(ب) التابعون العظام

مثلما ذكر القرآن الكريم الصحابة، ذكر التابعين أيضاً. فمثلاً نقرأ الآية الآتية: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 100).

تتناول هذه الآية الصحابة والتابعين، وتقول عنهم إن الله رضي عنهم وأنهم رضوا عنه. والرضا عن الله يأتي بمعنى أنه سواء أجاء من الله ضر أو نفع لهم فهم يتقبلون كل شيء عن الله تعالى برضاء كامل وتقبل تام. أي أن سلوكهم وتصرفاتهم لا تتبدل إن أعطاهم الله ملك الدنيا أو سحب هذا الملك منهم. لا يغترون إن ربحوا الدنيا وكسبوها ولايركبهم الهم والغم إن أصابتهم الخسارة والبلايا، بل يبقون على خط الاستقامة على الدوام ويستقبلون جميع المصائب وكأنها عطايا وألطاف. فالله تعالى يرضى عن أمثال هؤلاء الذين يرضون بكل ما يأتيهم من الله. لذا، يمكن القول بأن مؤشر رضا الله أو عدم رضاه عن شخص ما هو مدى رضا ذلك الشخص عن الله، فبدرجة رضا الشخص عن الله وحبه له يكون رضا الله عنه وحبه له بل يكون أكثر رضا وأكبر حباً. لذا، حاول التابعون الكرام التشبه بالصحابة الكرام الذين انصبغوا بالصبغة المحمدية، ومحاولة اللحاق بهم في عمق علاقتهم بالله تعالى وفي عمق خشوعهم في الصلاة حيث ترتعد أبدانهم وتصفر وجوههم عندما يقفون للصلاة.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني.»[1] والآية السابقة تذكر أن التابعين تبعوا الصحابة الكرام بإحسان. فما معنى الإحسان؟ وما معنى الاتباع بإحسان؟

من معاني الإحسان أن تعتبر الآخرين مثلك، فتشاركهم وجدانياً في أفراحهم وفي آلامهم، وأن تحمل في قلبك النية الصافية والنية الحسنة، وألا تحمل في قلبك أي غل أو حقد على مؤمن، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 10).

والمعنى الآخر للإحسان هو: «أن تَعْبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنّه يراك.»[2] أي أن تقوم بوظيفة عبوديتك لله وكأنك تراه، ثم يسري شعور في كيانك بأنك إن لم تكن تراه فإنه يراك ويراقب أعمالك. وإشارة القرآن الكريم إلى أن التابعين اتبعوا الصحابة بإحسان لها دلالات ومعانٍ كثيرة، ذلك لأن الفضيلة المطلقة مع كونها تعود إلى الصحابة الكرام إلا أن بعض التابعين قد يصلون في بعض الفضائل الخاصة إلى مرتبة الصحابة بل حتى قد يفوقونهم في بعض الفضائل كما قلنا وليس في كلها، وذلك على قاعدة "رجحان المرجوح على الأرجح"، وذلك لإن الله تعالى هز الناس في عهد التابعين بفتن كبيرة هزاً عنيفاً، وانتشرت نار هذه الفتن داخل كل دار تقريباً. وقام اليهود آنذاك -كما هو ديدنهم في كل عهد- بوضع المؤامرات وتأجيج نار الفتنة، ولم يملك أصحاب القلوب النظيفة والضمائر الطاهرة أمام هذه الفتن إلا الالتجاء إلى الله تعالى وترديد قوله: ﴿رَبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلنَا وَإلَيكَ أَنَبنَا وَإلَيكَ الْمَصِيرُ﴾ (الممتحنة: 4). حتى ظهر من بين هؤلاء التابعين العظام من كان يصلي في اليوم ألف ركعة ومن كان يختم القرآن في أربعة أيام، بل من يختم القرآن في ركعتين في الليل، ومن لم تفته صلاة الجماعة في حياته كلها وقضى حياته في العبادة.

ثم إن الجهاد بالسيف قلّ في عهد التابعين وأغمدت السيوف في أغمادها، وبدأ عهد "الجهاد الأكبر" وهو جهاد النفس الأمّارة للانتقال منها إلى مرتبة النفس اللوّامة ومنها إلى النفس الراضية ثم إلى النفس الـمَرضيّة ومنها إلى النفس المطمئنة ثم إلى النفس الصافية لكي ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ﴾ (البينة: 8).

