علينا أن نتطرق إلى الصحابة قليلاً، ثم إلى التابعين العظام الذين تبعوهم بأحسان.

1- الصحابة وطبقات الصحابة

يُعد الحافظ ابن حجر أفضل من قدم تعريفاً للصحابة ولمن نستطيع إطلاق كلمة الصحابة عليهم. فالصحابي حسب تعريفه هو الشخص المؤمن الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونال صحبته ولو قليلاً واستمع إليه ومات على الإيمان وعلى العهد.[3]

ومع أن هناك من اشترط للصحابي صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم مدة عام أو عامين، إلا أن جمهور العلماء متفقون على أن من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسنى له صحبته ولو قليلاً، واستفاد من ذلك الجو الروحاني ومات على الإيمان وعلى العهد فهو صحابي. أما الكافر فلو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، ألف مرة فلا يُعد صحابياً.

لا شك أن الصحابة ليسوا سواء، فهناك طبقات لهم، إذ لا يمكن أن يوضع في الكفة نفسها من آمن به وصحبه منذ البداية وجاهد معه، ومن آمن به بعد الهجرة ثم من بعد الفتح، وقد تناول القرآن والسنة هذا الموضوع من هذا المنطلق أيضاً. فالقرآن يتكلم عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (التوبة: 100). ثم يتكلم عن الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا والذين أنفقوا بعده وقاتلوا وأنهما لا يستويان: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ (الحديد: 10).

ويمكن ملاحظة فرق الدرجات هذا في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. فمثلاً عندما قام خالد بن الوليد بمضايقة عمّار بن ياسر غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تؤذوا أصحابي.»[4] وعندما آذى عمر أبا بكر قطب الرسول صلى الله عليه وسلم حاجبيه وقال لعمر: «هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ.»[5]

وأفضل من صنف الصحابة هو الحاكم النيسابوري صاحب كتاب المستدرك، فهو يرى أن الصحابة ينقسمون إلى اثنتي عشرة درجة:

  1. قوم تقدم إسلامهم بمكة كالخلفاء الأربعة.
  2. الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور أهل مكة في دار الندوة.
  3. مهاجرة الحبشة.
  4. أصحاب العَقَبة الأولى.
  5. أصحاب العَقَبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
  6. أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يدخل المدينة.
  7. أهل بدر.
  8. الذين هاجروا بين بدر والحُديبية.
  9. أهل بيعة الرضوان في الحُديبية.
  10. من هاجر بين الحُديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
  11. مسلمة الفتح الذين أسلموا بعد فتح مكة.
  12. صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.[6]

2- المنـزلة الرفيعة للصحابة

هناك اتفاق أو إجماع بأن الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء. فالأنبياء هم أصحاب الفضائل الكبرى، وليس في وسع أحد الوصول إلى مرتبتهم. ثم يأتي بعدهم الصحابة، ومع ذلك يمكن القول أن هناك صحابة يصلون في بعض الفضائل إلى مرتبة أنبياء بني إسرائيل وليس في جميع الفضائل. أكرر القول بأن بعض الصحابة قد يصلون في بعض الفضائل -وليس في كلها- إلى مرتبة بعض الأنبياء. وقد يقترب بعض الأولياء والأصفياء أمثال الشيخ الكيلاني والإمام الرباني ومحمد بهاء الدين النقشبندي في بعض الفضائل من بعض الصحابة على قاعدة "رجحان المرجوح على الراجح"، ولكن علماء الجمهور العظام أمثال أبي حنيفة والإمام الشافعي من الذين تنورت عقولهم وقلوبهم وأصبح كلامهم حجة في الدين يرون أن الفضيلة المطلقة تعود بعد الأنبياء إلى الصحابة الكرام[7] يقول الإمام الرباني السرهندي "فإنما حصل للأصحاب في أول صحبة خير البشر عليه وعلى آله الصلاة والسلام بطريق اندراج النهاية في البداية قلما يحصل لكُمَّل الأولياء في النهاية، ولهذا كان الوحشي قاتل حمزة رضي الله عنه أفضل من أويس القرني الذي هو خير التابعين لنيله صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة. سئل عبد الله بن المبارك: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله لَلغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز كذا مرة. فينبغي أن يتأمل في أنه إذا كان بداية جماعة بحيث اندرجت فيها نهاية غيرهم ماذا تكون نهايتهم، وكيف يسعها إدراك الآخرين؟"[8]

3- العوامل التي علت بمنـزلة الصحابة

ما سبب المنـزلة السامية للصحابة الكرام؟

أ.  العلاقة بالرسالة

السبب الأول يعود إلى وجود علاقة بين الصحابة وبين نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته. وبوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انسد باب النبوة، لذا لم يبق هناك سوى علاقة الولاية بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء الذين جاءوا من بعده. وبدرجة سمو النبوة على الولاية سمت مرتبة الصحابة على مرتبة الأولياء.

ب.  موضوع الانصباغ

والثاني هو موضوع الانصباغ. فوجود شخص في حضور شخص عظيم بضعة دقائق قد يفيده أكثر من قراءة مؤلفات ذلك الشخص العظيم لعدة ساعات. فالحضور في المجلس شخصياً والاستفادة من الصحبة بشكل مباشر وقريب لاسيما إن كان هذا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.. مثل هذه الصحبة لا تغني عنها أي قراءة في كتاب ما، لأن الإنسان المحظوظ بتلك الصحبة يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم ويرى حركات يده ونظرات عينيه ويحس بالجو الروحي المشع في مجلسه. ولن يستطيع أحد أن يصل إلى هذا الجو من قراءة الكتاب. صحيح أن كل شخص يستطيع أن يقرأ حول صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف كان يقف للصلاة وكيف كان يركع ويسجد، ولكن لا يوجد كتاب يستطيع أن ينقل الجو الحقيقي لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزفرات صدره في أثنائها والخشوع الذي كان يأخذ بالباب مشاهديه. لن يستطيع أي كتاب أن ينقل هذا الجو أبداً، لذا فالذي لا يفهم معنى الانصباغ في جو هذه الصحبة لن يستطيع فهم الصحابة ولن يستطيع إدراك عظمتهم. فلبلوغ مرتبة الصحابة يجب تجاوز المكان والرجوع في الزمن 1400 سنة إلى الوراء والحضور في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: فديتك يا رسول الله بأبي وأمي.

ج.  ديمومة اتباع الحق

والثالث أن حياتهم خلت من الكذب حتى في المزاح. ويصعب فهم هذا في يومنا الذي يختلط بعض الكذب بكلام أصدق الناس. كانوا آنذاك حديثي العهد بالإسلام.. أسلموا فانتقلوا من الكذب إلى الصدق، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن الظلام إلى النور، ولكي يصلوا إلى الجمال الذي وُعدوا به فقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم عن طيب خاطر، وما كانوا على استعداد أن يفرطوا بهذه المنـزلة التي حصلوا عليها بسعر غالٍ جداً. وهؤلاء الذين تحلقوا حول مقام الصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بعيدين عن مقام الكذب الذي كان مقام مسليمة الكذاب، وما كانوا يرضون لأنفسهم أبداً السقوط إلى تلك الهوة السحيقة.

أجل، لقد قطع الصحابة علاقتهم بدنيا الكذب وابتعدوا عنها وعن جميع المظاهر اللاأخلاقيه بسرعة على عزم أكيد بألا يرجعوا إليها مرة أخرى مهما كان الثمن.

وأظن أنه يصعب في أيامنا الحالية -التي راج فيها الكذب وسرى إلى السياسة واختلطت الأخلاق السيئة بالأخلاق الحميدة- فهم هذا على الوجه الصحيح والإحساس به، لذا فمن الصعب فهم الصحابة وفهم عظمتهم الفهم الصحيح، وهذا قد يؤدي إلى خطأ كبير وهو خطأ حسبان الصحابة رجالاً مثلنا، أي عدم التمييز بين النجوم المتلألئة في السماء وضوْء اليراع في الأرض.

