من وحي كتاب "الموازين أو أضواء على الطريق"

يقول الأستاذ فتح الله في كتابه "الموازين" ما يأتي:

"الإنسان سائح، والكون معرض للمشاهد الملونة، ومكتبة زاخرة مطروحة لنظَره وتأمّله وسياحته. وهذا السائح أُرسِلَ إلى هذا العالم لكي يقرأ هذه الكتب، ويزيد في معرفته. هذه السياحة الممتعة لا تتيسّر للإنسان إلاّ مرة واحدة. وهذه السياحة الوحيدة تكفي بالنسبة لصاحب العقل الرشيد، والقلب اليقظان لإنشاء جَنَّاتٍ كجنَّات عدن، وكجنَّات "إرَم ذات العماد". أما بالنسبة للذين يعيشون مغمضي العيون، فلا تكون سوى لحظة عابرة تأتي ثم تمضي بسرعة"(1).

إنَّ لسان حال الأستاذ يقول:

أيها الإنسان!.. أيها المسلم!..

كيف يمكنك أن تعيش ومثل هذا الجحيم من البعد عن الله في قلبك وعقلك..؟ أعلمُ أَنَّكَ ضربتَ في الأرض كثيرًا، وَجُبْتَ الأقطار تبتغي الخلاص مِمَّا في داخلك من نيران... ولكنك لا زلتَ مريضًا خائفًا حتى من وجودك ذاته، ولا زالتْ نيران الجحيم تزداد استعارًا... جوعك الروحي يتفاقم.. عطشك لرواء الإيمان يزداد حرقةً.. مخاضات فكرك غاية في العسر...

متى تؤمن بالنظام والمعنى الكامنين في الحياة؟! متى تؤمن بالتوافق الأبيد بين الإنسان والكون والحياة؟! متى تؤمن بأنَّ الكون نفسه يمد إليك يد المعرفة والصداقة؟! متى تؤمن بأنَّ السلوك الإنساني في هذه الحياة يجب أن يكون مترعًا بالجمال والمودّة والمحبّة؟! متى تؤمن بأنَّكَ موجود بالله ولله...؟!

إِنَّ شعاعًا إلهيًّا يمكن أَنْ يسطع في روحك لو أردت ذلك... لم أَعُدْ أُطيقُ نُوَاحَكَ الحزين... اُصْحُ... أنتَ وعي غائب... افتحْ قلبك كله لتتسلّل إليه لحظة من لحظات نور الإيمان الخالد... بعض نفسك ميت، متى تلحده إلى الأبد، وتبعث الحياة في بعض نفسك الآخر..؟ عقلك مُنْهَكٌ... روحك مُتْعَبٌ... لا تركد فتفسد... أتريد صاعقة من السماء تحرق جهالاتك وضلالاتك...؟! متى تسري فيكَ حُمَّى المعرفة...؟!

أَعْلَمُ أنَّ أحاسيس نظيفة تنتابك بين مدة وأخرى... انْتبهْ... إنْ لم ترعها وتسقها من ماء القلب قتلتك قبل أنْ تقتل نفسها... لا شيء تملكه يمكن أن ينقذك مِمَّا أنت فيه...

لو كنت موجودًا حقًّا، فقل لي مَنْ أنتَ...؟ ولماذا أنت موجود...؟ لا شيء يعطيك المعنى والمغزى غير الإيمان... ولا أحد يقدر على إضاءة نفسك غير الإيمان... أتبحث عن عقيدة سياسية تنقذك من عذابك...؟ هيهات... هيهات... أنت على خطإ كبير ... إنّ الدين هو أعمق جذورًا في النفس الإنسانية من أيّة عقيدة سياسية تؤمن بها... تحرّرْ من قيود نفسك أولاً، إنْ كنت تريد الحرية... أنت ميّت تبحث عن الموت، ونحن نريد لك الحياة... أتريد للموت أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة فيك...؟! ثمَّ تُطوَى صفحتك ولم يعد أحدٌ يذكرك... أتستطيع أن تتجاهل الموت وتدير ظهرك إليه...؟! إذن ماذا أعددت له...؟ أين روحك الطاهرة لتجد مكانًا لها بين الأرواح المتجانسة المترابطة... تفصلنا عنك رغباتك الأرضية المشتعلة... متى كنت سماءً شديدة الصفاء لكي يبرق في أفقها نور الحقيقة...؟! أين ذكاؤك المتجدد...؟ إنك لن تكون الأخير على هذه الأرض لتشهد الحياة وهي تسير إلى نهايتها التي لا يمكن تجنّبها...

لا تمطر دنياك بالمزيد من اللعنات... إنها لم ترفضك... ولكن رفَضَتْ جهالاتك... ليست طبيعتك الإنسانية مريضة، بل المرض جاءك من خارج نفسك... أنت إنسان ولست رمزًا حسابيًّا في هذا الكمّ البشري الهائل... يجب أن تَعلم أنّ هناك طريقة أخرى للحياة هي أطهر وأنقى... إنّ لحظةً إيمانية واحدة تكافئ كُلّ السنوات اللاّحقيقية التي عشتَها... هل أنت مستعدّ لتبدأ الحياة من جديد...؟! حسنًا إذن... هاتِ يدك واتّبعني، ولا تلتفت وراءك...

يحزنني أن أراك ساقطًا في هوة "اللاّمعنى" وأنت تنتحب... أنت صاحب إرادة، ولكن أين الدافع...؟ إرادة بلا دافع لا تعمل... ليكن دافعك معرفة الله... عند ذلك تأتيك الإرادة راكضة لتسعفك وتعينك... ألم يَئِنِ الأوان لكي تتوقف عن الانحدار إلى عالم الظلام...؟! لماذا أنت فاتر الهمّة...؟ لماذا لا تشعل هِمَّتَكَ، وتوقد إرادتك...؟ لَمْلِمْ نفسك، ولا تكن موزَّع النفس... وحّد نفسك... فيك مئات من "الأنا" المتصارعة، وحِّدْ "أناك".

أنتَ سُؤُومٌ ملول... يسأمُ مَن لا يعمل... مَنْ لا ينشغل بالعظيم، شَغلَته الصغائر... هيَّا كنْ للخدمة مثلاً أعلى... تقدَّمْ، فإنّ باب العمل مفتوح... لا يمكن أن تكون هناك أماكن راحة لرجال الخدمة... كنْ غيورًا على وقْتك...

تحرّكي أيّتها الطَّاقة الإيمانية في الأعماق، فما زال أمامنا شوط بعيد...

* * *

هذا الكتاب عبارة عن نظرات في مختلف شؤون الفكر والحياة والمجتمع. وهو يضع أمام القارئ موازين دقيقة في مختلف هذه الشؤون، ويفتح بصره وبصيرته أمام حقائق عديدة قد يغفل عنها وهو في خضمّ هذه الحياة... وهي حقائق تمثل روح الأمة وفكرها وذاتها وماهيتها، وتحول دون ذوبان الفرد المسلم في تيارات الأفكار الواردة إلينا من الغرب أو من الشرق، وتحقق شخصيتنا واستقلال أفكارنا.

إنه يرسل نظره ليجول في شؤون الفكر والحياة والمجتمع، ثم يزن كل ذلك بموازين الحق العادلة والدقيقة التي لا إفراط فيها ولا تفريط. إنه يرسم للفكر منهاجًا، وللسلوك طريقًا، ويحرص على ألاَّ يجعلنا نسقط في هاوية الضياع، وعلى أن نكون ذوي شخصيات إسلامية مستقلة بنظرتها إلى جوهر الوجود وحقيقة الحياة.

(1) الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:35.