كان هذا هو ساحة كفاح التابعين وجهادهم إلى درجة أن مسروقاً عندما حج لم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع.[3] وعندما مرض قيل له: لو أنك قصرت عن بعض ما تصنع من العبادة، قال: "والله لو أتاني آتٍ فأخبرني أن الله لا يعذبني لاجتهدت في العبادة."[4] قال هذا لأن سيده الرسول صلى الله عليه وسلم قال الشيء نفسه لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً؟.»[5]

كان الصحابة الكرام يطلبون من السلطان المعنوي لليَمَن "أُوَيْس القَرْنِي" -الذي يُعد أكبر التابعين وأعظمهم- الدعاء لهم. ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مرة في مجلس حضره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً: «إن خير التابعين رجل يقال له أُوَيْس. وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم.»[6]

وقد تغلغل هذا الحديث في نفس عمر رضي الله عنه إلى درجة أنه كان إذا أتى عليه أمداد[7] أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أُويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مُرادٍ ثم من قَرَن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أُوَيْس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قَرْن. كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعلْ.» فاستغْفِرْ لي. فاستغفَرَ له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غَبْراء الناس[8] أحب إليّ. إذن، فصحابي كبير مثل عمر رضي الله عنه -الذي كان من المستحيل الوصول إلى كعبه في بعض الفضائل لأنه صحابي، والصحابة يأتون بعد الأنبياء- يطلب من أويس القرني الدعاء له. وكان يوصي من يذهب إلى اليمن أو إلى الحج أن يبحثوا عن أويس ويطلبوا منه الدعاء لهم. وقد انـزعج أويس من شهرته هذه، لذا نراه سرعان ما يُفقد أثره ويختفي عن الأنظار بعد أن أفشى لعمر رضي الله عنه السر الذي بينه وبين الله.[9] اختفى عن الأنظار لأن "الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل."

هؤلاء التابعون العظام البعيدون كل البعد عن كل كذب، والمخلصون أشد الأخلاص، والذين بلغوا في الأمانة والاستقامة مرتبة عالية لا تدانى أمثال أويس القرني ومسروق وابن سيرين ومحمد بن المنكدر.. هؤلاء هم الذين نقلوا السنة إلينا.

كان محمد بن المنكدر -الذي راجعه كل إمام من أئمة الحديث- من الأواهين المنيبين، وكان يعرف في عصره وفي العصور التالية من بعده بلقب البَكّاء لكثرة بكائه من مخافة الله ومهابته، وكان الناس يعجبون لبكائه.. لماذا يبكي هذا الرجل الذي لم يشـاهد أنه اقترف أي ذنب في حيـاته؟

ولكن كانت عنده في الحقيقة أمور كثيرة تستوجب البكاء: مخافة الله ومهابته، عجز العبد وفقره وضآلته أمام عظمة خالقه، وجود يوم يحاسب فيه الإنسان على ما قدمت يداه، حقيقة وجود الحشر حيث تتطاير فيه الصحف، واضطرار الإنسان للسير على الصراط فوق ألسنة نار جهنم. أجل، كان يبكي من هذا.. كان وكأنه داود عليه السلام الثاني يُسمع الإنسانية أنينه وبكاءه.

عندما حضرته الوفاة جزع جزعاً كبيراً فسألوه عن سبب جزعه فقال: "أخشى آية من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: ﴿وَبَدا لَهُم مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ (الزمر: 47) وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب."[10]

كان سعيد بن جبير من تلاميذ ابن عباس.. وقد وقف مع عبد الرحمن الكندي ضد ظلم الأمويين واستشهد على يد الحَجّاج بن يوسف الثقفي الظالم. لم ينحن أبداً أمام الباطل، لأنه كان شخصاً ربانياً لا يهمه سوى الدار الآخرة، لذا وقف بكل جرأة في وجه الحكام الأمويين يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر دون خوف أو وجل. كان راهباً في الليل فارساً في النهار، درس القرآن الكريم وتعلم المقاصد الإلهية من ابن عباس رضي الله عنه حبر الأمة الذي نقل إليه فهم المرشد الأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاني القرآن الكريم.