د.  الحيوية التي أوجدها الوحي

والعامل الرابع هو نـزول موائد الوحي في عهد النبوة أمام الصحابة تترى، ففي كل يوم كانت هناك رسائل جديدة من مالك السموات والأرض ومن مليكهما، وكان الصحابة يتطهرون كل يوم بهذه الرسائل ويغتسلون بها. ففي يوم يشرع الأذان وفي يوم آخر تشرع إقامة الصلاة، وفي يوم آخر يشرع النكاح ويحدد بأربع نساء ويعلق بشرط، وفي يوم آخر يحرم الخمر وتلقى الأقداح على الأرض. هذه بعض الرسائل السماوية، فقد كانت هناك إشارات مبهمة أو صريحة يرونها في هذه الرسائل تتعلق بهم فمثلاً عندما يذكر الوحي: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾ (الفتح: 29) ثم يذكر ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ كانت العيون تتجه إلى أبي بكر، وعندما ينـزل الوحي ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ﴾ تتجه العيون إلى عمر بن الخطاب، وعندما يذكر الوحي ﴿رُحَمَاءُ بَينَهُمْ﴾ تتجه الأنظار إلى عثمان بن عفان، وعند ذكر ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ﴾ (الأحزاب: 23) خطرت على القلوب بطولة أنس بن النضر واتجه نظر أنس بن مالك إلى قبر عمه أنس بن النضر. ويستدعي الرسول صلى الله عليه وسلم أُبيّ بن كعب ليقول له إن الله تعالى أمره أن يقرأ عليه سورة البينة التي تبدأ بالأية: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتّى تَأتِيَهُمُ الْبَيِّنَة﴾ (البينة: 1) فسأله أُبيّ بن كعب مذهولاً: وهل ذكر أسمي يا رسول الله؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعم.»[9] وعندما تنـزل الآية ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنهَا وَطَراً﴾ (الأحزاب: 37) كان يرد اسم زيد في الوحي وهو من أوائل المسلمين.

أجل، كان الله تعالى يذكرهم، وكانوا يذكرون الله تعالى.. كانوا على اتصال دائم بالله تعالى اتصالاً يليق بجلاله وعظمته بوساطة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لو رأينا ظله في أحلامنا طرنا من السـعادة أياماً. هكذا انسابت أيام حياتهم وفي ظل مثل هذه العلاقة والفهم والوعي والإدراك والبصيرة، وكان هذا هو مستوى الذيـن نقلوا إلينا السنة، فقد كان من المحال أن يمر الكذب على خاطر أحـد منهم. وقد توثق القرآن والسـنة وتم إرسـاؤهما على أسـاس متين وقوي من قبل مثل هؤلاء الصحابة بحيث اسـتحال إجراء أي تغيير أو تبديل فيهما.

ﻫ. أخوتهم في المحن والشدائد

أسلم الصحابة ووقفوا بجانب الدعوة الإسلامية في أيامها الصعبة والحالكة. صحيح أن الوقوف اليوم أيضاً بجانب الإسلام يعد صعباً إلا أن تلك الأيام كانت أصعب وأحلك، وكان الإسلام آنذاك وحيداً وغريباً، ولكن الصحابة الكرام وقفوا بجانب دين الله وبجانب رسوله في تلك الأيام الحالكات، وينقل ابن عربي في كتابه "محاضرة الأبرار" كلام أبي بكر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه لينقله إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان يصور حالهم في تلك الأيام إذ يقول معناه: "يا علي! عندما كنتَ أنت صغيراً لا تعقل بعدُ لم نكن نحن نجرؤ على الخروج إلا بعد أن نأخذ الموت بنظر اعتبارنا عدة مرات، وكنا عندما نخرج نتوقع على الدوام سيفاً يمرق فوق رؤوسنا، وما كان أحد ليجرأ على قول لا إله إلا الله إلا وقد أخذ في حسبانه أن خنجراً حاداً سيخترق جسده."[10]

هذه هي الدرجة العالية التي بلغها هؤلاء الصحابة في الإسلام، لذا انفتحت أعين قلوبهم لعالم الحقائق في هبة واحدة. فعن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد والحارث بن مالك نائم فحركه برجله، قال: «ارفع رأسك»، فرفع رأسه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟» قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً. قال: «إن لكل حقٍ حقيقة، فما حقيقة ما تقول؟» قال: عزفت عن الدنيا، وأظمأت نهاري وأسهرت ليلي وكأني أنظر إلى عرش ربي فكأني أنظر إلى أهل الجنة فيها يتزاورون وإلى أهل النار يتعاوون. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت امرؤ نوّر الله قلبَهُ، عرفتَ فالزم.»[11]

كان هذا هو مقدار قربهم من الله تعالى، لذا أصبح الله تعالى -كما ورد في حديث قدسي- بصرهم الذي يبصرون به وسمعهم الذي يسمعون به وألسنتهم التي ينطقون بها، وأيديهم التي يبطشون بها.[12]

4- الصحابة في القرآن

يقول الإمام ابن حزم مثل كثير من الأئمة والمجتهدين إن جميع الصحابة من أهل الجنة.[13] ووجود العشرة المبشرين بالجنة بينهم وهم على قيد الحياة يدل على حيازتهم على نسبة وعلى حصة معينة من الجنة، وهناك أدلة عديدة تؤيد هذا الرأي في القرآن وفي السنة. ففي القرآن مثلاً نجد هذه الآيات في أواخر سورة الفتح ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾، فأكبر حقيقة بعد الإيمان بالله هي حقيقة أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي أرسله للناس كافة. ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الفتح: 29).

فما هو هذا الأجر العظيم الذي وعدهم الله تعالى؟ لا يصرح القرآن بماهية هذا الأجر لأنه يريد أن يكون لهم مفاجأة في فردوس فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.[14]

عن أنس رضي الله عنه: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! قد عرفتَ منـزلة حارثة مني، فإن يكُ في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال: «ويحكِ أَوَ هبلتِ؟ أَوَ جنةٌ واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه لفي جنة الفردوس.»[15]

كان هذا صحابياًّ شاباًّ من عامة الصحابة آمن فيما بعد، فإذا كان يحوز الفردوس  -وهو أرفع درجات الجنة- فما بالك بكبار الصحابة الذين نقلوا إلينا السنة النبوية والحقيقة الأحمدية، وما بالك بمن يسند إليهم الكذب أو يراهم من أهل النار! ترى إلام يقود هذا الرأى؟

يقول القرآن الكريم أيضاً: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا﴾ (التوبة: 100). وسيقول الله تعالى لكل نفس منهم: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27-30). أجل، إن الله تعالى راضٍ عنهم ولو لم يرض عنهم البعض، وهم وإن استكثروا عليهم الجنة إلا أن الله ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 100).

ترك المهاجرون ديارهم وبيوتهم وأوطانهم وهاجروا.. وقبل ذلك تركوا رغباتهم النفسية وهجروها.. هاجروا من المعصية إلى الطاعة، ومن رغبات النفس إلى صفاء الروح ومن مكة إلى المدينة. أما الأنصار فهم الأبرار الذين فتحوا لهم قلوبهم وصدورهم وبيوتهم، ولكي ندرك مدى احتضانهم لإخوانهم المهاجرين يكفي قراءة هذه الحادثة:

آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، فأخذ سعد أخاه عبد الرحمن إلى بيته وكانت له امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهلَهُ ومالَه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السوق. فأتى السوقَ فربح شيئاً من أقِطٍ وشيئاً من سَمْنٍ.[16] أجل، كان هذا هو نوع احتضانهم لإخوانهم ونمط أخوّتهم.

ومثال آخر نراه في قصة الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الذي جاء من دَوْس وأسلم ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه لكي ينقل لنا السنة فيما بعد، كان يصوم نهاره ويقوم ليله،[17] وكان جائعاً أكثر أوقاته، وقد يبلغ به الجوع درجة كبيرة، فيبدأ يتلوى من الألم ومن ينظر إليه يحسبه مجنوناً، إذ يقول رضي الله عنه: "لقد رأيتني أُصرَع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حجرة عائشة فيقول الناس: إنه لَمجنون، وما بي جنون، وما بي إلا الجوع."[18] ولم يكن أبو هريرة وحده يقاسي الفقر والجوع، بل كان هناك آخرون، ففي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسلَ إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يُضيّف هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله، لا تدّخريه شيئاً. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالَيْ فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلتْ ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد عجب الله عز وجل -أو- ضحك من فلان وفلانة فأنـزل الله عز وجل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ (الحشر: 9).»[19]

أجل، لقد أحرزوا مستوى سامياً لا يخطر على خيال إنسان هذا العصر. كانت قلوبهم نقية طاهرة، ونفوسهم خالية من العوج، لذا أعلن الله تعالى عن رضاه عنهم وهم لا يزالون على قيد الحياة. فقد كانوا مؤمنين بحق، والله يحب المؤمنين ويرضى عنهم لذا، قال عنهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنـزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ (الفتح: 18).

