الفصل الرابع: الفطنة

الفطنة هي تجاوز العقل بالعقل، وقد بينا سلفا أننا يمكن أن نقول إنها منطق النبوة؛ وهذا المنطق هو النظر إلى الأشياء والحوادث من خلال منظار قد جمع بين الروح والقلب والحس وسائر اللطائف الإنسانية.

إن الفطنة ليست عقلاً ومنطقاً جافّاً فحسب، بل إن إضافة الإسلام إلى العقل والمنطق فحسب والقول بأن "الإسلام دين العقل" أو "دين المنطق"، ليس فقط جهلاً بالإسلام، بل يعد الخطوة الأولى لتحريف كبير. كلاّ! ليس الإسلام دين العقل أو المنطق فحسب كما يدعون... بل إنه دين الوحي الالهي.

وإنّ عدم تناقض المسائل الإسلامية مع العقل والمنطق يعود إلى كون الإسلام آتياً من العلم الإلهي المحيط بكل شيء، ومفسَّراً بالمنطق النبوي الشامل بما يليق بمصدره السماوي، أي أنه إلهام نبوي ومنطق نبوي. هذا المنطق الذي له قدرة على تلقي الوحي الإلهي والذي ينفتح للحس والقلب والعقل والفسلفة التي تأتي بمعنى اللطائف والحكم... أي أنه منطق فوق المنطق العادي، لذا نستطيع أن نسميه بـ"الفطنة العظمى".

إن كل وحي إلهي يجب أن ينعكس ضمن هذا المنطق. فهو حاجة وضرورة في الوقت نفسه. غير أن هذه الحاجة حاجة إنسانية فقط، ذلك لأن الوحي الإلهي إن لم يمر من المنطق النبوي ويعيَّر فيه وينظَّم -كما يعيَّر التيار الكهربائي ذو الضغط العالي، أو يتم تبديل التيار المتقطع إلى تيار دائم- ووصل إلى البشرية مباشرة لانصعقت منه ولاحترقت أمام هذا الوحي الإلهي. مثلما يحترق كل شيء إنْ رفع الله تعالى الحجب والأستار عن وجهه.[1]

أجل، إن فطنة الأنبياء تقوم بوظيفة الغلاف الجوي إزاء شهب الوحي الحارقة وهذا هو ما نطلق عليه اسم "الدين". أي التنـزلات الإلهية التي تنـزل إلى مستوى الإدراك البشري؛ والمنطق النبوي أي الفطنة النبوية هي التي تقوم بهذه المهمة. لذا، كان وجود الفطنة لدى كل نبي أمراً ضرورياً. ومن الخطأ أن نصف هذا المنطق بكلمة "العبقرية"، لأن منطق الأنبياء فوق كل منطق، ويسمى "الفطنة".

ولو لم توجد الفطنة لدى الأنبياء لما كان بإمكانهم الإجابة عن كل اعتراضات أعدائهم وعن كل استفسارات وأسئلة أنصارهم وإيضاح جميع المسائل لهم. ولو عجزوا عن القيام بهذا لأدّى ذلك إلى نتيجة حتمية وهي عدم وضوح الدين وصعوبة فهمه، فلا يكون هناك معنى لفروضه. وعندما لا يكون هناك معنى لفروضه أصبح خلق الإنسان عبثاً.

ولكي لا تحصل كل هذه النتائج السلبية كان من الضروري تجهيز الأنبياء بمنطق خارق للعادة، مما مكنهم من حل جميع المشاكل والعقد والمصاعب بيسر وسهولة.

الهوامش

[1] عن أبي موسى: «حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه.» مسلم، الإيمان، 293؛ ابن ماجه، المقدمة، 13؛ «المسند» للإمام أحمد 4/401