وعندما أمر الحَجّاج بن يوسف بإحضاره قام سعيد بن جبير مع رجال الحجاج حتى انتهوا إلى صومعة راهب في غاب. فقال لهم راهب الصومعة: يا معشر الفرسان اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعَجِّلوا الدخول قبل المساء. ففعلوا ذلك وأبى سعيد أن يدخل الدير. فقالوا: ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا. قال: لا، ولكن لا أدخل منـزل مشرك أبدا. قالوا: فإنا لا ندعك، فإن السباع تقتلك. ققال سعيد: لا ضير إن معي ربي فيصرفها عني ويجعلها حرسا حولي يحرسونني من كل سوء إن شاء الله.

فدخلوا وتركوه في الخارج فإذا بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد تحاكت به وتمسحت به ثم ربضت قريبا منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك وأصبحوا نـزل إليه فسأله عن شرائع دينه وسنن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ففسرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه، وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه، ويقبّلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل ليصلوا عليه، فقالوا: يا سعيد، قد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. قالوا: امضوا لأمركم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه.

فقالوا بجماعتهم: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك ولم نسرح إليك، الويل لنا ويلا طويلا، كيف ابتلينا بك؟ اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر العدل الذي لا يجور. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة والكلام فيما بينهم قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد لما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقى مثلك أبدا ولا نرى أنا نلتقي إلى يوم القيامة. ففعل ذلك سعيد بن جبير.

فجاءوا به إلى الحجاج فقال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: أنت الشقي بن كُسَيْر؟ قال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك. قال: شقيتَ وأمَّك. قال: الغيب يعلمه غيرك. قال: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. فقال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة إمام الهدى عليه الصلاة والسلام. قال: فما قولك في عليّ في الجنة هو أو في النار؟ قال: لو دخلتُها فرأيت أهلها عرفت من فيها. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل. قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي. قال: فأيهم أرضا للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: أبَيْتَ أن تصدقني. قال: إني لم أحب أن أكذبك. قال: فما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار. قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب.

ثم أمر الحَجّاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يدي سعيد بن جبير. فقال له سعيد: إن كنت جمعت هذه لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.

ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد ببن جبير. فقال: ما يبكيك؟ هو اللهو. قال سعيد: بل هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوما عظيما يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها معاء الشاء يبعث بها معك يوم القيامة. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار. فقال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك؟ ققال: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة. قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر. قال: اذهبوا به فاقتلوه.

فلما خرج من الباب ضحك فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده، فقال ما أضحكك؟ قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك. فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه فقال سعيد: ﴿وَجَّهْتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أنَا مِنَ الْمُشرِكِينَ﴾ (الأنعام: 79). قال: شدوا به لغير القبلة. قال سعيد: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ (البقرة: 115). قال: كبوه لوجهه. قال سعيد: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى." قال الحجاج: اذبحوه. قال سعيد: أما إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فذبح على النطع رحمه الله.[11]

عن طريق مثل هؤلاء الأبطال الفدائيين الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل قضية واحدة من قضايا السنة النبوية انتقلت إلينا السنة صافية طاهرة لا يخالطها كدر.

ويمكن عد مئات آخرين من أمثال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وأويس القرني ومسروق في هذا المجال، ولكن لما كان تناول تاريخ حياة كل عظيم من هؤلاء العظماء خارج موضوع كتابنا هذا، فإننا سنكتفي هنا بإيراد معلومات موجزة جداً عن حياة بعض الأئمة من التابعين العظام الذين اشتهروا في ساحة الحديث.

1. سعيد بن المسيب

عندما يذكر الحديث والتفسير والفقه في عهد التابعين فإن أول اسم يتبادر إلى الأذهان هو اسم سعيد بن المسيب. ولد سنة خمس عشرة للهجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عرف كبار الصحابة من أمثال عثمان وعلي وسعد بن أبي وقّاص وابن عباس وابن عمر وأبي ذر وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم.

كان رجل فكر وتأمل، وإماماً ربانياً ذا قابلية كبيرة على الحفظ، إذ لم يكن ينسى شيئاً سمعه،[12] دائم الابتسام، ولكن لم يضحك طوال حياته سوى بضع مرات فقط، عاش في خشية من مهابة الله وقضى عمره وكأنه واقف أمام ربه وخالقه. اشتهر بإيمانه وتقواه واستقامته وبعلمه ولاسيما بعلمه الواسع بالسنة واعترف له بذلك الجميع.