لم يتراجع الصحابة الكرام عن عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن بيعتهم التي بايعوه ولا عن عهدهم مع الله تعالى، بل صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبرهنوا على صدقهم هذا في كل حادثة وأمر، والقرآن الكريم يمدحهم ويخلد صدقهم هذا فيقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).

أجل، لقد عاهدوا على أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الحصول على جنته وعلى رضوانه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فاستشهد قسم منهم في المعارك ولم يتراجعوا ولم يهربوا في القتال. فها هو حمزة يستشهد في معركة أُحد ويرقى إلى مرتبة سيد الشهداء. وها هو أنس بن النضر يستشهد في أحد أيضاً ويلقى ربه. وها هو عبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وعشرات غيرهم استشهدوا في بدر وفي أُحد. استشهد هؤلاء وبقي وراءهم آخرون ينتظرون دورهم في الشهادة ويبحثون عنها، منهم أبو عقيل.. انتظر الشهادة في أُحد ثم انتظرها في فتح مكة، ثم انتظرها في معركة مؤتة، وأخيراً لقيها في معركة اليمامة.

لم يغيروا عهودهم التي قطعوها على أنفسهم مع الله تعالى، ولم يتغيروا.. كانوا في اليوم الأخير من حياتهم مثل أول يوم عهدهم.. لم تغيرهم الدنيا ولم تفتنهم، ولم تلههم الشهوات، بل بقوا رجالاً صناديد حتى تمزقت أستار الظلام عن قافلة النور.

5- الصحابة في الأحاديث الشريفة

لقد خلد القرآن الكريم ذكرى الصحابة -الذين كانوا القنوات الطاهرة التي نقلت إلينا السنة- بثنائه عليهم. والآن لنطلع على الأحاديث الشريفة في حق الصحابة الكرام وكيف أثنت عليهم:

أ. جاء في رواية وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الأحاديث الصحيحة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -وهو من شباب الصحابة الذين وقفوا أنفسهم لحفظ الحديث مثل أبي هريرة رضي الله عنه- جاء في هذه الرواية: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً، ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه.»[20]

ذلك لأنهم دافعوا عن الإسلام في أحلك وفي أصعب أيامه، لذا فأي قدح في حقهم لا يليق بأي مسلم، لذا فلا نستطيع نحن صرف أي كلام غير مناسب في حق الصحابة مثلما فعل منتسبو بعض المذاهب الباطلة بالأمس أو مثلما يفعل الآن بعض المستشرقين الذين أصبحت عداوة الإسلام دينهم، وبعض مقلديهم من المسلمين المساكين الذين أذهلهم التقدم المادي للغرب فأصبح هؤلاء المستشرقون قبلتهم ومحرابهم.

ب. يروي الترمذي عن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه: «اللهَ اللهَ في أصحابي، اللهَ اللهَ في أصحابي. لا تتخذوهم غَرَضاً بعدي، فمن أحبهم فَبحبي أحَبّهُمْ ومن أبْغَضَهم فببغضي أبْغضَهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومـن آذى الله فيوشـك أن يأخذه.»[21]

ج. وعن الإمام مسلم أيضاً:

«النجومُ أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السـماءَ ما تُوعَدُ. وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعَدون، وأصحابي أمَنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يُوعدون.»[22]

فكما تنتثر النجوم عند قيام الساعة انتشار حبّات المسبحة، كذلك يعد الرسول صلى الله عليه وسلم رأس المسبحة بالنسبة لأصحابه، وأصحابه رأس المسبحة بالنسبة لأمته، لذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورياً لانتظام صحابته، وصحابته يشكلون ضرورة لنظام أمته بأوليائها وأصفيائها وأبرارها.

د. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الصحاح للحديث: «خير الناس قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينهُ، ويمينُهُ شهادته.»[23] ثم جاء عصر الكذب، عصر خلف الوعد حيث تسبق الشهادة اليمينَ ويسبقُ اليمين الشهادة.

أما عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فقد كان عصراً بعيداً عن الكذب ومبرأ منه، وبعد عصر تابعي التابعين ظهر الكذب فظهرت فرق المعتزلة والمرجئة والمشبّهة ثم انتشر الكذب، واليوم ساد الكذب بين المستشرقين الذين أسندوا الكذب إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وتابعهم في هذا بعض المنذهلين بالغرب من المسلمين.

ﻫ. يقول ابن مسعود رضي الله عنه -الذي قال في حقه عمر بن الخطاب لأهل الكوفة بأنه آثرهم على نفسه عندما أرسل لهم هذا الصحابي[24]-: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه."[25] اختار له أصحاباً أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجرّاح وغيرهم.

و. كما ينقل أبو نعيم في كتابه الحلية عن عبد الله بن عمر: "من كان مُستناًّ فليستَنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوباً، أعمقها علماً وأقلها تكلّفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبةِ نبيه صلى الله عليه وسلم ونقلِ دينه، فتشبهو بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهُدى المستقيم والله رب الكعبة."[26]

ز. ويروي صاحب الحلية أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أنتم أكثر صياماً وأكثر صلاةً وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم." قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: "هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة."[27]

6- المكثرون من الصحابة

أكثر من تعرض لهجوم المستشرقين وهجوم تابعيهم ومقلديهم هم الصحابة المكثرون من رواية الحديث وعلى رأسهم أبو هريرة رضي الله عنه.

لقد انتقل الدين إلينا بوساطة الصحابة الكرام، لذا فأي تعرض لهم يعد تعرضاً لديننا. ولكون الأمانة في عهدتنا الآن لذا، يتحتم علينا حفظ هذه الأمانة أي حفظ ديننا من أي هجوم أو تعرض. لقد أدى الصحابة الكرام مهمتهم على أتم وجه، وانقضت حياتهم في عهد كان بعيداً عن كل طعن وتشهير. والحقيقة أنهم لا يحتاجون إلى من يدافع عنهم، ولكننا نريد البرهنة على تهافت هذا العذر، لأن الهدف من الهجوم على هؤلاء الصحابة هو النيل من ديننا في الأساس.

لقد انقضت العصور الأولى للتاريخ الإسلامي في نقاء وطهر، ولكن ما إن دخلت التيارات الفلسفية والتفكير الأجنبي بين المسلمين حتى ظهرت المذاهب الباطلة أمثال الجبرية والمرجئة والمعتزلة والمشبهة، وسلك أصحاب هذه المذاهب طريق اختراع الأحاديث لتأييد أهوائهم ومسالكهم، وكذلك الهجوم على الصحابة الذين رووا أحاديث رأوها مخالفة لمشاربهم الباطلة. لذا، نرى بعض أئمة المعتزلة كالنظّام وبعض أئمة الشيعة كأبي إسحاق وهم يهاجمون بعض أعمدة رواة الحديث من كبار الصحابة أمثال أبي هريرة رضي الله عنه الذين قضوا حياتهم -كأي صحابي آخر- في شرف واستقامة وأصبحوا من مفاخرنا. لذا، فلأهمية هذا الموضوع فسنتناول بتعريف قصير لهؤلاء الصحابة بادئين بأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً.

أ. أبو هريرة رضي الله عنه

هو من قبيلة دَوْس اليمنية، أسلم في بداية السنة السابعة للهجرة وهاجر إلى المدينة ونال شرف البقاء بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات. فعندما أسلم طُفيل بن عمرو رئيس قبيلة دوس رجع إلى قبيلته وكأنه شعلة من نور فأسلم على يديه الكثير من أفراد قبيلته، وكان أبو هريرة منهم حيث هاجر إلى المدينة بعد إسلامه.[28]

عندما وصل أبو هريرة رضي الله عنه إلى المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبواب خيبر، فأسرع أبو هريرة والتحق بجيش الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر. سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن اسمه فقال: عبد الشمس. فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان لا يكون عبداً للشمس ولا للقمر بل يكون عبداً لله، لذا سماه عبد الرحمن. ولكنه عُرف على الأكثر باسم أبي هريرة، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه مرة وفي حجره قطة صغيرة فقال له: «يا أبا هريرة!» حيث عرف بهذا الاسم فيما بعد. وكان يفضل أن يدعوه الناس أبا هرّ لأنه كان فقيراً معدماً لايملك شيئاً، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه مرة وهو في إحدى لحظاته السعيدة بـأبي هرّ. وتفضيله أن يخاطبه الناس باسمه هذا دليل على مدى ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه له.[29]

أسلم أبو هريرة ولكن كانت لديه مشكلة يعدها مشكلة كبيرة، وهي أن أمه لم تكن قد أسلمت بعد، كان يحس بدَيْن كبير نحو والدته التي ربته وهو يتيم، فكان يتمنى اهتدائها للإسلام ويحاول ذلك لكي يوفيها جزءاً من دينها عليه، لذا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو الله لكي يهديها إلى الإسلام وإلى نطق شهادة لا إله إلا الله.

ففي رواية عنه: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. قلت يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهم اهدِ أم أبي هريرةَ» فخرجتُ مسبتشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما جئتُ فَصِرْتُ إلى الباب فإذا هو مجافٌ (أي مغلق) فسمعتْ أمي خَشْفَ (أي صوت) قدميّ فقالت: مكانَك! يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء. قال: فاغتسلتْ ولبست درعها وعَجِلَتْ عن خمارها ففتحتِ البابَ. ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه. قال: فرجعْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قال قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجابَ الله دعوتَكَ وهدى أم أبي هريرة. فحمدالله وأثنى عليه خيراً. قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهم حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا -يعني أبا هريرة- وأمّهُ إلى عبادك المؤمنين وَحَبّبْ إليهم المؤمنين.»[30] أجل، إن المؤمنين يحبون أبا هريرة، أما من لا يحبه فندع حكم ذلك للقارئ.

لازم أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهاراً. كان من دهاة الحفظ عن ظهر قلب. في الليل كان ينام ثلثه ويتعبد الله في ثلثه ويصرف الثلث الأخير في تذكر الأحاديث التي سمعها ويكررهـا في قلبه. وأصـبح في الوقت نفسه عالماً وفقيهاً وحافظاً للحديث، دعـا مرة في المسـجد فقال: اللهم إني أسألك علماً لا يُنسى. فسـمعه الرسـول صلى الله عليه وسلم وقـال: «آمين.»[31]

ولا شك أن لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفظ كان له أثر في قوة حفظه، وفي أحد الأيام قال أبو هريرة قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال: «ابسط رداءك» فبسطته، فغرف بيديه ثم قال: «ضُمَّه.» فضممته فما نسيت شيئاً بعده.[32]

وعندما قيل له إنه يكثر من رواية الأحاديث قال: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون."[33]

كانت هذه هي الحقيقة.. لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه. كان يبقى جائعاً لعدة أيام، وكان يصوم صوم الوصال، أي أنه عندما لايجد شيئاً يفطر عليه يجدد صيامه، وهكذا كان يواصل صومه لثلاثة أو أربعة أيام.[34] كان يتلوى أحياناً من الجوع ويتقلب على الأرض من الألم فيحسبه الناظر أن به صرعاً،[35] وكان أحياناً يقول لمن يراه أو يمر به استقرأتُك[36] ويأتي هذا بمعنى: هل تقرأ لي القرآن؟ لم يكن أحد -في أكثر الأحيان- يفهم له سوى جعفر الطيار، لذا كان بعضهم يقرأ له بعض الآيات ثم ينصرف عنه، بينما فهم جعفر الطيار مرامه من هذا السؤال فأخذه إلى بيته وأطعمه.[37]

وكما كان جعفر رضي الله عنه يُطعم أبا هريرة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطعمه أيضاً كلما تيسر له ذلك. لم ينس أبو هريرة رضي الله عنه شيئاً سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، نقل كل ما سمعه منه إلينا ليخلد أقواله إلى يوم القيامة، وكان أبو هريرة يقول: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنـزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 159-160).[38]

لولا هذا لما روى أي رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي لهذا الصحابي النقي الصحيفة والخفيف الدم والذي كان صاحب مزاح أيضا مكوثه أربع سنوات مع شخص عظيم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحب أصحاب السلوك العالي وعدم استغراب أحد قربه هذا منه صلى الله عليه وسلم.. يكفيه هذا للدلالة على مدى علوه على ما اعتقد، ولا يدرك معنى هذا إلا الشخص الذي جرّب أن يكون قريباً من شخص عظيم.

لم يكن للصحابة الكرام موقف سلبي من أبي هريرة كما يدعي البعض. فعندما روى عنه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه -الذي كان من أوائل من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العَقَبة والذي نال شرف استضافته في بيته والضيف العزيز لمدينة إسطنبول-[39] قال أبو الشعثاء: قدمت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه فقلت: تحدث عن أبي هريرة وأنت صاحب منـزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لأن أحدث عن أبي هريرة أحب إلي من أن أحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم.[40]

لم يكن أبو أيوب الأنصاري وحده هو الذي روى الحديث عنه، بل روى عنه أيضاً عبد الله بن عمر وحبر الأمة عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة الأجلاء الذين يعدون أعمدة الحديث. كما روى عنه من التابعين العظام العديد من الأئمة الذين لهم اليد الطولى في الحديث أمثال الحسن البصري وزيد بن أسلم، وصهره سعيد بن المسيب، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن يسار، وسليمان بن يسار، والشعبي، وهَمّام بن مُنَبِّه، ومحمد بن المنكدر المعروف بالبكاء، وغيرهم، من مئات الأعلام.[41]

1) عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما

كان عمر بن الخطاب يحبه جداً، لذا عينه والياً على البحرين ثم عزله وأرسل غيره مكانه، وقد يكون سبب العزل اشتغال أبي هريرة بالتجارة وكسبه رأسمالاً بقدر رأسمال شخص فقير في أيامنا الحالية، غير أن الولاة والإداريين والخلفاء آنذاك لم يكونوا يملكون شيئاً.. فكثير من الولاة كانوا يذهبون إلى الولايات التي تم تعيينهم فيها وهم لا يملكون سوى قربة مملوءة بالماء ويرجعون أيضاً كما ذهبوا. ومن شذ عن هذه القاعدة كان كثيراً ما يعزل. ولم يجمع أبو هريرة رأسماله الصغير هذا عن طريق الرشوة أو عن طريق سوء استغلال سلطته، وعندما تبين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الأمر ثم دعاه ليستعمله فأبى فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال: إنه يوسف نبي الله بن نبي الله وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم أو أقضي بغير حكم ويضرب ظهري ويشتم عرضي و ينـزع مالي.[42]

ولم يعزل عمر بن الخطاب أبا هريرة وحده، بل قام أيضاً بعزل سعد بن أبي وقّاص وهو من بين العشرة المبشرة بالجنة وعمير بن سعد الذي كان من متقدمي الصحابة من وظائفهم. حتى أن أهل الكوفة عندما شكوا سعد بن أبي وقّاص إلى عمر قالوا إنه لا يحسن يصلي، فاستدعاه عمر وحقق معه، وقد حزن سعد بن أبي وقّاص وقال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أَخْرِم عنها. أصلي صلاة العشاء فأركد في الأولَيَيْنِ وأخِفّ في الأخْرَيينِ.[43] ثم قال مستعرضاً تاريخ إسلامه: إني لأول العرب رمى بسهم في سـبيل الله، والله إن كنا لَنغزو مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبْلة،[44] وهذا السَـمُر حتى إن أحدنا لَيضع كما تضع الشـاة ما له خِلْطٌ، ثم أصبحت بنو أسـد تُعزّرُني[45] على الدين، لقد خبتُ إذاً وضل عملي.[46]

أجل، قال سعد بن أبي وقّاص هذا ورفض العودة مرة ثانية إلى الكوفة،[47] لذا، فلم يكن أبو هريرة رضي الله عنه هو الشخص الوحيد الذي تم عزله والذي لم يرغب في الرجوع إلى إمارته مرة أخرى.