وكما أسس الحسن البصري مدرسته في البصرة في عهد الصحابة، كذلك ظهر سعيد بن المسيب في المدينة ووصل إلى مرتبة الإفتاء قبل سن العشرين من عمره،[13] وكان الصحابة ينظرون إليه بإعجاب وإكبار حتى قال عنه عبد الله بن عمر: "لو رأى رسولُ الله هذا لَسَرّه."[14] كان هذا هو مبلغ تقدير الصحابة له.

لم تفته صلاة الجماعة وفي الصف الأول مرة واحدة طوال خمسين سنة من عمره. إذ يقول: "ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة."[15]

هكذا كانت حساسيته وحرصه في العبادة، وكان له الحرص نفسه في اتباع السنة. فقد ورث -كغيره من التابعين- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه الشديد على الصلاة وعلى السنة وعلى صلاة الجماعة، ولم يبد أي كسل في هذه الأمور طوال حياته، فقد مرض مرة مرضاً شديداً في المدينة فأوصاه الأطباء أن يذهب إلى وادي العقيق ويبقى هناك شهراً كاملاً ليستعيد صحته فقال: فكيف أصنع بالعتمة والصبح؟[16] أي فكيف أستطيع آنذاك أن ألتحق بصلاة العشاء والصبح. وربما كان بإمكانه أداء هذه الصلوات جماعة في وادي العقيق، ولكن ذلك كان يعني حرمانه من الصلاة في الروضة الطاهرة وجفاء لساكنيها الأطهار ولساكني جنة البقيع.[17]

كان هشام بن إسماعيل والي المدينة في عهد الخليفة الوليد، فطلب منه مبايعة الخليفة الأموي فرفض ذلك، فضربه هشام ستين سوطاً وسجنه. وقد نصحه الكثير من أئمة التابعين الكبار أمثال مسروق وطاووس وطلبوا منه أن يبايعه بلسانه فقط، فأبى وقال كيف أصنع والناس ينظرون إلينا ويقلدوننا.[18]

تزوج بنتَ أبي هريرة رضي الله عنه لكي يكون أكثر قرباً من منبع الحديث وأكثر فهماً له. وقد خطب الخليفةُ الأموي عبد الملك بن مروان بنته لابنه هشام، أي أن حاكماً قوياً يحكم دولة سعتها أكثر من سعة تركيا الحالية بـ20-31 ضعفاً كان يريد خطبة ابنته إلى ولده الذي سيحكم هذه الدولة المترامية الأطراف. ولكنه رد هذا الطلب ولم يقبله على الرغم من جميع الضغوط. وعندما زادت الضغوط عليه أخذ بنته ذات ليلة وذهب إلى أحد طلابه الفقراء وهو ابن أبي وداعة -وكان ينام في المسجد- وطلب منه أن يتزوجها.[19]

كان هذا الإمام الكبير بعمله هذا أسوة لإمام كبير جاء بعده بعدة قرون وهو بهاء الدين النقشبندي الذي ما أن بلغت ابنته حتى أخذ بيدها وجاء بها صباحاً إلى تكيته ووجد أن الطالب الوحيد الذي أحيا ليلته هو علاء الدين العَطّار فزوجه منها.

وقد روى عن سعيد بن المسيب أئمة كبار أمثال عطاء بن أبي رباح وقتادة ومحمد الباقر -وهو من أحفاد علي رضي الله عنه- ويحيى بن سعيد الأنصاري والزهري. وكان الإمام الشافعي يعد أحاديثه المرسلة -أي الأحاديث التي لم يذكر اسم الصحابي الذي أخذ منه- حجة،[20] أي كأنه عدّه من الصحابة. هذه هي درجة الثقة والاطمئنان الذي كان يتمتع بها سعيد بن المسيب.

إذن، فقد انتقلت إلينا أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله المباركة عن طريق هذه القنوات الطاهرة، وصلت إلينا السنة المباركة عن طريق أمثال هؤلاء الناس الأمناء الذين كانوا على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل حديث واحد.. هذه السنة المباركة ستنتقل من جيل إلى آخر حتى يوم القيامة إن شاء الله.

2. علقمة بن قيس النخعي

عندما تذكر البصرة يرد إلى الذهن الحسن البصري، وعندما تذكر مكة يرد إلى الذهن اسم عطاء بن أبي رباح، وعند ذكر اليمن اسم طاووس بن كيسان، وعند ذكر المدينة اسم سعيد بن المسيب، وعند ذكر الكوفة يرد إلى الذهن اسم علقمة بن قيس النخعي. فهؤلاء هم الأئمة العظام للتابعين الذين كانوا خير خلف للصحابة الكرام.