2) علي وأبو هريرة رضي الله عنهما

لم يكن لا علي ولا عثمان رضي الله عنهم ضد أبي هريرة رضي الله عنه كما ادعى البعض. صحيح أن أبا هريرة عندما يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "قال خليلي، وسمعت خليلي" اعترض عليه علي بن أبي طالب قائلاً له: متى كان خليلك؟[48]

بدا هذا الاعتراض من علي رضي الله عنه بكل ما في قلبه من صفاء وإخلاص، لأنه لم يجده ملائماً مع أنه لا يستغرب من أي شخص أن يصف شخصاً حبيباً إلى قلبه بأنه كان "خليله." ولكن شخصاً مثل علي رضي الله عنه الذي نشأ في حجر النبوة والذي كان أسبق السابقين إلى الإسلام يستطيع قول هذا لأبي هريرة رضي الله عنه، فبين الأنداد والأمثال يمكن جريان مثل هذا الحديث أو العتاب، ولكن لا يحق لأحد أدنى منهم أن يتفوه بمثل هذا الكلام في حقهم. ثم إن عليّا رضي الله عنه لم يقل هذا الكلام بقصد الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه، لذا فتفسير مثل هذا الكلام كطعن فيه يعني عدم معرفة ما هو الطعن وما هو ليس بطعن.

3) الأمويون وأبو هريرة رضي الله عنه

لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه معارضاً لعلي رضي الله عنه ومداهنا وحليفاً لبني أمية كما ادعى البعض، فعندما ظهرت الفتن ذكر أبو هريرة رضي الله عنه الحديث التالي ونشره في جميع أنحاء البلاد: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرِفْه، فمن وَجد فيها ملجأ أو مَعاذا فلْيَعُذْ به.»[49]

كان هذا اجتهاده.. لعله كان من الواجب عليه الانضمام إلى صف علي رضي الله عنه لإخماد الفتنة، ولعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعني تلك الفتنة، ولكنه استخرج هذا المعنى من هذا الحديث. كذا لم يشترك في الحوادث التي جرت في عهد علي رضي الله عنه وفضل الجلوس في بيته، ولو لم يملك صلابة في الإيمان وخشية من الله تعالى ما تصرف هكذا، ولو كان من أنصار الأمويين ومن المعجبين بمعاوية لما كان هناك أي سبب يحول بينه وبين الاشتراك بجيش الأمويين. والذين ادعوا العكس أمثال "غولتسهر (Goldziher)" وأحمد أمين وأبي ريّة وعلي عبد الرازق من الذين حاولوا قلب الحقائق كانوا يعتمدون كمصدر على كتاب "العقد الفريد" الذي هو كتاب أدبي وليس كتاباً في الحديث. لذا، فالواجب أولاً أن يتعلم هؤلاء كيف يراجعون المصادر عند قيامهم ببحوثهم.، والغريب أن هؤلاء ادعوا أن ابن كثير ذكر في كتابه البداية والنهاية أن أبا هريرة التزم جانب معاوية رضي الله عنه ضد علي رضي الله عنه، بينما يذكر ابن كثير عكس هذا تماماً في كتابه هذا، فلم يكن أبو هريرة كما يقول ابن كثير من أنصار الأمويين بل كان على العكس تماماً مشكلة كبيرة بالنسبة إليهم.[50] إذ وقف أمام مروان والد عبد الملك وروى له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلكة أمتي على يدي غِلْمةٍ سفهاء من قريش.» فقال مروان: لعنة الله عليهم غِلْمةً. فقال أبو هريرة: لو شئتُ أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلتُ. ويقول الراوي -وهو عمرو بن يحيى-: فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم.[51] وكان يسير في الدروب وهو يدعو الله: "اللهم لا تدركني سنة ستين" أي يدعو الله أن لا يريه حكم الغلمان.[52] واشتهر دعاؤه هذا بين الناس حتى أن الكثيرين ممن رأوا أبا هريرة بدأوا يدعون بدعائه هذا. وقد استجاب الله لدعاء أبي هريرة فتوفاه سنة 59 للهجرة وفي سنة ستين للهجرة انتقل الحكم إلى غلام من الغلمان إذ تولى يزيد الحكم.

4) عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما

أما ادعاء البعض بقيام أمنا عائشة رضي الله عنها بنقد أبي هريرة ومعارضته فادعاء يشبه الاستشهاد المبتور بالآيات مثل ﴿لاَ تَقرَبُوا الصَّلاَةَ﴾ (النساء: 43) أو ﴿فَوَيلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ (الماعون: 4). فأمنا عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في غرفتها فسمعت أبا هريرة رضي الله عنه في المسجد الملاصق لغرفتها وهو يروي الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعدما أنهت صلاتها ذهبت لترى أبا هريرة، ولكنها لم تره لأنه كان قد انصرف، فقالت لعروة بن الزبير: ألا يعجبك أبو هريرة! جاء فجلس إلى جنب حُجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يُسمعني ذلك وكنت أسبّح[53] فقام قبل أن أقضي سُبْحتي ولو أدركته لَردَدتُ عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَسْرُدُ الحديث كسردكم.[54]

والظاهر أنها كانت تريد الإشارة إلى وجوب الاقتصاد في رواية الأحاديث وعدم سردها الواحد تلو الآخر لكي يبقى أثر كل حديث من هذه الأحاديث المباركة في ذاكرة المستمعين ويُنقش فيها.

5) أبو حنيفة وأبو هريرة

يقال أن أبا حنيفة قال بأنه لا يعد كلام ثلاثة من الصحابة حجة منهم أبو هريرة.

لا يمكن صدور مثل هذا الكلام عن مثل هذا الإمام الكبير، إذ لا يليق ذلك به أبداً. ولو صدر منه مثل هذا الكلام لما قال العلامة الكمال بن الهُمام صاحب "الفتح القدير" الذي يعد من كبار أئمة المذهب الحنفي: إن أبا هريرة من كبار الفقهاء. أجل، إن عالماً كبيراً مثل ابن الهُمام لم يكن ليقول مثل هذا الكلام في حق أبي هريرة لو أن إمام مذهبه قال عنه أنه لا يقبل كلامه حجة. ثم لا يقول لنا أحد أين قال أبو حنيفة مثل هذا الكلام.

روى أبو هريرة أكثر من خمسة آلاف حديث، ولو جمعت هذه الأحاديث في كتاب لكان حجمه أكبر من حجم القرآن بمرة ونصف، وكما نعلم هناك العديد من الناس ممن حفظوا القرآن الكريم في ستة أشهر، لذا فاتهام صحابي ذكي ذي ذاكرة قوية مثل أبي هريرة رضي الله عنه بأنه لم يكن باستطاعته حفظ كل هذه الأحاديث في ظرف أربع سنوات قضاها ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو اتهام لصحابي كبير وذكي بالحمق. ثم إن الأحاديث التي رواها لم تكن جميعها مما سمعها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل روى الكثير من الأحاديث التي سمعها عن أبي بكر وعمر وفضل وأُبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

ثم إن أبا هريرة امتحن حتى في عهده فقد أمر مروان كاتبه أن يسجل سراً مئات من الأحاديث التي كان يرويها أبو هريرة رضي الله عنه، وبعد مرور سنة كاملة طلب مروان من أبي هريرة أن يحدثه بتلك الأحاديث، فبدأ أبو هريرة بعد قراءة البسملة بسرد تلك الأحاديث فوجدها متطابقة مع الأحاديث التي سبق وأن استكتبها كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً.[55] لذا، فكما خجل متهمو أبي هريرة بالأمس فسيكون الخجل نصيب متهميه اليوم وغداً أيضاً.