وعلقمة رضي الله عنه يعد من كبار أئمة الحديث إذ روى الحديث عن مئات من الصحابة الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون. وعاش قريباً من ابن مسعود رضي الله عنه، كما تلقى العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

كان تواضعه متناسباً مع درجة عظمته وسبقه لمعاصريه. وقُدِّر له أن يؤسس مدرسة الكوفة التي كان أبو حنيفة أحد خريجيها، لذا روى عنه جميع أئمة التابعين الذين ظهروا في الكوفة وعلى رأسهم عمرو بن شرحبيل الذي التقى بالعديد من الصحابة الكرام، وكان يقول لمن حوله أحياناً: "انطلقوا بنا إلى أشبه الناس هَدْياً وسَمْتاً بعبد الله بن مسعود."[21] أجل، لقد كان علقمة أشبه الناس سلوكاً بعبد الله بن مسعود الذي كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودَلّه وسَمْته.[22]

كان ابن مسعود رجلاً نحيفاً، ولكنه كان في صلاته وسجوده أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان علقمة أشبه الناس بابن مسعود، إذ كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرؤوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به- وسالم مولى أبي حُذيفة وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل»[23] كذلك كان عبد الله بن مسعود يستقرأ علقمة القرآن ويقول له: اقرأ فداك أبي وأمي.[24]

وكان الإمام الكبير أبو حنيفة الذي ذاع صيت تقواه وزهده معجباً بعلقمة، ويقول عنه بأنه قد سبق بعض الصحابة في الفقه وفي علم الحديث. وهذا ليس رأينا بل هو رأي إمام كبير مثل الإمام أبي حنيفة الذي يصعب بلوغ كعبه. ولقد شتمه أحدهم مرة شتماً قبيحاً، فالعهد آنذاك كان عهد فتنة وابتلاء فاستمع إليه علقمة بهدوء ولم يزد في الجواب عليه إلا قراءة الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ (الأحزاب: 58). قيل له مرة: أمؤمن أنت يا أبا شبل؟ قال: أرجو.[25]

وقف أمام جميع أنواع الباطل في عهده، ولم يمالئ حكام الأمويين الظالمين، بل حافظ على كرامة الحديث، بل صرف حياته على تنشِئة طلابه في الكوفة من أمثال الأسود بن يزيد النخعي وإبراهيم النخعي وحمّاد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة واستاذه، وعشرات غيرهم. فكما تلقى الحديث عن مئات من الصحابة كذلك روى عنه الحديث المئات من التابعين. لذا، فهو يعد منشئ مدرسة الكوفة التي خرجت أئمة وعلماء عظماء أمثال النخعي والثوري وأبي حنيفة.

3. عروة بن الزبير بن العَوّام

كان والده الزبير بن العَوّام ابن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتخر بها.[26] وكان من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العشرة المبشرين بالجنة. أما والدته فهي أسماء أخت السيدة عائشة رضي الله عنها وابنة أبي بكر رضي الله عنه، فكان عروة سليل مثل هذه العائلة الكريمة، فكما كانت أمه تقضي معظم وقتها مع أختها عائشة رضي الله عنها كذلك نشأ عروة في حجر خالته وتعلم منها معنى كل آية ومعنى كل حديث يستفسر منها عنه حتى أصبح مستودع علم. كما استفاد من علم سعيد بن المسيب الذي كان يكبره بـسبع أو ثماني سنوات.

ويعد عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة في عهده. وكل الأحاديث التي روتها أمنا عائشة رضي الله عنها جاءت إلينا عن طريقه، كما روى الحديث عن كثير من الصحابة الكرام أمثال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. كما أخذ عنه مئات من التابعين أمثال قتادة بن دِعامة وابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وزيد بن أسلم.