ب. حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه

ولد قبل الهجرة بأربع أو خمس سنوات، وعندما التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان عمره يتراوح بين 14- 15 سنة، وهذا يعني أنه في سنواته الأربعة أو الخمسة الأخيرة كان في عمر يستطيع فيه فهم ما يسمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فهم واستوعب الشيء الكثير في هذه السنوات، فقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل»،[56] وقد بلغ في العلم وهو في تلك السن مبلغاً لقّب معه بـحبر الأمة وبحر وترجمان القرآن.[57]

كان مليحاً جميل الوجه بليغاً يسحر قلوب سامعيه، ذا قامة طويلة تقرب من مترين -مثل والده- حلو الشمائل يمثل السلالة الهاشمية أصدق تمثيل،[58] وكان ذا ذاكرة قوية بحيث أنه استطاع أن يحفظ ثمانين بيتاً من شعر عمر بن أبي ربيعة الذي كان مطلعه:

أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرٌ    غداة غدٍ أم رائح فمُهَجِّرٌ

حفظ ثمانين بيتاً من هذا الشعر من سماعه له مرة واحدة فقط.[59] وإلى جانب التفسير والفقه والحديث كان ضليعاً في الأدب والشعر ولاسيما الشعر الجاهلي، ويورد ابن جرير الطبري في تفسيره في تفسير كل آية تقريباً بيتاً من الشعر الجاهلي أورده ابن عباس.

كان محط الأنظار في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أما في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد أختير على الرغم من صغر سنه إلى "مجلس الشورى" الذي كان يتكون من كبار شيوخ الصحابة. وعندما استغرب بعض شيوخ الصحابة اشتراكه مع صغر سنه -مع أن لهم أبناء مثله- قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة النصر في مجلس الشورى وسأل الحاضرين عن معناها، فقالوا إن معناها أنه إذا جاء نصر الله والفتح وأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فعلينا أن نسبح بحمد الله ونشكره. ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعجبه هذا فسأل ابن عباس عن معنى الآية فقال: "هو أجل رسول الله أعلمه له، قال ﴿إذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالْفَتحُ﴾ (النصر: 3) وذلك علامة أجلك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ (النصر: 3)." فقال عمر رضي الله عنه: "ما أعلم منها إلا ما تقول."[60]

اشتهر ابن عباس بفراسته وكياسته وفطنته، وهو من نفس الشجرة المباركة التي جاء منها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يفخر بهذا وله الحق في ذلك فكان يقول: "لقد نشأنا في بيت النبوة." وكان صاحب كمالات، وعندما كان يدخل إلى مجلس يقوم الجالسون احتراماً وتوقيراً له فكان ينـزعج من هذا كثيراً، فكان يقول للأنصار جملة أصبحت مثالاً لقاعدة في النحو وهي "بالإيواء والنصر إلا جلستم" أي أعزم عليكم بما قمتم من إيواء ونصر للنبي صلى الله عليه وسلم وللمهاجرين أن تجلسوا.

وعلى الرغم من ذلك كان ابن عباس يمسك بركاب جواد زيد بن ثابت رضي الله عنه عندما يمتطي جواده فينـزعج زيد بن ثابت رضي الله عنه ويقول: لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن عباس رضي الله عنه: "هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا." فيسرع زيد بن ثابت ويقبّل يد ابن عباس قائلاً: "وهكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ."[61]

هناك نافذة في الحياة الاجتماعية يتراءى منها كل شيء، ويشاهد من خلالها الشيء الكثير، فالشخص العظيم يكون متواضعاً، يحاول أن يخفي عظمته، أما الشخص القزم فيحاول أن يتطاول ويبدو عظيماً فيتكبر، فالتواضع علامة عند العظام على عظمتهم، والغرور علامة الصغر عند الصغار، وكان ابن عباس عظيماً ومتواضعاً بدرجة عظمته.

كان له طلاب في كل ساحة من ساحات العلم. وقد ذكر بعض كبار أئمة التابعين أمثال سعيد بن جبير ومجاهد بن جَبْر وعكرمة بأنهم مدينون بعلمهم إليه. وبلغ عدد الأحاديث التي رواها هذا الصحابي الذي نشأ بالقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم 1600 حديثاً. لذا، ألا يُعد إثارة الشبهات حول الأحاديث التي رواها والزعم بأنها أحاديث مختلقة أخذها من كعب الأحبار.. ألا يُعد هذا الزعم تهويناً من الدعاء الذي دعا الرسول صلى الله عليه وسلم له وإهانة للأمة ولأئمة التابعين الذين لقبوه بـحبر الأمة والبحر وترجمان القرآن؟

كان ابن عباس يكره أن يقوم له الناس، ولكن عندما دفن قام الكثيرون له من عالم الغيب، إذ يذكر سعيد بن جبير بأنه عندما دُفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ولم يَدْرِ أحد من تلاها ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27-30).[62]

ج.  عبد الله بن عمر رضي الله عنه

يزعم المستشرقون خطأ أن عبد الله بن عمر كان التلميذ الآخر لكعب الأحبار، فقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه تسعة أبناء هم: عبد الرحمن وعبد الرحمن الأوسط وعبد الرحمن الأصغر وعبد الله وزيد الأكبر وزيد الأصغر وعبيد الله وعاصم وعياض. ولكن أطلق اسم "ابن عمر" لعبد الله فقط لأنه كان أكثر جدارة بهذا الاسم من باقي إخوته. لذا، فعندما يذكر ابن عمر لا يخطر على البال ولا يُقصد إلا عبد الله.

صحيح أنه ليس من حدّنا أن نقوم نحن بإجراء تفاضل بين الصحابة الكرام، غير أننا نستطيع أن نقول إن عبد الله بن عمر ربما فاق والده في بعض جوانب عبادته وتقواه وطاعته والتزامه الشديد بالسنة واتباعه لها. كان شخصاً فريداً في اتباعه العميق للسنة إلى درجة يصعب إدراكها، إذ يروي أنس بن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات فلما كان حين راح رحت معه حتى أتى الإِمامَ فصلى معه الأولى والعصر، ثم وقف معه وأنا وأصحاب النيل حتى أفاض الإمام فأفضنا معه حتى انتهينا إلى المضيق دون المأْزِمَيْن فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته.[63]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب الماء على ثلاث دفعات،[64] لذا، لم يشاهد أحد ابن عمر وهو يشرب الماء إلا على ثلاث دفعات. هكذا كانت درجة ارتباطه بالسنة النبوية، وهكذا كانت حساسيته في هذا الموضوع، بل ربما اعتبره البعض حتى في ذلك العهد مبالغاً في هذا الأمر، لذا فهل من الممكن أن يقوم مثل هذا الشخص برواية أي حديث للرسول صلى الله عليه وسلم خلاف الحقيقة؟ أيمكن هذا؟

ولد في السنوات الأولى لظهور الإسلام وشاهد التعذيب الذي تعرض له والده إذ يقول: لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقلُ للحديث؟ فقيل له: جَميل بن معمر الجُمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه فغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمتَ يا جميل أني قد أسلمتُ ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتّبعه عمر واتبعتُ أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ. ويقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطَلِح (أي أعيا) فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم. فبينما هم على ذلك إذ أقبل العاص بن وائل السـهمي وأنقذ عمر من أيديهم.[65]

عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة كان في سن الحادية عشرة تقريباً. وفي معركة بدر عرض مع أقرانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ يتطاول ويقف على أطراف أصابعه لكي يبدو كبيراً، غير أن الرسـول صلى الله عليه وسلم لم يقبل اشـتراكه في القتال لصغر سنه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن العمر ولا يكتفي بالنظر إلى الطول. وعرض نفسه أيضاً في معركة أُحد ولم يُقبل كذلك، فرجع هو وأقرانه وعيونهم تفيض من الدمع وقلوبهم مملوءة بالحزن، وعندما وصـل إلى الخامسة عشرة عُدّ راشداً وسمح له الرسـول صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في معركة الخندق.[66]

ينقل ابن خَلِّكان في كتابه وفيات الأعيان هذه الحادثة عن الإمام الشعبي:

لقد رأيت عجباً، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعدما فرغوا من صلاتهم: ليقم رجل رجل منكم فليأخذ الركن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من ساعته، قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود ولد في الهجرة، فقام وأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم تُرجى لكل عظيم، أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك عليه الصلاة والسلام، أن لا تميتني حتى توليني الحجاز ويسلّم عليّ بالخلافة. وجاء حتى جلس، فقال: قم يا مصعب. فقام حتى أخذ الركن اليماني فقال: اللّهم إنك رب كل شيء وإليك يصير كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين وجاء حتى جلس، فقال: قم يا عبد الملك. فقام وأخذ بالركن اليماني وقال: اللّهم رب السموات السبع ورب الأرض ذات القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس فقال: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللّهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك، أن لا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.

قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت لكل رجل ما سأل، وبُشِّرَ عبد الله بن عمر بالجنة ورؤيت له.[67]

لم يكن ابن عمر معارضاً لآل البيت في أي وقت من الأوقات وبأي حال من الأحوال، ولم يلتزم جانب الأمويين، بل كان الحَجّاج على الأخص يخشى منه ويوجس منه خيفة. وفي إحدى المرات أطال الحَجّاج خطبته (لعله كان يريد تبرير وتسويغ إجراآته الظالمة) حتى كادت تفوت صلاة الظهر، فقام ابن عمر من مكانه وقال: أيها الرجل الصلاةَ فاقعد، إن الشمس لا تنتظرك (كررها ثلاثا). فقال للجماعة في الرابعة: أرأيتم إن نهضتُ أتنهضون؟ قالوا: نعم. فنهض فقال: الصلاةَ، فإني لا أرى لك فيها حاجة. فنـزل الحجاج فصلى ثم دعا به فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنما نجيء للصلاة فإذا حضرت الصلاة فصلّ بالصلاة لوقتها ثم بَقْبِقْ بعد ذلك ما شئت من بقبقة.[68]

فاغتاظ منه الحَجّاج ولكنه أسرّ غيظه. وفي موسم من مواسم الحج وبينما هذا الصحابي الجليل محرم في الحرم الشريف قام أحد رجال الحجاج بطعنه في رجله برمح مسموم، وأدى جرح هذا الرمح المسموم إلى استشهاد هذا الرجل العظيم.[69]

د.  عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

وعبد الله بن مسعود أحد الصحابة الذين رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من السابقين الأولين. كان غلاما يافعا يرعى غنما لعُقبة بن أبي مُعيط،[70] وعندما تعرف على سيد الخلق وراعيها لازمه ولم يفارقه. وكان كثير من الناس يحسبونه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لكثرة تردده على بيت النبي صلى الله عليه وسلم.[71] وكان يلقب بـ"صاحب النَعْلَيْن والوِساد والمِطْهرة" لأنه كان في الأسفار ينقل نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده وقربة مائه.[72] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه بـ"ابن أم عبد" وكان يقول: «من أحب أن يقرأ القرآن غَضاًّ كما أُنـزلَ فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.»[73]

ويروي أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ.» فقلت: آقرأ عليك وعليك أنـزل؟ قال: «فإني أُحب أن أسمعه من غيري.» فقرأت سورة النساء حتى بلغت ﴿فَكَيفَ إذَا جِئنَا مِن كُل أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً﴾ (النساء: 41). قال: «أمسِكْ» فإذا عيناه تَذرِفان.[74]

كان ابن مسعود نحيفاً ضامر البنية، وفي يوم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه. فقال: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحد.»[75] وعندما أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلماً ومحاسباً كتب إليهم: "إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي فخذوا منه."[76]

بقي ابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي الجو العلمي الذي أشاعه في الكوفة نشأ علماء أجلاء أمثال علقمة بن قيس -الذي قال أبو حنيفة في حقه: إنه ليس بدون ابن عمر في الفقه-[77] والأسود بن يزيد النخعي وإبراهيم بن يزيد النخعي وغيرهم من كبار علماء وأئمة التابعين. وقد استقى علقمة أكثر علمه من ابن مسعود، وقد سأله أحدهم مرة: من أين استقيت هذا؟ فقال: عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، فقال السائل: بخ بخ!!

بقي ابن مسعود في الكوفة بعضاً من عهد عثمان رضي الله عنه، ثم استدعي إلى المدينة للتحقيق معه حول شكاية كيدية. كان قد تقدم في العمر، لذا فضل البقاء في المدينة ولم يرجع إلى الكوفة. وفي أحد الأيام جاءه رجل مسرعاً وقال له: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي وكنتَ أنت جالساً بجانبه فالتفتَ إليك، وقال بأنك قد قاسيت بعده كثيراً، وقد آن لك أن تأتيه. فقلتَ: أجل، يا رسول الله! لن أفارق المدينة بعد الآن.

بعد مضي عدة أيام مرض ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان من أوائل المسلمين والذي كان من أبرز طلاب مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه -الذي لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه إلى القبلتين وشهد معه معظم المشاهد- عائدا وقال له:

- ما تشتكي؟
- ذنوبي.
- فما تشتهي؟
- رحمة ربي.
- ألا آمر لك بطبيب؟
- الطبيب أمرضني.
- ألا آمر لك بعطائك؟ -وكان قد تركه سنتين-
- لا حاجة لي فيه
- يكون لبناتك من بعدك.
- أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أَمَرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً»،[78] وتوفي ابن مسعود رضي الله عنه.

وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه 800 حديثاً بعد ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دامت ثلاثاً وعشرين سنة.. والآن ما رأيكم فيمن يطعن في مثل هذا الصحابي الجليل؟

بعد أن أعطينا بعض المعلومات عن هؤلاء الصحابة الأربعة الكبار، سنعطي معلومات مختصرة جداً عن عائشة الصديقة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم باعتبارهم من الصحابة الذين رووا أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكي ننتقل بعد ذلك إلى التابعين العظام.

ﻫ. عائشة الصديقة رضي الله عنها

فتحت عينيها في بيت النبوة، إذ دخلت بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بقليل وقضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أعوام. وقد تعلمت أمنا عائشة رضي الله عنها التي كانت مثال الذكاء والفطنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يتعلق من أمور تخص عالم النساء وأمورهن، ونقلت إليهن ما تعلمته دون أي تقصير. وعالم النساء مدين إلى الزوجات الطاهرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالشيء الكثير ولاسيما لأمنا عائشة رضي الله عنها التي جاء في حقها حديث ضعيف من ناحية السند وهو حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحُميراء.»[79]

ولا يوجد هناك أي مانع ولا أي استبعاد أو استغراب لقيامها برواية أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها كانت امرأة ذكية فطنة، ولها قابلية الاجتهاد. وكانت تميل إلى تحقيق كل شيء وتستقصى وتستفسر عنه. ولكون كثير من المحققين العظام كتبوا كل شيء عنها فإني أحيل القراء إليهم.

و. أبو سعيد الخدري (سعد بن مالك) رضي الله عنه

عد في زمانه أعلم العلماء ومرجع العلم في المدينة.. كان والد هذا الصحابي الفقير من أوائل الأنصار.. وبعد أن استشهد والده في معركة أُحد بقي وحده ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم.[80] كان يقضي أيامه -مثله في ذلك مثل أبي هريرة رضي الله عنه- في الصفة ويتابع الوحي النازل ويتدارسه ويعيش في فيض النبوة الأحمدية. عاش كأي صحابي آخر في رشد واستقامة ورأينا فيه هو مثل رأينا في أي صحابي جليل.

ز. جابر بن عبد الله رضي الله عنه

هو ابن الصحابي الكبير عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الذي شهد بيعة العَقَبة الثانية ثم كان من الشهداء الكرام لمعركة أُحد والذي واجهه الله كفاحاً -أي دون وجود حجاب بينهما- بعد استشهاده.[81] بعد بيعة العَقَبة الثانية لم يسمح له والده بالاشتراك في معركة بدر وأُحد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له حين ذَكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على إخوته[82] غير أنه بدأ بملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر بعد معركة أُحد وكان من المقربين إليه،[83] لذا، فحفظه وروايته لكثير من الأحاديث النبوية شيء طبيعي وليس هناك ما يُستغرب في هذا الموضوع.

لذا، نرى الناس يتحلقون حوله عندما ذهب إلى الشام ومصر لكي يسمعوا منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانت له حلقة دراسة في المسجد النبوي في المدينة. وظهر من بين طلابه علماء كبار أمثال عمرو بن دينار ومجاهد وعطاء بن أبي رباح.[84]

ح. أنس بن مالك رضي الله عنه

خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات كاملة.[85] ولأنه استطاع حفظ القرآن الكريم بأكمله في ستة أشهر، لذا كان باستطاعته حفظ ما يقارب عشرين ضعفاً من القرآن طوال هذه السنوات، غير أننا نرى أن مجموع الأحاديث الموجودة لدينا والتي حواها "كنـز العمال" هو 46624 حديثاً فقط، علماً بأن ذكر الأسانيد هو الذي يزيد من حجم كتب الأحاديث.