كان عروة -مثله في ذلك مثل غيره من كبار الأئمة- تقياًّ ورعاً وزاهداً من مشاهير الزهاد. كان ربانياًّ بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وعندما تقدم به العمر أصيبت أحدى ساقيه بداء الأكَلَة فلم يجد الأطباء أمامهم سبيلاً سوى التوصية بقطعها، فتردد عروة، ولكن العلة انتشرت فلم يجد بداًّ من الرضا بقطعها، وعندما بدأوا بقطع رجله بالمنشار لم يتأوه أبداً بل أكتفى بترديد ما قاله موسى عليه السلام في سفره للقاء الخضر عليه السلام: ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ (الكهف: 62). ثم دعا بقدمه التي قطعت فقلّبها في يده ثمَّ قال: "أما والذي حملني عليكِ إنَّه لَيعلمُ أنِّي ما مَشيتُ بكِ إلى حَرَامٍ أوْ معصيةٍ."[27]

ودخل ابن له الإسطبل يوماً فرفسته دابة فقتلته، فلما سمع عروة بالنبأ قال: "اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فلك الحمد. وكان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وايم الله لئن أخذت فقد أبقيت ولئن أبليت طالما عافيت."[28] كان عروة حلقة ذهبية من تلك السلسلة الذهبية التي رضي الله عنهم وأرضاهم.

4. محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

كان ابن شهاب الزهري الذي يرجع إليه ربع السنة قرشياً وكان من أصغر التابعين سناً. خاصم والده مسلم الأمويين ووقف في وجه الحَجّاج، لذا كرهه الأمويون. لذا، فلم يكن ابن شهاب الزهري من أنصار الأمويين كما ادعى البعض، بل كان شخصاً يرتاب فيه الأمويون ويتوجسون منه خيفة.

حفظ الزهري القرآن الكريم قبل أن يبلغ السابعة من عمره.. أتدرون في كم يوم حفظه؟ لقد حفظه في ثمانية أيام فقط! وفي سن 17-18 من عمره بلغ مرتبة الاجتهاد والفتوى. وكان مفرط الذكاء حتى أنه قال: "ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته."[29] لم ينس شيئاً مما تعلمه، ذلك لأن عهده كان عهد تعليم بكل ظروفه وشروطه. إذ حضر في البداية حلقة تدريس سعيد بن المسيب مدة ثمانية أعوام. كما أخذ دروساً من عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة الذي كان أحد ثلاثة ممن ربوا عمر بن عبد العزيز كما كان يُعد أحد الفقهاء السبعة المشهورين آنذاك. وقال عن نفسه: "مكثت خمساً وأربعين سنة أختلف من الحجاز إلى الشام ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثاً أستطرفه."[30]

كان في استطاعته طبعاً في ظرف هذه السنوات الطويلة (45 سنة) أن يحفظ من الأحاديث ومن العلم ما يزيد على حجم القرآن الكريم بعشر مرات، وليس ما روى من الأحاديث التي بلغ حجمها حجم قرآن ونصف فقط، علماً بأن الزهري كان قد وهب نفسه للحديث.

وقد وصمه البعض بمداهنة الأمويين، وليس هذا صحيحاً إذ لم يعرف المداهنة، ولم يعرف أبوه مسلم بن عبيد الله المداهنة أيضاً لأنه كان امرءاً أسلم أمره إلى الله تماماً، ووقف بجانب عبد الله بن الزبير مجاهداً الأمويين. وعندما التقى الخليفة عبد الملك بن مروان مع الزهري لأول مرة أشار إلى موقف والده وعاتبه.

صحيح أنه بقي فترة في قصور الأمويين إذ قام بتربية أولاد هشام وتعليمهم، ولم يكن هذا خطأ بل كان خطوة مهمة في سبيل إرشاد هؤلاء الأبناء -الذين سيمسكون بزمام الدولة في المستقبل- إلى الصراط المستقيم وإلى السنة النبوية، وكان هذا من أهم الخدمات التي قدمها الإمام الزهري فأصبح أسوة وقدوة لمن يأتي بعده.

كان الأمويون يشنعون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى أنهم أوّلوا الآية التي نـزلت لتبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها من حديث الإفك وهي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم مَا اكْتَسَبَ مِنَ اْلإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور: 11).

أوّلوا هذه الآية فقالوا إن المقصود من "الذي تولى كبره" هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن الزهري عارض هذا التفسير ولم يرض عن هذا البهتان في حق علي رضي الله عنه. لنقرأ الحادثة بلسان الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك فتلا هذه الآية: ﴿وَالَّذِي تَوَلّى كِبَرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيم﴾ قال: نـزلت في علي بن أبي طالب. قال الزهري: أصلح الله الأمير، ليس كذا أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها، قال: وكيف أخبرك؟ قال: أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها نـزلت في عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول المنافق.[31] وعندما رأى أن الأمير قد احتد في كلامه وبدأ ينظر إليه شزراً قال: "لا أبا لك فواللهِ لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت."[32] أجل، إن الشخص المقصود في الآية الكريمة هو عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول المنافق وليس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

أجل، لم يكن الزهري مداهنا للأمويين على الإطلاق، بل يعد الشخص الذي أدخل حب آل البيت إلى قصر الأمويين. والأمر واضح تماماً، فكما كان أحد علماء الشيعة وهو أبو جعفر الأسكافي أول من اتهم أبا هريرة بالكذب، كذلك كان اليعقوبي -وهو أحد مؤرخي الشيعة- أول من اتّهم الزهري بوضع الحديث. إذ زعم أن عبد الملك بن مروان أراد أن يمنع المسلمين من الطواف حول الكعبة فقام بتعمير المسجد الأقصى في القُدس ورجا من الزهري أن يختلق له حديثاً في هذا الموضوع، فقام الزهري باختلاق الحديث التالي الذي ورد في كتب الحديث الصحاح أمثال صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند بن حنبل: «لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا.»[33]

أليس هذا الادعاء مدعاة للسخرية بشكل واضح؟ إذ لا يوجد لا في تاريخ اليهود ولا في تاريخ النصارى أن المسجد الأقصى كان يطاف حوله مثل المسجد الحرام، ولا يوجد أي نص حول هذا. ثم إن المسجد الأقصى كان مقدساً لدى المسلمين منذ البداية، وقد صرح القرآن الكريم بأن المسجد الأقصى وما حوله مبارك، لذا فلم يكن عبد الملك هو الشخص الوحيد الذي قام بتعميره، بل نرى النبي داود عليه السلام والنبي سليمان عليه السلام وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ونور الدين الزنكي وصلاح الدين الأيوبي من بين الذين قاموا بتعميره وتجديده. ثم إن الإمام الزهري لم يقابل الخليفة عبد الملك عندما رأى الحديث ولم يلتق به، لأن والده كان يحارب عبد الملك بجانب عبد الله بن الزبير، لذا لم يكن من المعقول ولا من المنتظر أن يفارق الزهري أباه ويلتحق بعبد الملك. ثم إن هذه الفرية لم ترد إلا في كتاب اليعقوبي، وهذا أمر مهم يجلب الانتباه، إذ لم يكن من الممكن أن تبقى هذه الحادثة سراًّ في عهد التابعين، أي في عهد كان هناك آلاف من الرجال مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل أصغر مسألة من مسائل السنة النبوية.

هناك أمر آخر في هذا الموضوع وهو أن عبد الملك لم يكن إنساناً ساذجاً إلى حد تقديم مثل هذا الاقتراح الغريب. فقبل خلافته كان عالماً من علماء الحديث في مكة المكرمة، ولا يخطر بباله اقتراف أي حرام، وكان يعرف أئمة الحديث من التابعين، ولكنه لم يستطع المحافظة على حساسيته هذه بعد تنصيبه خليفة. أما الإمام الزهري فقد كان لا يزال طفلاً في حجر والدته في تلك الفترة.

وقد تلقف المستشرق "غولتسهر (Goldziher)" فرية اليعقوبي هذه واستغلها واستعملها مع الأسف، وسرت هذه التهمة إلى بعض الكتاب المسلمين ممن انذهلوا أمام الغرب وانبهروا به أمثال أحمد أمين وعلي حسن عبد القادر وأبي ريّة، وقد فضل المستشرقون أمثال جولد تسهير وغيره نبذ الكتب التي تعد المنابع والمصادر الرئيسة للحديث ولعلم الحديث وتوجهوا إلى كتب أدبية ماجنة أمثال "العِقد الفريد" و"الأغاني" مع أن أسماء هذه الكتب تغني عن كل تعليق. وكانت غايتهم من تلويث سمعة أبي هريرة وابن شهاب الزهري وغيرهما من أعمدة الحديث وحاملي لوائه هدم السنة وبالتالي هدم ركن مهم في الإسلام، لذا نعد من تابع هؤلاء المستشرقين قديماً ومن يتابعهم حالياً في هذا الموضوع أشخاصاً يخدمون هذه الغاية سواء عن علم وتصميم أو عن جهل وانخداع.