الخلاصة:لم تكن غايتنا هنا تناول حياة هؤلاء الصحابة بالشرح أو التغني بفضائلهم، بل الإشارة إلى فساد عقلية من حاول الافتراء عليهم وكيل التهم جزافاً لهم. وجهدنا هنا كان جهد المقل، وعلى أي حال فإن نية المؤمن خير من عمله.. وقد أردنا بعلمنا المتواضع هذا أن ننال شفاعتهم، ورحمة الله وسعت كل شيء.

الهوامش

[1] انظر هذه الآيات: ﴿لَقدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأنـزلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحاً قَريباً﴾(الفتح: 18)؛ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بأَموَالِهِم وَأنفُسِهِم في سَبيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أولَئِكَ بَعضُهُم أولِيَاءُ بَعضٍ وَالَّذِينَ آمنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِنْ وَلاَيَتِهِم مِن شَيءٍ حتى يُهَاجِرُوا وَإن استَنصَرُوكُم في الدِّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصرُ إلاَّ علَى قَومٍ بَينَكُم وَبَينَهُم مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال: 72)؛ ﴿للفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَموَالِهِمْ يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَاناً وَينصُرونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَالإيمانَ من قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إلَيهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمانِ وَلاَ تَجْعَل في قُلُوبِنَا غِلاً لِلّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيم﴾ (الحشر: 8-10)؛ وانظر أيضاً: البخاري، فضائل الصحابة، 5؛ مسلم، فضائل الصحابة، 214؛  الترمذي، المناقب، 56-57

[2] انظر هذه الآية: ﴿مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم تَرَاهُم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُم في التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم في الإنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ منهُم مَغفِرَةً وَأجراً عَظِيماً﴾ (الفتح: 29).

[3] «الإصابة» لابن حجر 1/7

[4] «المسند» للإمام أحمد، 4/89-90؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 4/132

[5] البخاري، تفسير سورة (7) 3؛ «السنن الكبرى» للبيهقي 10/236

[6] «معرفة علوم الحديث» للحاكم ص22-24؛ «الباعث الحثيث» لأحمد محمد شاكر  ص137

[7] «شرح كتاب الفقه الأكبر» لعلي القاري ص206؛ «شرح العقيدة الطحاوية» لابن العز 3/689؛  «علوم الحديث» لابن الصلاح  ص294؛ «الكفاية» للخطيب البغدادي  ص46

[8] «المكتوبات» للإمام الرباني 1/70 (المكتوب رقم 58)

[9] البخاري، تفسير سورة (98) 1-3؛ مسلم، فضائل الصحابة، 121-122؛ الترمذي، المناقب، 320؛ «المسند» للإمام أحمد 3/130، 137، 185

[10] «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار» لابن عربي 2/179

[11] «كنـز العمال» للهندي 13/ 353؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/57

[12] البخاري، الرقاق، 38

[13] «الإصابة» لابن حجر 1/10؛ «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم 3/119

[14] انظر: البخاري، التوحيد، 35؛ مسلم، الإيمان، 312؛ الترمذي، الجنة، 15؛ ابن ماجه، الزهد، 39؛ الدارمي، الرقائق، 98، 105؛ «المسند» للإمام أحمد 2/313، 370

[15] البخاري، الرقاق، 51؛ الترمذي، تفسير سورة (23) 3

[16] البخاري، النكاح، 7، البيوع، 1، 49؛ الترمذي، البر، 22

[17] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/118-120؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 2/609

[18] «صفة الصفوة» للجوزي 1/292-293؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/378

[19] البخاري، تفسير سورة (59) 6؛ مسلم، الأشربة، 172-174

[20] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 5؛ مسلم، فضائل الصحابة، 221؛ الترمذي، المناقب، 58

[21] الترمذي، المناقب، 58؛ «المسند» للإمام أحمد 5/57

[22] مسلم، فضائل الصحابة، 207؛ «المسند» للإمام أحمد 4/399

[23] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 1؛ مسلم، فضائل الصحابة، 212

[24] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/388؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/291

[25] «المسند» للإمام أحمد 1/379؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/375

[26] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/305

[27] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/136

[28] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/ 328؛ «الإصابة» لابن حجر 4/202-210؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 1/345-346

[29] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/202-210

[30] مسلم، فضائل الصحابة، 158؛ «المسند» للإمام أحمد 2/320؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/328

[31] «المستدرك» للحاكم 3/508

[32] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/329-330

[33] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 159؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/330

[34] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/378؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/118

[35] البخاري، الاعتصام، 16؛  الترمذي، الزهد، 39

[36] استقرأتك: أي أطلب "قِراك" أي أن تستضيفني عندك

[37] البخاري، الأطعمة، 32؛  فضائل أصحاب النبي، 10

[38] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160

[39] ذلك لأن ضريح هذا الصحابي الجليل موجود في إسطنبول. (المترجم)

[40] «المستدرك» للحاكم 3/512؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/117

[41] «الإصابة» لابن حجر 4/205؛ «تهذيب التهذيب» لابن حجر 12/289-290

[42] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/335-336؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 6/321؛ «الإصابة» لابن حجر 4/210

[43] البخاري، الأذان، 95؛ مسلم، الصلاة، 158-160، الزهد، 12

[44] الحُبْلة: ثمر السمر يشبه اللوبياء. (المترجم)

[45] أي توبخني.

[46] البخاري، فضائل الصحابة، 15، الرقاق، 17؛ مسلم، الزهد، 12؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 2/366

[47] نقلاً عن «رجال حول الرسول» لخالد محمد خالد  ص128

[48] «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة  ص43، 44

[49] البخاري، الفتن، 9؛ مسلم، الفتن، 10

[50] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/116

[51] البخاري، الفتن، 3؛ مسلم، الفتن، 74؛ «المسند» للإمام أحمد 2/288

[52] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/122

[53] أسبّح: أي أصلي نافلة.

[54] البخاري، المناقب، 23؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160

[55] «المستدرك» للحاكم 3/509-510

[56] البخاري، الوضوء، 10؛ مسلم، فضائل الصحابة 138؛ «المسند» للإمام أحمد 1/266

[57] انظر: «المستدرك» للحاكم 3/537؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 3/291

[58] «سير أعلام النبلاء» للذهبي 3/333، 336، 351؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/332-333

[59] «شرح الكامل» للمرصفي 7/165-166

[60] البخاري، تفسير سورة (110) 3؛  الترمذي، تفسير سورة (110) 1

[61] «الإصابة» لابن حجر 2/332

[62] «المستدرك» للحاكم 3/543-544؛  «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/285

[63] «المسند» للإمام أحمد 2/131

[64] البخاري، الأشربة، 26؛ مسلم، الأشربة، 122، 123

[65] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/373-374؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/102-103

[66] البخاري، المغازي، 6؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/143

[67] «وفيات الأعيان» لابن خلكان 3/30

[68] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/344؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/159

[69] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/344؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/187

[70] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/385؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/150

[71] البخاري، المناقب، 27؛ مسلم، فضائل الصحابة، 110؛ الترمذي، المناقب، 37

[72] البخاري، فضائل الصحابة، 27؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/153

[73] ابن ماجه، المقدمة، 11؛ «المسند» للإمام أحمد 1/7؛ «المستدرك» للحاكم 3/318

[74] البخاري، تفسير سورة (4) 9؛ مسلم، صلاة المسافرين، 247؛ الترمذي، تفسيرسورة (4) 11

[75] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/155

[76] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/157

[77] «عقود الجواهر المنيفة» للزبيدي 1/102

[78] «البداية والنهاية» لابن كثير 7/183

[79] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/100؛ «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري ص116؛ «كشف الخفاء» للعجلوني 1/374؛ «الفوائد المجموعة» للشوكاني ص399؛ «الفردوس» للديلمي 2/165

[80] «أسد الغابة» لابن الأثير 2/365؛  «الإصابة» لابن حجر 2/35

[81] الترمذي، تفسير سورة (3) 18؛  ابن ماجه، المقدمة، 13، الجهاد، 16

[82] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/65

[83] «أسد الغابة» لابن الأثير 1/307

[84] «الإصابة» لابن حجر 1/213

[85] البخاري، الأدب، 39؛  مسلم، الفضائل، 51؛ «الإصابة» لابن حجر 1/71؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 1/152