كان الزهري إماماً كبيراً من أئمة الحديث، وقد أجمع علماء الحديث العظام الذين جاءوا من بعده على هذا من أمثال ابن المديني وابن حِبّان وابن أبي حاتم والحافظ الذهبي وابن حجر. وبعد وفاة هذا الإمام الكبير وجد علماء المعتزلة أمثال النظّام -الذين خلطوا عقيدتهم في التوحيد ببعض الفلسفات المادية- الساحة فارغة أمامهم فجالوا فيها وصالوا. وعندما قام جولدتسهير وأمثاله من المستشرقين بالاستناد إلى أفكار النظّام وكتب تلميذه الجاحظ مثل "كتاب الحيوان" فقد أثبتوا أنهم لا يدركون طريقة البحث العلمي الجاد والرزين.

أخذ الإمام الزهري الحديث عن عشرات من الصحابة، وأخذ عنه الحديث المئات من أعلام التابعين وتابعي التابعين، وقام بطلب من الخليفة عمر بن عبد العزيز بأول تدوين رسمي للحديث، فنال هذا الشرف الكبير قبل ارتحاله إلى الدار الآخرة.

وأنا أفضل أن أختم الموضوع هنا، وإلا فقد كان في استطاعتنا التحدث عن كثير من عظماء التابعين من أمثال القاسم بن محمد بن شقيق أمنا عائشة رضي الله عنها والذي يعد أحد الفقهاء السبعة ورأس السلسلة النقشبندية، وعن نافع شيخ الإمام مالك الذي ولد من مرجانة جارية بن عمر الذي عندما سمع آية ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92)، قال: فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فلم أجد شيئاً أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية إذ أعتقها وزوجها.[34] والتحدث عن طاووس بن كيسان الذي صلى صلاة الصبح أربعين عاماً بوضوء صلاة العشاء،[35] وعن الأسود بن يزيد النخعي وعن الإمام أبي حنيفة الذي يروى أنه قابل بعض الصحابة[36] وعن غيرهم.. كان بإمكاننا تناول هؤلاء بالبحث لولا أننا رأينا أن ما ذكرناه يكفي من ناحية الموضوع الذي تناولناه.

الهوامش

[1] «المسند» للإمام أحمد 3/71، 5/248، 257؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/20؛ «المطالب العالية» لابن حجر 4/156؛ «المستدرك» للحاكم 4/86

[2] البخاري، تفسير سورة (31) 2؛ مسلم، الإيمان، 5-7؛  أبو داود، السنة، 16

[3] «حلية الأولياء» لابي نعيم 2/95؛ «صفة الصفوة» لابن الجوزي 2/14

[4] «صفة الصفوة» لابن الجوزي 2/14

[5] البخاري، تفسير سورة (48) 2؛ مسلم، صفات المنافقين، 79-81

[6] مسلم، فضائل الصحابة، 223-224؛ «المسند» للإمام أحمد 1/38، 39

[7] الأمداد: هم الجماعة الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو.

[8] أي ضعافهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه بهم.

[9] مسلم، فضائل الصحابة، 225

[10] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 3/146

[11] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 4/291-295؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 9/116-117

[12] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 5/121

[13] «سير أعلام النبلاء» للذهبي 4/222-224؛ «الطبقات الكبرى» لان سعد 5/121

[14] «وفيات الأعيان» لابن خلكان 2/375؛ «السنة قبل التدوين» لمحمد عجاج الخطيب  ص485

[15] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/163

[16] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 5/132؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/162

[17] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/172

[18] «طبقات الكبرى» لابن سعد 5/126

[19] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 5/138؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 4/234

[20] انظر: «المراسيل» لأبي داود  ص30؛ «علوم الحديث» لابن الصلاح  ص53-54

[21] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 6/86؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/98

[22] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 6/86

[23] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 27؛ مسلم، فضائل الصحابة، 118

[24] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 6/90؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/99

[25] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 6/86؛  «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/100

[26] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 13

[27] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/178

[28] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 2/179

[29] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 3/364؛  «تذكرة الحفاظ» للذهبي 1/109

[30] «البداية والنهاية» لابن كثير 9/375

[31] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 3/369؛ «مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر» لابن منظور 23/240

[32] «مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر» لابن منظور 23/240

[33] البخاري، الصوم، 67؛ مسلم، الحج، 511

[34] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/326

[35] أي أنه بقي أربعين سنة يتعبد في الليل بدءاً من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر. (المترجم) وانظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي 5/42

[36] «سير أعلام النبلاء» للذهبي 6/391؛  «وفيات الأعيان» لابن خلكان 5/406